علوم

اللحم المستزرع
هل سنأكله يوماً؟

يشكِّل الطلب المتزايد على اللحوم الحيوانية الصالحة للاستهلاك البشري تحديات جمَّة، منها ما يتعلَّق بالقدرة على تلبية هذا الطلب كماً، ومنها ما يهدِّد استدامة تربية المواشي مثل الأبقار والأغنام، ومنها ما يصل إلى حدود التماس الخطير مع سلامة البيئة. لذا، ومنذ سنوات، يبحث العلماء عن طريقة لتأمين اللحوم الصناعية، علّ في ذلك ما يخفِّف الضغوط على المزارع الطبيعية. وبالفعل، فقد نجحت جهود كثيرة على المستوى المخبري، ولكن ما بين هذا النجاح، وتعويدنا على استهلاك اللحم المستزرع ثمة مسافة طويلة يجب اجتيازها.

اللحم الحيواني جزء لا يتجزأ من النظام الغذائي، ويبلغ المعدل السنوي لاستهلاك الفرد من اللحوم قرابة 42 كيلوجراماً، كما أن البيانات تشير إلى تضاعف إنتاج العالم من اللحوم ثلاث مرّات ما بين عام 1960م والعام الجاري 2016م. وتُعزى هذه الزيادة في الإنتاج والاستهلاك إلى النمو السكاني بالدرجة الأولى، وإلى حالة البحبوحة التي صار سكان العالم الغربي ينعمون بها بعد فراغهم من مواجهة ذيول الحرب العالمية الثانية. ولكن لتلبية هذا الطلب الكبير على اللحوم، فإن مزارع العالم تستخدم سنوياً نحو 670 مليون طن من الحبوب الصالحة للاستهلاك البشري علفاً للمواشي، وهذا ما يمثِّل ثلث الإنتاج العالمي من الحبوب! ولو تمّ إبقاء هذه الكمية طعاماً للإنسان، لكان من الممكن إطعام 3.5 مليار شخص. من هنا تشكَّلت الحاجة إلى طرق بديلة لإنتاج اللحوم تسد الطلب المتزايد، ولا تؤثر على الموارد الأخرى مثل الحبوب.

طرق إنتاج اللحم المستزرع
في عام 1930م، توقَّع فريدرك سميث تطوير شكل من أشكال إنتاج اللحوم، بدأ آخرون بالعمل عليه بشكل فعّال منذ بداية القرن الحادي والعشرين، حيث: «لن يتطلب التهام قطعة من اللحم كل الجهد المبذول حالياً في تربية المواشي وما يتبعها. فنحن سنصنع يوماً ما قطعاً من اللحمة شبيهة بقطعة «الستيك» اللذيذة المطهوة بالشكل الذي تحب».

كانت البداية الحقيقية في مطلع القرن الحالي عندما استخدم بينجامينسون ولورينتز هندسة الأنسجة لتصنيع اللحم في المختبر. وكانت البداية باستخدام أنسجة عضلية مستخرجة من السمك الذهبي، تمّ زرعها في بيئات متنوعة لاختبار أفضل بيئة لنموها. وكانت النتائج مبهرة عندما أضاف الباحثون أجزاءً متفرقة من خلايا أخرى من نوع السمك نفسه إلى الخليط، أدّت إلى زيادة مساحة اللحم السطحية بنسبة %79.

ونتيجة للأبحاث المتواصلة منذ آنذاك، توصَّل العلماء إلى عدّة طرق لإنتاج اللحم المستزرع، أهمها اثنتان:

  • النمو المحفّز لأنسجة عضلية مأخوذة من كائن حي، وتحتاج هذه الطريقة إلى إمداد دائم من النسيج العضلي من المواشي المراد استزراع نسيجها. ومن التعقيدات التي تواجهها هذه الطريقة صعوبة إنتاج نسيج سميك مثل قطعة «الستيك» على سبيل المثال. فالعملية هنا محدودة على طبقة أو طبقتين من الخلايا، نظراً لصعوبات إيصال الغذاء إلى الخلايا، وطرح الفضلات من النسيج المتشكّل.
  • الهندسة الخلوية النسيجية، ومن خلال هذه التقنية يمكن إنتاج نسيج مشابه للنسيج «الطبيعي» عبر زراعة أنسجة العضلات وإضافة خلايا جذعية إليها لتنمية الأوردة والشرايين والخلايا العصبية ما يؤدي إلى تكوين نسيج متكامل أشبه بالنسيج «الطبيعي».

