ذات وجه بشع إلاّ أن ألوانها متعددة فهي ذات لون أسود، أو ذهبي، أو مبهرج بألوان شتى. لها رائحة تزكم الأنوف، ولها قصص مثيرة في التاريخ تبدأ من المؤامرة والدسائس، وتنتهي على منصات الإعدام. منها المؤلم الذي يجرح القلب والروح، ومنها العظمى التي تقطع الرأس وتسيل الدم. منها ما يغتفر ومنها ما لا يغتفر ولا ينسى.. هي وصمة عار لكل من صارت لقباً له.
الخيانة والخائن أسماء ترتعد منها الفرائص في المحاكم، وتفطر القلب في قصص الحب والصداقة. يفرد فريق القافلة ملفاً عنها لينقل بأمانة ألوانها وأنواعها، وقصصاً تاريخية كان أبطالها خونة.
الخيانة ترتدي طاقية الإخفاء
دوماً، للخيانة رائحة منتنة، سواء كانت خيانة زوجية أو خيانة بين الأصدقاء أو خيانة بين حبيبين أو خيانة الأوطان. فالخيانة هي الفعل القبيح الذي يأتي من مأمن فتكون الطعنة قاتلة. إن ثقافة الفرسان والنبلاء تجعلهم يأنفون هذا الفعل وينبذون من يأتيه، فالخائن يوصم برذائل كثيرة، فهو جبان وكاذب وجشع وانتهازي. كما تستطيع أن تستدل على الخائن بتقلّب آرائه وأنانيته. فهو ليس وفياً لصديق أو حبيب أو زوج أو وطن. هو غجري القِيم إذ يرتحل مع المواسم مجرداً من أي فضيلة.
«للخيانة رائحة».. كثيراً ما نسمع هذه العبارة، وكثيراً ما نقرؤها، فهل بالفعل للخيانة رائحة أم هو تعبير مجازي حيث تُحس الخيانة لكنها لا تُرى وكأنها تتبختر بيننا مرتدية طاقية الإخفاء. كيف لنا أن نتيقن من وجودها في حال وجودها؟! وكيف لنا أن نعرف الخائنين وهم يرتدون طاقية الإخفاء؟!
عندما تكون الاتهامات عشوائية، تأتي التصفيات فادحة، فتهمة الخيانة السياسية هي الطريق الأقرب إلى التصفية جسدياً. أما تهمة الخيانة الزوجية دون دليل هي الطريق البطيء للفراق. وبما أن الخيانة ترتدي طاقية الإخفاء فإن الإمساك بالخائن في حالة تلبس يُعد أمراً صعباً، لذا كثيرون يبحثون عن أدلة قاطعة ليكون وجهاً لوجه في مواجهة الخيانة، ذلك العدو الأشر للأوطان والأصدقاء والأزواج.
لقد نُشر هذا العام في صحف محلية وعالمية خبر يثبت أن للخيانة رائحة وتستطيع أن تشمها حقيقةً وليس مجازاً، وذلك بفضل سيدة هندية عانت الأمرّين من خيانات زوجها لها، ولم تجد ما يثبت خيانته إلى أن اكتشف دواء يفضح خيانته لها ويكون عوناً لبنات جنسها في كشف خيانات أزواجهن. تقول مكتشفة الدواء شانكيتا بالاول إن هذا الدواء زيت مستخلص من عشبة عطرية توضع قطرة واحدة منه في فنجان قهوة الزوج، وبعد أن يتناوله ستفوح منه رائحة الخيانة، إذا كان خائناً، والفكرة تتركز في أن الزوج الخائن ينخفض لديه مستوى الحيوانات المنوية، ما يؤدي ?لى استثارة سلسلة من التفاعلات البيولوجية في جسم الرجل، وفي ظل هذه التفاعلات يعمل الدواء الذي يطلق رائحة تشبة رائحة البخور، وتظل هذه الرائحة لمدة 48 ساعة دليلاً قاطعاً على خيانة الزوج. الجدير بالذكر أن الشركة الهندية الأمريكية التي اشترت حقوق هذا الدواء لتصنيعه وبيعه بكميات تجارية، أطلقت عليه اسماً باللغة الهندية وهو «مفتاح الحقيقة» Ka-fashto.
ومن المفارقة أن «كافشتو» الهندي يحمل معنى الفعل في الاكتشاف باللهجة المصرية، وكأنه يقول بلسان كل سيدة استطاعت أن تكشف خيانة زوجها لها: «لقد كشفتك على حقيقتك أيها الخائن».
