القراءة من ورق أبي
بثينة النصر
أي صورة ذهنية تحضرني عن الصحيفة الورقية أو ”الجريدة” أجد والدي حاضراً فيها وبقوّة. طقوس تعامله مع الجريدة، كيف يمسكها وكيف يطوي صفحاتها أثناء القراءة، وكوب الشّاي المصاحب دائماً لخلوة قراءته لها أعتقد أننا كنا نلتقط في اللاشعور هذه الطقوس، كلّ بفهم مختلف. كان أخي الأكبر يقتحم خلوته شوقاً له متحجّجاً بأنه يريد أن يريه رسمة رسمها، وأخي الأصغر يأتيه على شكل ضجيج مفعم بالطّاقة يطالبه بأن يكون حصاناً ليركب على ظهره، أمّا أنا فكنت أتسلل إلى مكتبه بهدوء وأمسك بجريدة الأمس مقلوبة، وأضع بجانبي كوب شاي أزرق فارغاً صغيراً من مطبخ الدّمى، وأرتدي نظّارة حمراء بلاستيكية وأشرع في محاكاة كل حركاته وسكناته مع تلك الصحيفة بصمت. لم يكن قادراً على تمالك نفسه مطوّلاً، وسرعان ما يلتقطني ويجلسني في حضنه، بين يديّ صحيفته، أراقب صوراً من كلّ مكان، غالباً ما تكون صوراً موجعة لطفلة في الخامسة من العمر… ولا تزال. الآن حين بدأت أقرأ الصحف من على شاشة كمبيوتري المحمول، صرت أشعر أنني أفتقد إلى ذكرى ما، تتخالط فيها رائحة والدي برائحة ورق الصحف.
شهادة ورقية
د. فايز جمال
ككاتب من الجيل الأوسط، لم أتأخر كثيراً عن مصاحبة الكمبيوتر والإنترنت. ترافقت قراءتي الورقية المحلية، مع قراءات إلكترونية لمواقع الصحف العربية. تخليت عن الكتابة بالقلم، وأتقنت الكتابة مباشرة على الكيبورد. الإنترنت اختصرت المسافات، ووفرت لي قراءة ما لا يمكن الحصول عليه ورقياً. القراءة الإلكترونية كانت حلاً أكثر من كونها خياراً. ما زلت أتابع منشورات في عدة مواقع، إضافة إلى ما ينشره أصدقاء في مدوناتهم ومواقعهم الشخصية. ولكن هذا كله ظل في حدود قراءة قصيرة وسريعة، ولا يمكن تسمية ذلك بأنني قارئٌ إلكتروني، والسبب أنني لم أقرأ كتاباً كاملاً على الإنترنت حتى تاريخ كتابة هذه الشهادة. لقد اضطررتُ في مرات نادرة جداً أن أطّلع على مخطوطات لأصدقاء، بناءً على إلحاحهم، ولكن القراءة الحقيقية مرتبطة عندي بالورق. أحب أن يكون الكتاب بين يدي. أنقله معي إلى السرير وإلى الكنبة وإلى الحمام أيضاً. منذ يومين اقترحت شاعرة أن ترسل لي نسخة (Pdf) من ديوانها الجديد ريثما تصلني نسخة ورقية منه. أخبرتها أني أفضّل انتظار الديوان، قالت إنها تتفهم ذلك، فهي لا تقرأ أي ملفات إلكترونية تصلها بالإيميل. حسناً، هناك كثيرون مثلي أليس كذلك!؟
ارتباطٌ وجداني..
محمود تراوري
ترجع تجربتي الشخصية إلى ما قبل أكثر من عشرين عاماً، حين كنت أتعامل مع جهاز الماكنتوش في صف موادي الصحفية ومراجعتها عبر الصف الإلكتروني. ومع نهايات القرن العشرين، وتحديداً عام 1998 م وهو تاريخ دخول الإنترنت إلى المملكة، اتخذ شكل التعاطي مساراً آخر، فتكثفت الكتابة والقراءة الإلكترونية سواء على صعيد العمل أو القراءة الشخصية. ولكن جلّ هذه القراءات تركزت فيما هو غير متاح أو متوفر ورقياً. على الرغم من ذلك، بقي ولائي وهواي للقراءة الورقية. فثمة ارتباط وجداني بيني وبين الورق، سواء عبر الكتاب أو الصحف. ويتجلى هذا الارتباط العميق في قراءة الصحف. فإلى اليوم، لا أشعر أني قرأت الصحيفة إن لم تتجلَّ ورقياً بين يديّ. وأشعر بالضيق وانعدام المتعة إذا اضطررت لقراءتها إلكترونياً. وهناك أيضاً عامل صحي يتعلق بما هو بصري، فالقراءة من الشاشة تؤلم عيناي. لذا لا أقضي وقتاً طويلاً أمامها إلا مضطراً، لا شكّ أن المستقبل سيكون للقراءة الإلكترونية، ومن المؤكد أن المختصين سيوجدون حلولاً لتعب العينين، ولكن هذا لا يعني انتهاء عهد الورقي وأفوله، المستقبل سيكون مفاجئاً وواعداً بما لا يمكن توقعه.
