من تلك الأسطورة الجميلة والملهمة للإبداع.. من بابل، مروراً بعدن وحدائق الحمراء، وصولاً إلى حدائق فرساي وشانتيي، يرتفع وهج الشرق الساحر، ليترك بصمته في كل زاوية من العالَمْ.
ألف وخمسمئة شجيرة ليمون وبرتقال وأكاليل من الورود زيّنت بتناسق محكم جادة معهد العالم العربي بباريس، في خريف العام الماضي، وإليها أضيفت العروض التاريخية واللوحات النباتية والقنوات المائية التي ميّزت حدائق الشرق وأضفت عليها جاذبية وجمالاً منقطع النظير. وانطلاقاً من هذا الانصهار المتكامل بين هذه المكوّنات، اكتشف الزائر الغربي حدائق الشرق وأثرها في صياغة أهم الحدائق في الغرب، وبشكل خاص حدائق القصور الملكية الفرنسية.
تقول آنياس كرايون، المسؤولة عن المعرض والمتخصصة في تاريخ العالم العربي والإسلامي في العصور الوسطى إن نشأة الحديقة العربية والإسلامية، جاءت مصاحبة للثورات التقنية والعمرانية والفنية، بين القرنين الثامن والحادي عشر.
كان معرض معهد العالَمْ العربي “حدائق الشرق .. من بابل إلى الحمراء”، مناسبة ليستكشف زواره ومحبو فن الحدائق تلك الروائع التي كانت بداية لغرب مسكون بالجمال وبالطبيعة وهائم في رونقها. “من حدائق بابل … إلى الحمراء” شكَّل موضوعاً أبدع فيه المنظمون في نقل صور تلك الحدائق عبر العصور إلى بصيرة المثقف الغربي ومخيلته، فتميَّز المعرض بجاذبية وواقعية جسّدها تناسق الحدائق التي توزّعت على مساحة كبيرة من فناء معهد العالَم العربي.
كل ما تضمنه المعرض حول موضوع الحدائق، دار محوره حول حدائق الشرق وكيف كان لها الأثر في نشر فن كان من أرقى أشكال التعبير عن نزعة الإنسان إلى الرفاهية والأجواء الجميلة.
تقول آنياس كرايون، المسؤولة عن المعرض والمتخصصة في تاريخ العالم العربي والإسلامي في العصور الوسطى، إن نشأة الحديقة العربية والإسلامية، جاءت مصاحبة للثورات التقنية والعمرانية والفنية، بين القرنين الثامن والحادي عشر”. وأضافت في حديثها إلى القافلة: “إن العالم العربي والإسلامي، تحكّم بشكل خارق بتقنية المياه، ووظفها في إنشاء الحدائق وبنائها، ولذلك كان من الطبيعي أن يتفرد العالَمُ العربي بهذا الفن، فالشعوب التي تتقن فن بناء القنوات المائية، أياً كانت، هي التي تسيطر على هذا الكنز الثمين، ونحن نعلم أن المياه هي مصدر الحياة في هذا العالم”.
ويوضِّح المرشد غريغوار سوفاج الذي كان يصحب الزوار إلى جوانب المعرض: “إن معرض “حدائق الشرق” يتتبع مسار الحديقة العربية والإسلامية وتاريخها من خلال التحف الفنية والنماذج والوثائق التاريخية التي من شأنها نقل الزوار من بابل إلى تاج محل في الهند وصولاً إلى قصر الحمراء في غرناطة”.
فهذا المعرض الذي حمل عنوان: “حدائق الشرق .. من بابل إلى الحمراء” كعنـوان رئيس، حمل عنواناً فرعياً آخر، هو: “من الحمــراء إلى تاج محل”. ويعبِّر هذا العنــوان عن سعــة انتشــار حدائق الشرق التي ألهمت الغرب ليستوحي هذا الفن، ويخوض في إنشاء حدائق على الطراز الشرقي الجذَّاب تشكل بدورها امتداداً إضافياً للحدائق الشرقية.
