لا أقول في الشعر: كلما اتَّسع المعنى ضاقت العبارة.
إنما أقول: كلما ضاقت العبارة اتَّسع المعنى. ذلك أن الشعر هو فن الاختزال، أما التفاصيل فهي من شأن المخيلة.
لهذا، ربما لا تجد شاعراً مبدعاً وروائياً مبدعاً في الشخص نفسه. فكثير ممن فشلوا في الشعر اتجهوا إلى الرواية، والعكس صحيح. الشعر الجيد يحكي الكثير بأشد العبارات اختزالاً. والرواية عموماً تحكي القليل بكثير من التفاصيل. ولهذا، فلا شيء يعبِّر عن مدى تعقيد المشاعر الإنسانية كما يعبِّر الشعر، والشاعر المبدع هو الذي يستطيع إيصال زخم كبير من المشاعر والمعاني بأقل العبارات، لتصبح أشد إدهاشاً. فهل كان لملحمة طروادة بتعقيداتها أن تصلنا بهذا الجمال لولا أنها صيغت شعراً؟. وهل كان لها أن تعيش إلى يومنا هذا لولا أنها حُمِلتْ على عربة الشعر؟.
ولأن الحروب والمآسي الكبرى والكوارث الطبيعية تنطوي على كثير من المشاعر المعقَّدة، فلن تجد شيئاً أجدر بالتعبير عنها من الشعر. وبقدر ما يقف الشعراء عاجزين وملجمي الألسن أمام هول الكارثة، بقدر ما يكون الشعر هو التعبير الأكثر جدارة بوصفها.
«… هربتُ من الحرب من قبل أن يقتلوني، فشاهدت عند الحدود زنابق داس عليها الجنود، وشاهدتُ قمصان أهلي معلَّقة منذ عامين في الشرفات».
كتبتُ هذه الأسطر وأنا خارج من بلادي التي دمرتها الحرب، وكتبت غيرها أسطر وقصائد، ولكن في المقابل لطالما أصابني الصمت أمام مشاهد كثيرة مهولة، فلم أستطع أن أعبِّر عنها حتى الآن. شعراء كُثر أخرستهم الحرب، كما أنطقت آخرين لم يكونوا يكتبون الشعر من قبلها إلا ما ندر. ومنذ خروجي من بلادي قبل عامين تقريباً، إلى هذا اليوم وأنا أحاول التعبير عما رأيته وشعرت به، مع كثير من الفشل.
لم أستطع الكتابة عن ابنتي التي تركتها هناك ورائي إلَّا بعد عام ونصف العام تقريباً من فراقها، ولستُ واثقاً بعد من كوني أدركت القصيدة.
أن تكتب بجماليات شعرية عن وطن يُدمَّر، وشعب يموت، فإنك تضع نفسك كشاعر في مأزق أخلاقي وجمالي: إلى أي مدى يحق لنا أن نحول القباحة والموت إلى جمال صرف؟! وأن نحوِّل المأساة إلى ملهاة؟!
وكم سنخشى في خضم ذلك من ضياع المعاني؟.. ربما لهذا تحديداً صمت كثير من الشعراء.. ربما ليقولوا لنا بدورهم: كلما اشتدت المأساة.. صمتت العبارة..
لا أقول لكِ الآن إني حزينٌ
ولكنني أتذرّع بالدمع حتى أهادنَ أيلول
ها مرّ عامٌ وأكثر
لا أنتِ تنتشرين كعطرٍ برَدهة بيتي
ولا أنا قارورةُ العطر مكسورةٌ في ممرّكِ
عامٌ وأكثرَ
والباب يستقبل العائدين من الحرب
موتى وأشباه موتى..
ولا أتحدث عن شرفةٍ طالما لوحّتْ ليَ منها يداكِ
لكنني أتحدثُ عن أصص الفل
هل عطشتْ في غيابي!..
لا أقول عن الحب ما كنتُ أرويه عنكِ
ولا عن حكايا الأميرات
ما كنتُ أحكيه قرب سريرِكِ حتى تنامي
ولكن إذا لم أعد قبل أيلول
قصّي عليه الحكاية منذ أفقتِ ولم تبصريني..
ترى صرتِ أكبرَ؟ أطولَ؟ أجملَ؟
يا ابنةَ أحلى النساء
ويا برعم الحبّ
لا يتفتّحُ ورد البساتين ما لم تمرّي
ولا يصل النهر للبحر من غيرِ ركضِكِ حول ضفافي..
ولا أتحدّثُ عن درج البيت
حيث وضعتُ الحقيبةَ قبل العناق
لكنّ أمَّكِ كانت ترتّب فيها ثيابي وأدمعها
وكانت تحلّق من فوقنا الطائرات
هبطتُ بها مسرعاً
فتصدّعتِ الدرَجاتُ..
وها مرّ عامٌ وأكثرَ
والطائرات تدكّ البيوت
وأيلول لاذَ بشرفتنا مرتين
وعاتبني مرتين
وهادنتُهُ مرتين
وأنتِ على الباب
أصبحتِ أحلى
وشَعرُكِ يحكي لأيلول
كم مرّ منذُ أفقتِ ولم تبصريني
وكيف الأميرات ما عدنَ زُرنَ سريرَكِ
مذ جعلتنيَ ساحرةُ الحربِ وحشَ الغياب..
تقولين إنّا إذا ما التقينا
وقبّلتِني
سوف يضحك أيلولُ من حولنا
وأعود جميلا..
بعد خروجه من سوريا خلال السنة الثالثة من الحرب السورية، كتب الشاعر هذه القصيدة خلال فترة ابتعاده عن زوجته وابنته التي امتدت لعامين. ويُعد تمام من أبرز شعراء جيله في الشعر السوري المعاصر، وقد نال عديداً من الجوائز العربية عن مجموعاته الشعرية.صدر له:
• منزل مزدحم بالغائبين / صدر عن دار سعاد الصباح عام 2000.
• شِعرائيل / صدر عن وزارة الثقافة السورية عام 2006.
• تفسير جسمكِ في المعاجم / صدر عن الأمانة العامة – دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008.