إنقاذ الورق من الانقراض
حليمة مظفر
قبل سنوات، كنت كالكثيرين أقرأ الكتب الورقية. ومن ثم صرت اقرأ عبر شاشة الكمبيوتر حين باتت الأعمال كلها تمر عبر تلك الشاشة. رويداً رويداً اعتدت نوعي القراءة، القديمة والجديدة. لكن هذا الدمج بدّل توقيت القراءة في يومياتي. فرحت أترك للنهار القراءة عبر الشاشة، وأترك القراءة من الكتب الورقية أو الصحف إلى الليل حين أكون في غرفة الجلوس أو متمددة على السرير. شعرت بأن القراءة من الورق تريحني من التصاقي بشاشة الكمبيوتر وتعيدني إلى العالم الواقعي. أساساً، حين حاولت قراءة رواية بوساطة كمبيوتري المحمول، تعب نظري ولم أتمكن من إكمالها. وحتى فكرة قلب الصفحة “الإلكترونية” كانت تشتت انتباهي عما أقرأ لشعوري بزيفها أو بميكانيكيتها. ويضاف إلى هذا كله افتراضي أن الكتاب الورقي أكثر حميمية ودفئاً، وهو كيان مستقل بذاته من الغلاف إلى الغلاف، بينما الكتاب الإلكتروني هو جزء من منظومة واسعة ومعقّدة. ثم بعد انتشار الآلات الإلكترونية المحمولة رحت أستغل شغفي بقراءة كتاب الورق أمام الآخرين، سواء في الطائرة أو في المقهى وفي أي مكان. كنت أشعر بنظرات الناس نحوي تجعلني أبدو غير عصرية أو “حداثوية”. لكن تفردي هذا مع أقران قليلين مازالوا يفضّلون القراءة الورقية كان يرضيني، وكأني أسهم في منع الكتاب الورقي من الانقراض.
حالة بدائية
هدى الدغفق
كيف يمكنني مقاومة الكتابة في مديح الورقة؟! ولِمَ لا أذم شاشة القراءة التي لاتجعلني أعيش مناخ العزلة وأنا أقرأ، حيث تُخنق فسحة النظر لدي وتقلقني بين تعديل وضعية القراءة حسبما هو متاح لي من ناحية الاتساع ومساحة الاسترخاء المتطلبة للقراءة وتنفس المعنى والخطو باتجاه المخيلة. اسمحوا لي، فلست مضادة للتقانة وأدواتها، بل إنني ضد الرقصة الناقصة للتفكير والمعنى والحس. القراءة الورقية قصيدة في كل أبعادها واتجاهاتها حيث تتشارك الرائحة الورقية بمستقبل القهوة التي تفوح مع وصفات عدة للاستقراء، و الإلهام، وتصفح الروح من الداخل. فالورقة مثل الجسد قابلة لاستكتابها، واستقطابها لكل أوضاع الجسد والتجسيد، مرنة، متنقلة مع فسحات المزاج، حيث تطويك في قلبها بين لون وتلون وإمعان وحنو وأمومة بالغة، لاتشغلك بأزرار تحتاج الى دوزنة حذرة. أحسب أنني حالة فطرية بدائية لم تستطع التواؤم وبرستيج الشاشة قرائياً. وأحسب أن جدوى القراءة وجديتها تكمن في كرمها، كما تكمن في بوحها والتزود من كل كراماتها في حضرة الورقة فحسب. ولا أظن أن للشاشة مهما تقدَّمت أن تمتلك سحر الورقي وومض جاذبيته البصرية التي تتحول بالرؤية والحدقة إلى طفولة تغري بلعبة ذهنية وخزينة أسئلة تستعذب المفاتيح السرية للحس وهي تصطف لتحرس أحلام الهدب.