فضاء لعبور الزمن نحو حضارة شرقية
لقد استجاب المعرض لنهم غربي يريد الاطلاع على فن الحدائق الشرقية، إذ تناولها من كافة جوانبها. كما تطرَّق لمصادر الإلهام في الحديقة الشرقية والرموز التي استعملت فيها وتنوّعاتها، قبل أن يخوض في البحث عن الروابط المنسوجة عبر القرون بين الغرب والشرق الذي جعل من صحاريه جنائن للرفاهية.
فعندما أنشأ الإنسان الحديقة، أراد أن يستجيب لهاجس يغالب دواخله، هاجس الراحة والطمأنينة. وأراد من خلال الحديقة أن يوفِّر مكاناً للظل والضوء، للشمس والرياح، للحلم والرفاهية. كان يغرس شجرة هنا وأخرى هناك، أزهار مجهولة الصنف، ويزاوج بين النباتات ويلاقح الأنواع ليستجيب لشكل ولون النباتـات التي صنعها خيــاله، يبتكر أصنافاً جديدة من الفاكهة، وكأنه يريد أن يستنسخ جنان الخلد الموعود بها.
لم يكن هذا النزوع مقتصراً فقط على الشرق الذي أنشأ حدائق عدن وبابل وغرناطة والإسكندرية ودمشق وغيرها من الحدائق.. ولكن هذا الشغف بالجنائن امتد إلى الغرب الذي أراد أن يستنسخ روائع بابل وعدن في حدائق قصور فرساي والتويلري وشانتيي وغيرها من حدائق فرنسا المهووسـة ببابل المعلَّقـــة، التي ألبســت قصر فرســاي حُلّة منها، وزيّنت ممرات حديقة التويلري في قلب باريس بنوافير مماثلة لنوافير دمشق.
أصل حدائق الشرق
إذا كان العصر الكلاسيكي اهتم بكثير من العقلانية بجمال حدائقه، فلربما وجد في ذلك بعداً افتقدته النصوص الأدبية وفلسفات ديكارت وبوالو، وهو الإلهام والثوابت القيمية للنفس البشرية التي وفّرتها الحدائق عبر المعمورة. فكما ظهرت الحدائق والجنائن كتحدٍّ للطبيعة في صحاري الشرق المترامي الأطراف، واستطاعت تلك الحدائق إنقاذ ما بقي من روح القرون الوسطى، واستحضار عصر الرومانسية الشعرية وما قبل الرومانسية.
ما تزال حدائق بابل التي صنّفت من قِبل الشاعر اليوناني انتيباتروس الصيداوي من ضمن عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، تثير الإعجاب والاستغراب، وما تزال مرجعاً مهماً كما كانت عبر العصور. فلا أحد ينكر تأثير حدائق بلاد ما بين النهرين على الغرب، من اليونان إلى روما، وصولاً إلى هولندا وإسبانيا وباريس، حيث تم استحضار روائع بابل في منحوتات وتصاميم هندسية تعبِّر عن الإعجاب بالعقل الذي صممها، وتجعله المرجع الهندسي والجمالي في تصميم كل حدائق العالَمْ.
يقول المؤرخ فالفيوس جوزيف في “مذكرات بابل”، إن حدائق بلاد ما بين النهرين بنيت في عهد نبوخذ نصر الثاني (562 – 604) قبل الميلاد. وتضيف كتب التاريخ أن الحدائق بنيت محبةً لزوجة نبوخذ نصر الثاني الملكة سميراميس.
إذاً كلما تحدثنا عن الحدائق، يؤول بنا تفكيرنا مباشرة إلى حدائق عدن وبابل، ودمشق والحمراء وأماكن حميمة من بغداد ألف ليلة وليلة، ويثير ذلك حتماً فينا حنيناً لأمكنة حالمة وآمنة.