التبعات الممكنة والتحديات المتوقعة
1. التبعات الصحية
أ – مكوّنات اللحم: على الرغم من أن اللحم يُعد مصدراً ممتازاً لبعض الفيتامينات والمعادن، فعلينا ألَّا ننسى أنه أيضاً مصدر للكوليسترول والدهون المشبعة التي ترتبط زيادة استهلاكها بأمراض القلب والشرايين. وقد أثبتت الدراسات أن الاستهلاك المفرط للحوم مرتبط بعدة أمراض مزمنة، خاصة السكري والجلطات والسرطان. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المخاطر تختلف في درجتها حسب المصدر الحيواني للحم وعملية التخزين والطهي التي تتبع ذلك. من هنا، فمن المتوقع أن يكون اللحم المستزرع خالياً من هذه العوامل المسببة للمتاعب الصحية من خلال التعديل الجيني، القادر مثلاً على رفع مستوى الدهون أوميغا 3 المفيدة، على حساب مستويات منخفضة للدهون غير الجيدة.

ب – تلافي مخاطر العدوى الجرثومية في اللحم المستزرع. فمزارع المواشي والطيور تعج بالبكتيريا المسببة لمختلف الأمراض والنزلات المعوية، وهذا يرجع بشكل كبير إلى بيئة المزارع نفسها التي تُعد حاضنة للبكتيريا والفيروسات، وليس فقط للأبقار والطيور. فنحو %90 من طيور الدجاج في الولايات المتحدة الأمريكية وما بين 50 و%75 منها في المملكة المتحدة، تتسبَّب إحدى أكثر الجراثيم في النزلات المعوية. وثمة جانب سلبي آخر على الصعيد الصحي، في لحم المواشي الطبيعية، وهو يكمن في استخدام المضادات الحيوية وهرمونات النمو لتسريع الإنتاج. واستخدام المضادات الحيوية يؤدي بشكل مباشر إلى زيادة المقاومة البكتيرية للمضادات الحيوية في حالة العدوى.

2. الهموم الأخلاقية
ويحمل اللحم الطازج بالتأكيد وجهاً آخر، يعبّر عنه ذبح ملايين الحيوانات لمواكبة الطلب على اللحوم. (يصل عدد الدجاج المذبوح بطرق أوتوماتيكية في المملكة المتحدة وحدها إلى أكثر من 800 مليون دجاجة سنوياً). وبسبب هذا الطلب المتزايد أصبحت تربية المواشي والأبقار والطيور لهدف واحد فقط: هو ذبحها بعد قضاء الوقت المطلوب. هذا يدعونا إلى التفكير في العدد المهول للحيوانات التي تولد وتعيش وتموت تحت أسقف المزارع الحيوانية. فكثير من هذه الحيوانات تتم معاملته بطريقة مثيرة لكثير من الأسئلة الأخلاقية، مثل حشرها في أماكن شديدة الضيق، والظروف القاسية والإصابات التي تتعرَّض لها خلال النقل وسوء المعاملة خلال درّ الحليب، أو جمع البيض، أو تعريضها لدرجات حرارة قاسية، وما شابه ذلك.. الأمر الذي بدأ يستقطب اهتماماً متعاظماً تقوده جمعيات الرفق بالحيوان، التي بلغت من النفوذ حداً بات يلزم بعض الحكومات على الأخذ بتوصياتها فيما يتعلَّق بظروف معيشة الحيوانات في المزارع وطرق ذبحها وغير ذلك.

ويُعد الأمل الذي يعطيه اللحم المستزرع في هذا الشأن من أهم أسباب دعمه بين الأفراد والمؤسسات الداعمة والناشطة في مجال حقوق الحيوان، وكثير من الجهات المهتمة خصص جوائز مالية تصل إلى مليون دولار لدعم الأبحاث في هذا المجال.

وعلى صعيد آخر، أبدت بعض الجهات تخوُّفها وقلقها من فكرة اللحم المستزرع ومخاطرها، إذ ترى أن إتقان استزراع لحم المواشي قد يحفّز البعض على استزراع اللحم البشري، وهذا ما يشكِّل خطراً أخلاقياً غير محسوب العواقب والنتائج. كما يبدي البعض تخوفه من تدهور علاقة الإنسان بالحيوان إذا لم نعد في حاجة إليه. في حين يرى بعضٌ آخر العكس تماماً، إذ يقول إن هذه العلاقة سوف تتحسَّن في ظل تغير الهدف من تربية الحيوانات لغرض الذبح والاستهلاك إلى غرض التبني. وأخيراً، هناك التصور السائد عن اللحم المستزرع على أنه منتج «غير طبيعي»، على الرغم من عدم وجود تعريف لما هو طبيعي وما هو ليس طبيعياً، رغم أنه من ناحية تركيبته، قد يكون اللحم المستزرع أفضل من اللحم الطبيعي.

