بدأ النشر الإلكتروني يرسِّخ أقدامه على مستوى العالم، وحتى في الدول ذات الإمكانات المادية المتواضعة، فقد أصبحت شبكة الإنترنت بمواقعها التي لا تحصى وصحفها الإلكترونية مصدراً رئيساً من مصادر المعلومات للبشر. كما صارت الأخبار والمقالات والتعليقات على الأمور العامة تظهر على شبكة الإنترنت ويبدأ تداولها ومناقشتها بشكل أسرع بكثير مما كان الحال عليه في وسائل الإعلام التقليدية.
ولا شك أن هذه الظاهرة تحمل من الإيجابيات الشيء الكثير، فإذا كان للإعلام التقليدي تأثيره البالغ على كافة الأصعدة، فإن تأثير الإعلام الإلكتروني يتزايد بوتيرة عالية مع أن تكلفتة قليلة نسبياً. ويمكن له، إذا اتسم برؤية واضحة وشعور بالمسؤولية، أن يكون ذا أثر إيجابي ملموس، وقد تحدثنا عن ذلك في عدد سابق هذا العام. غير أن هذا في المقابل لا ينفي وجود سلبيات وثغرات تحتم الحاجة إلى تنظيم النشر الإلكتروني لكي تتحق منه الفوائد المرجوة وتقليص السلبيات التي بدأت تظهر في مواقع الإنترنت بشكل عام ومواقع الصحف الإلكترونية بشكل خاص.
وإذا كان تنظيم النشر التقليدي أصبح واضح المعالم بسبب التجربة العريقة وتراكم الخبرات ووضوح المسار، فإن تنظيم النشر الإلكتروني لن يكون بنفس الوضوح لكونه لا يزال يخطو خطواته الأولى، ويكتنفه الكثير من المجهولات، التي بدأنا نتعرف إليها شيئاً فشيئاً من خلال التجارب.
فالصحيفة التقليدية ، على سبيل المثال، مؤسسة ذات شخصية اعتبارية واضحة وتمتلك مقراً يسهل التعرف إليه والتعامل معها بشكل قانوني، في حين أن الصحيفة الإلكترونية يمكن أن يصدرها شخص أو أشخاص من أية دولة بينما يُسجل موقعها في دولة أخرى. وبمعنى آخر فإن الصحيفة الإلكترونية يمكن أن تناقش شؤون مجتمع معيَّن وهي تعيش خارجه. وهذا الأمر قد يشكِّل معضلة تنظيمية مع غياب الشعور بمسؤولية وسائل الإعلام وعدم وجود الضوابط.
ومن جانب آخر، فإذا كانت الأسماء المستعارة من الظواهر الموجودة في الصحافة بشكل عام، فهي أسلوب غير مستحب، لأن الإنسان عندما لا يوقِّع مقالاته باسمه فإنه يكون أقل حرصاً على الدقة والعقلانية في تناول الموضوعات والقضايا المختلفة. ومن الملاحظ أن الأسماء المستعارة في صحافة اليوم بدأت تتناقص وصار استخدام الاسم الحقيقي هو الأسلوب السائد في النشر التقليدي. أما في الصحافة الإلكترونية فإن الأمر يختلف. فالاسم المستعار أو عدم توقيع المقالات هو الأسلوب السائد. وقد ترتب على هذا انتشار عدم الدقة في نشر الأخبار، ونشر المقالات التي لا تتسم بالموضوعية، والتي تتصف بالاستعجال.
أما السمة الأجمل في الإعلام الإلكتروني، فهي التفاعل الحي مع الكلمة بين الكاتب والقارئ من جهة، وبين القرَّاء أنفسهم من جهة أخرى، فقد تحوَّلت، في كثير من الأحيان، إلى مصدر من مصادر مشكلات الإعلام الإلكتروني. فكثير ممن يعلِّقون على ما يُنشر في الإعلام الإلكتروني يتوارون خلف أسماء مستعارة، لتتسع بذلك دائرة اللامسؤولية وعدم الدقة، وأحياناً التطرف فيما يُطرح من آراء. ويمكن القول إن الكثير من التعليقات التي تأتي من المتلقين تحتاج إلى غربلة وإعادة صياغة حتى تصبح مواد قابلة للنشر في إعلام إلكتروني منظَّم.
قد يعترض البعض على مفهوم الضبط ويعدّه فرضاً للقيود، إلا أن لكل شيء حدَّاً، وحدود الحرية تنتهي عند التعدي على حريات الآخرين، وإن إعلاماً من هذا النوع، إذا لم يُضبط، يمكن أن يخلق مشكلات في المجتمع الواحد، مشكلات للأفراد والمؤسسات والشركات وللمجتمع بشكل عام. فإعلام تنتشر فيه الشائعات والآراء المتشنِّجة لا يمكن أن يؤدي دور الإعلام المتزن، الذي يلتزم الدقة في الأخبار التي ينشرها والعقلانية في الآراء التي يطرحها.
إن أحد أسباب مشكلات الإعلام الإلكتروني هي أنه يمكن لشخص واحد من الناحية الفنية أن ينشىء صحيفة، لكن هذا لا يعني أن هذا الشخص يستطيع أن ينشئ صحيفة إلكترونية ذات مسؤولية اجتماعية، تتأكد من صحة الأخبار ودقتها، واتزان الآراء وموضوعيتها قبل نشرها. فتحقيق ذلك الهدف، وتحمل تلك المسؤولية، يحتاج إلى عدد أكبر من الأشخاص المؤهلين. كما أن مراجعة آراء المتلقين لنشر الصالح منها، واستبعاد ما لا يصلح للنشر، وإعادة صياغة ما يحتاج إلى تحرير، يتطلب أيضاً كوادر مؤهَّلة.
ورغم أن مجال الإعلام الإلكتروني جديد ولا يستطيع أحد أن يضع وصفة نهائية لتنظيمه، إلا أن الأخذ ببعض الضوابط قد يوسِّع دائرة الاستفادة منه، ويحد من سلبياته، ومنها:
أولاً: أن يضطلع ناشرو الصحف الإلكترونية بمسؤولياتهم، وأن يقدِّروا المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتقهم، وأن يحرصوا على التحقق من صحة الأخبار، وأن يستبعدوا من الآراء ما يفتقر إلى الموضوعية والاتزان.
ثانياً: وضع نظام للنشر الإلكتروني يبدأ من الأمور المشتركة بين النشر التقليدي والإلكتروني وينطلق ليغطي خصوصيات النشر الإلكتروني بشكل يمنع السلبيات التي تحدِّثنا عنها وغيرها. ولا شك أن ذلك النظام يحتاج إلى أن يُعد من قبل متخصصين في الإعلام، وتقنية المعلومات، وغيرها من التخصصات ذات العلاقة، للخروج بتصورات عن كل ما يحتاج إلى تنظيم والتعامل معه.
ثالثاً: التأكد من وجود كوادر بشرية قادرة كماً وكيفاً على إصدار الصحيفة الإلكترونية قبل إصدار الترخيص لها.