حدائق التويلري وشانتيي
رغبة الغرب في سكن الفردوس الموعود
كل حدائق العالم، تشبه حدائق بابل المعلَّقة، وكل الذين خاضوا في التعريف بحدائق الغرب، عادوا في تاريخها إلى ذلك الجسر الممتد مع حدائق الشرق. فـيقول جيل كليمون في محاضراته بالمدرسة الفرنسية: “إن الحديقة هي المكان المفضَّل … وهي المكان الوحيد لالتقاء الإنسان بالطبيعة، حيث الحلم مسموح … ففي هذه الحدائق التي مدّنا بفكرتها الشرق النابض بالسحر، لا يمكن إلا أن نكون كما خلقنا، ولا يتطلَّب المكان غير لحظات صمت … وهذا هو سحر الشرق وجماله”.
فما علاقة حدائق فرساي وشانتيي بحدائق الشرق؟ وما العلاقة بين نوافير الماء المحاطة بالاخضرار وبين المنحوتات الشامخة في جوارها؟
بدأ كل شيء في قصر التويلري في قلب باريس. ففي العام 1613 ولد أندريه لونوتر لأب اسمه جان لونوتر، كان يعمل بستانياً عند الملك لويس الثالث عشر. وورث أندريه المهنة نفسها عن والده، ليصبح البستاني المفضَّل عند الملك لويس الرابع عشر. وصمم في حياته أربع حدائق من أشهر حدائق فرنسا والعالَمْ وأجملها على الأطلاق حدائق قصور التويلري وفو لوفيكونت وفرساي وشانتيي.
صمم أندريه لونوتر في حياته أربعاً من أشهر حدائق فرنسا والعالم وأجملها على الإطلاق: حدائق قصور التويلري وفو لوفيكونت وفرساي وشانتيي.
أضفى أندريه لونوتر نمطاً هندسياً مميزاً على تصميمه للحديقة، مبدعاً بخيال واسع زوايا فنية مستوحاة من حدائق بابل والحمراء في غرناطة، بعد أن اطلع على تصاميم هذه الحدائق ودرس فلسفتها بعمق. وأدرك من خلال مطالعاته أن الحديقة التي كانت صورة حية للجمال والسعادة في بلاد ما بين النهرين، كانت مبعثاً لبهجة الإنسان ورفاهيته وهذا ما عمل على أن ينقله إلى القصور الفرنسية، ونجح في ذلك بشكل ما يزال يبهر العالم حتى اليوم.
حدائق لمتعة الحواس الخمس
استوعب أندريه فلسفة الحديقة الممتعة للحواس الخمس من حدائق بلاد ما بين النهرين وقصور الأندلس ودمشق. فحاول أن “يشرب” من تلك الأمكنة التي صنعت سعادة الإنسان وشدت حواسه الخمس. ولذلك عمل على تصميم حديقة الملك لويس الرابع عشر في فرساي بشكل يقتنص السمع والبصر والشم واللمس والذوق.
اهتم بتنويع الألوان في الحديقة واستغل الضوء والظل، لينال من بصر الزائر؛ ونثر الزهور العطرة لتدغدغ بعطرها حاسة الشم لدى زائرها؛ وفرّع نوافيرها في أرجائها ليشنف حاسة السمع بهدير المياه الرقراق من هندسة متميزة للنوافير، وكأنها تعزف سمفونية عالمية؛ ونثر أشجار الفواكه بأرجائها، لكي يتذوق الزائر طعمها.
دور الماء.. وأهمية التحكُّم فيه
اعتبر المؤرخون الماء عنصراً مهماً بشكل خاص في الشرق لإنشاء جنائنه.وقد ذكر فرانسيسكو برييتو مورينو في كتابه الشهير “حدائق غرناطة”، أن الماء “تحوَّل في حدائق غرناطة إلى أساس للحيـاة، ولم يكن لشيء أن يتم لولا قدرة العرب على إحضار الماء من سفوح السلاسل الجبلية لري بساتينهم.