3. الآثار البيئية
أ – التلوث: إذا أردنا أن نقيِّم أكبر الآثار السلبية للحم الطبيعي وإنتاجه، فإن التلوث البيئي هو الأثر الأكثر إثارة للقلق حسب الدراسات العلمية. فالأثر المباشر لانبعاثات الغازات – الميثان وأول أكسيد النيتروجين – من مزارع المواشي، يُعد المسبب الأول، المسجّل علمياً، للاحتباس الحراري في العالم.

ب – استهلاك الماء: في الوقت الذي يواجه فيه كثير من بلدان العالم نقصاً حاداً في مستويات المياه الصالحة للاستخدام البشري، تستهلك المواشي ما يقارب %8 من استهلاك العالم من الماء. ولو أخذنا البرازيل كمثال، لوجدنا أن إنتاج طن واحد من اللحم البقري فيها يستهلك ما يصل إلى 15,500,000 لتر من الماء، و3,918,000 لتر لنفس الكمية من لحم الدجاج. وكأنَّ كل هذا لا يكفي، فبعد استهلاك كل هذه الكميات الهائلة من الماء لا تزال مزارع المواشي تتسبَّب بتلوث مياه أخرى بسبب فضلاتها التي تصل إلى 130 ضعف فضلات البشر على وجه الأرض.

ج – رفع العبء عن الأراضي الزراعية: كان واقع الحال في محيط بعض مزارع الماشية غير مُستكشف بدقة حتى وقت قريب. ولكن بيَّنت بعض الدراسات الميدانية مؤخراً أن عدداً كبيراً من الملوثات يغطي مساحات شاسعة حول هذه المزارع، ومنها على سبيل المثال: الأمونيا والميثان وكبريتيد الهيدروجين وأول أكسيد الكربون والسيانيد والنيترات وعناصر ثقيلة أخرى، إضافة إلى أكثر من 100 نوع من الميكروبات المسببة للأمراض مثل السالمونيللا وخفية الأبواغ والعقديات والجياردية. فماذا عن اللحم المستزرع؟

قامت مجموعة أوروبية بجمع بيانات من التجارب الأولية لاستزراع اللحم في العام 2011م، وخلصت إلى أن استزراع الكمية نفسها من اللحم تستهلك %30 من الطاقة المطلوبة لإنتاجها في المزرعة، وأن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري هي أقل بنسبة %80، كما أنها توفر %99 من الأراضي المخصصة للمزارع، و%90 من المياه المستهلكة فيها.

لا شك في أن تقبّل المستهلكين لفكرة اللحم المستزرع لن يكون هدفاً سهلاً. ولذلك، قد يكون دقيقاً القول إن أكبر تحدٍّ للحم المستزرع ليس في صعوبة إنتاجه، وإنما في تقبُّل الناس له.

فالناس تقبل المظهر الخارجي للحم وطعمه وملمسه. وقد أشارت استبيانات حديثة إلى أن %80 من الشعب الأمريكي لن يأكلوا لحماً مصنَّعاً في مختبر، بينما %68 من الشعب البريطاني لا يمانعون تجربة اللحم المصنَّع في المختبر! كما رأينا بعض التحركات في مؤسسات المجتمع المدني في ألمانيا تنادي بمقاطعة اللحم المصنّع أو ما سمُّوه «الطعام الفرانكشتايني».

إن واحدة من المشكلات الكبيرة التي يواجهها اللحم المصنّع كي يقبل الناس به، هي في جعله يشبه اللحم «الطبيعي» في النكهة واللون والمكوّنات من المعادن والفيتامينات، خاصة لأننا لا نملك صبغات طبيعية مثل «المايوجلوبين» التي تعطي اللحم لونه الأحمر المعروف.

وأخيراً، هنالك ما يسمى بـ «عامل الاشمئزاز» من الطعام المصنّع في المختبرات. وقد اقترح بعض الخبراء نشر الوعي بين الناس حول الآثار السلبية للمواشي على البيئة، مما قد يسهل قبولهم للحم المصنّع. ولكن على الأرجح، سيبقى الطعم هو الغالب على المنطق عندما يكون الموضوع متعلقاً بالطعام.

أضف تعليق

التعليقات