الرأس في السلة.. خيانة مقصلة
في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي قامت الثورة الفرنسية ضد الملك لويس السادس عشر، واستولى الثوار على الحكم وبدؤوا بالتصفيات الجسدية بأسلوب فصل الرأس عن الجسد بوساطة المقصلة التي كان قد صممها الدكتور جوزيف إينياس غليوتان بهدف أن تكون عقوبة الإعدام أكثر سلاسة وأقل ألماً من الأسلوب القديم، حيث كان المحكوم عليه بالإعدام يضرب بالهراوات حتى الموت، أو أن يقطع الرأس بالفأس. ولقد أعدم الملك لويس السادس عشر بتهمة الخيانة العظمى، وذلك بوساطة المقصلة التي صُمِّمت في عهده وأضاف لها بعض التحسينات كأن تكون الشفرة حادة وب?اوية مائلة 45 درجة لتكون أسرع في القطع. بعد سقوط الرأس الملكي في السلة التي كانت توضع تحت الغليوتان والمخصصة لتلقي الرؤوس المقطوعة، توالت الرؤوس المتهمة بالخيانة العظمى.
الجدير بالذكر أن المقصلة سميت بالفرنسية غليوتان نسبة إلى الدكتور الذي اخترعها. وإزاء هذه التسمية قدمت عائلة غليوتان التماساً إلى الحكومة بتغيير المسمى لتتجنب الحرج، لكن الحكومة رفضت، فاضطرت العائلة إلى تغيير اسمها ولم يعد اسم غليوتان اسماً مرغوباً في أن ينعت به شخص. ومن المفارقات أن غليوتان «المقصلة» قطعت رأس طبيب من ليون الفرنسية يدعى غليوتان أيضاً. فقالوا: غليوتان قطعت رأس غليوتان.
نابليون لا يصافح الخونة!
من خان مرة سيخون مرات، تلك هي سيكولوجية الخائن. تتنازعه، دوماً، الرغبات الهشة ليبيع الثمين مقابل الرخيص. لذا كان الخائن موضع تحقير من قِبل كل من تأنف أنفسهم هذا الفعل حتى لو ساندهم بفعل خيانته. تماماً مثلما حدث مع نابليون بونابرت الإمبراطور الفرنسي 1769-1821م الذي خاض معارك عديدة بشرف الفارس ونبل الإمبراطور إلى أن استعصت عليه النمسا وخرج منها بهزيمة فادحة في معركة آسبرن التي خاضتها جيوشه ضد الجيوش النمساوية، وذلك بسبب وعورة المنافذ الجبلية، فبّدل الإمبراطور من خططه النزالية إلى خطط استخبارية، وأمر جنوده بالبحث عن جاسوس يساعدهم على اقتحام المنطقة. وبعد أن طال البحث واشتدت مرارة الهزيمة هيأ لهم القدر خائنًا بامتياز وهو رجل نمساوي يشتغل بالتهريب، ويعرف الحلقة الأضعف في الحدود النمساوية، فدل الجيوش الفرنسية إلى الطريق المثالي لاقتحام المنطقة التي لم تكن محصنة إلا?بجيش من كبار السن ينقصه العتاد والعدة لكونهم يرابطون في منطقة قل من يستطيع الوصول إليها. كانت هذه الخيانة والمعلومات الذهبية مقابل حفنة من المال. وعندما تم النصر لنابليون، بفضل هذه المعلومة القيمة، أراد ذلك الدليل مصافحة الإمبراطور نابليون بونابرت الذي رفض مصافحته وألقى إليه صرة من المال قائلاً: «يد الإمبراطور لا تصافح الخونة»! وإزاء استغراب جنوده من تصرفه قال لهم: «الخائن لوطنه كالسارق مال والده ليطعم به اللصوص، فوالده لن يسامحه واللصوص لن تشكره».
خيانة غريبة
هل تصدق أن لصق طابع بريدي على رسالة يُعد خيانة وطنية؟!
إن من أكثر القوانين المثيرة للسخرية في بريطانيا هذا القانون الذي يتهم بالخيانة الوطنية كل بريطاني يلصق طابعاً بريدياً بشكل مقلوب، حيث إن الطابع البريدي يحمل صورة رأس الملكة، وفي لصقه بالمقلوب تقليل من شأنها، لذا يعد خيانة وطنية. وكما هو معروف فإن طوابع البريد البريطانية قد حملت الرؤوس الملكية البريطانية منذ ابتكارها وتداولها عام 1840م.
خيانة النصح والودّ.. والأمانة والعهد
جاء في لسان العرب: المَخانَةُ: خَوْنُ النُّصْحِ وخَوْنُ الوُدِّ، وقال ابن سيده: الخَوْنُ أَن يُؤْتَمن الإنسانُ فلا يَنْصَحَ.
ويقال رجل خائنٌ وخائنة، أَيضاً، والهاء للمبالغة، مثل عَلاَّمة ونَسّابة، وخَؤُونٌ وخَوَّانٌ، والجمع خانةٌ وخَوَنةٌ، وقومٌ خَوَنةٌ وخُوَّانٌ، وقد خانه العَهْدَ والأَمانةَ، وخَوَّنَ الرجلَ: نَسَبه إلى الخَوْنِ.