واعتبر المتخصصون في فن الحديقة أن هذه المهارة الكبيرة فنيّاً وتقنيّاً التي أتقنها العرب، هي التي دفعت لونوتر إلى التفكير في مفاجأة زائر حدائقه، فصمم نوافير مرئية للزائر من بعيد، وأخرى يكتشفها من خلال الدروب والممرات، وتمكّن بذلك من أن يصنع عالماً على مستوى غير مسبوق من الجَمَال.
وقد أشاد بذلك غايل جيلو من جامعة السوربون والمتخصص في حدائق بابل والحمراء، إذ قال إن “لونوتر أخذ تصاميم النوافير وهندسة الضوء في حدائق فرنسا من الحدائق العربية، واشتغل عليها، فجعلها نوتات موسيقية تعزف بأشكال هندسية متعدِّدة الأبعاد، وتحت خيوط ضوئية تخترقها بشكل سحري متفاوت”.
أما ألان بارتون، المسؤول عن حدائق فرساي، فيرى: “أن هناك تجانساً بين حدائق الشرق وحدائق فرساي”، وتحدَّث عن أندريه لونوتر وعن إبداعه في فرساي، قائلاً: “إن هذا الرجل هو من أعظم البستانيين في الغرب، ولا أعتقد أن هناك من يضاهيه في تنسيق الحدائق بالغرب، فهو مهندس وهيدروليكي، وأعتقد أنه هو الوحيد الذي كان قادراً على إنشاء حدائق، صمدت أمام الحروب والثورات وحتى الموضة”.
ختاماً وباختصار، منذ أن أنشئت الحدائق أو “الرياض” أو “الجنائن”، كانت مهمتها اختراق قوانين الطبيعة، أو على الأقل الاستفادة منها كتسخير الظل والهواء والماء والفواكه، إلى أن أنشأ حدائق بابل المعلَّقة، التي كانت تهيمن على المناطق المحيطة بالباب المخصص لأسطورة عشتار. وتحوَّلت “العجيبة” هذه إلى أولى الحدائق المنشأة في التاريخ، وأصل كل الحدائق التي وجدت بعدها في الغرب.
ومثلما أراد الشرق العيش في الجنة، فشيد قصوراً محاطة بجنائن وحدائق، حذا الغرب حذوه، بعدما أدرك جمال تلك الحدائق، فاستلهم منها روحها وراح يبدع ويصمم روائع أصبحت قبلة عالمية. فجلب كل أنواع الأشجار والورود وصمّم المجسمات، وفتح قاموس النباتات والأزهار والفواكه على القاموس المشرقي، وراح ينهل من تنوعِّه ويزاوج بين أنواعه في تشكيلة تصنع “الطفرة” وتخلق جديداً غير معتاد عليه.
فنحن نعلم أن زهرة التوليب أو الخزامى، التي زينت قصر فرساي وغيره وأصبحت رمزاً في هولندا، كانت رمزاً لأحد السلاطين العثمانيين، ونعلم أيضاً أن الحديقة العامة هي ابتكــار شرقي موطنـه الإسكندريـة، عكس ما يزعمــه اليوم بعض الباحثيـن بأن الحديقــة العموميــة هي من صنع غربي بحت.
وسواء أكان ذلك الإنسان، شرقياً أم غربياً، وحيثما وجد، فهو مجبول على فكرة “الجنة” والتمتع بها. وفي هذا الصدد يقول غريمال: “عندما أنشأ الشرقي الحديقة، تحوَّل الإنسان إلى مؤثـر في الحيـاة، سخّر لنفسه الظل والضوء، والشمس والرياح. هذا الشرقي الذي سمح للعقل الغربي أن يوسِّع خياله، ولولاه لما تفتحت عيناه على تلك “الجنة” التي يبتغيها”.