وتعليقاً على الآية الكريمة }يعلم خائنة الأعين{ يقول: الخائِنةُ: بمعنى الخيانة، وهي من المصادر التي جاءت على لفظ الفاعلة كالعاقبة.
تُفْهَمُ الخيانة في العرف على أنها مخالفة لاتفاق ما بين طرفين، سواءً كان الاتفاق واضحاً ومنصوصاً عليه أو ضمنياً متعارفاً عليه، ويستوجب هذا الاتفاق من أطرافه التحلي بقيم عليا كالوفاء والصدق، والمحافظة، والرعاية للطرف الآخر.
وتكون الخيانة عادة بين طرفين يفترض أن تكون بينهما صلة وثيقة، ورابطة عميقة تبعث على أن يرعى أحدهما الآخر، ويصون وجوده ومشاعره وكيانه، ما يجعل فعل الخيانة أمراً مستنكراً وغير متوقّع بينهما.
وقد يكون الطرفان شخصين متحابين، وقد يكونان شخصاً واحداً مع نفسه، فيشعر إن ارتكب خطأً فادحاً أنّ نفسه قد خانته، أو أنه خان نفسه، وقد تقع الخيانة في علاقة الإنسان بربه، وتحصل الخيانة عادة بارتكاب عمل يوصف بالشائن والمرذول، خُلُقيّاً واجتماعياً.
ومن الأمثلة على الخيانة، الخيانة بين الصديقين، والخيانة بين الزوجين، أو خيانة الوطن.
خيانة الحبّ
من المعنى اللغوي الوارد في لسان العرب، يتّضح أنّ مفهوم الخيانة يقع على ثلاثة أمور لها غاية الأهمية وهي: «العهد، والأمانة، والودّ». والعهد عقد بين طرفين، وهو ذو دلالة قانونية وأخلاقية، أما الأمانة فذات صلة بالمشاعر، أكثر من صلتها بالقانون وأخلاقياته.
وفي الواقع، نجد أن الشخص الذي يبحث عن شخص آخر يودِعُه شيئاً أو شخصاً عزيزاً عليه، هو في الحقيقة يبحث عن «الأمن»، لما يخشى عليه من خطر يتهدده. والخيانة تفريط متعمّد في الأمانة وتضييعها والتخلي عنها للخطر، وهو أمر ينطبق أيضاً على حالة الحبّ، فكأنّ الحبيب يُسلِم نفسه أمانة لدى حبيبه لكي يحميها ويصونها من الأخطار.
وحين تقع الخيانة في الحبّ، فهي تقع في هذه المعاني اللغوية التي تقع عليها مفردة الخيانة، وهي الودّ والعهد والأمانة، التي تنحلّ بدورها إلى معنى الأمن النفسي. فعلاقة الحبّ هي علاقة «أمن نفسي» بامتياز، ولذلك ترتبط خيانة الحبيب بالشعور بعدم الأمان، وكأنّ الحبيب مأوى يحلّ بغيابه الضياع.
ومن الجهة الأخلاقية يعد الحبّ، أيضاً، مصداقاً لكلمة «عهد»، إضافة لكونه مأوى من الناحية النفسية، والخيانة نقض لعهد الحبّ، ذلك العهد الذي تسامى على الكتابة حال بقية العهود والمواثيق.
من هنا ندرك السبب الذي يجعل الخيانة أمراً في غاية البشاعة في الأذهان لمجرد التلفظ بها، إنها مفردة تعني الخوف وانعدام الأمن ونسف المواثيق، وكأنّ الإنسان عاد إلى عهد توحّشه وهمجيته وغرائزيّته، إلى ما قبل وجود التعاقدات الاجتماعية، تلك التعاقدات التي انبثق معها عهد صيانة كرامة الإنسان ومكتسباته، وهي في الواقع ما يحمي وجود الفرد وأسرته وعلاقاته الاجتماعية.
في الثقافة العربية، المعاهدات الاجتماعية هي نوع من العهود، والعهد هو وعد، والوعد «كلمة شرف»، فالمرأة والعهد، إذًا، كلاهما شرف بالنسبة للرجل في هذه الثقافة.
من جهة ثالثة، كلمة «خيانة» في اللغة هي ذات علاقة بنيوية بانتقاض «الودّ»، وهو الظاهرة الثالثة في خيانة الحبّ. إذاً فالنتيجة أنّ الخيانة في الحب هي ذات ثلاثة أبعاد:
أولاً: هي نقض للعهد وانكشافٌ لوجه همجي «قبل نظامي»، في مقابل وجه ملائكي طفولي آخذ في التمزّق والاختفاء.
وثانياً: تفريطٌ في الأمانة بخلاف المرجوّ والمتوقّع، وهدم للأمان النفسي، وانكشاف ونبذ للعراء بعد أن كانت حالة الحبّ تشكل حالة من اللباس والدفء والأمان.
وثالثاً: نقص في الودّ، الذي تحتاج إليه الذات كغذاء ووقود. وبهذا تصبح الخيانة هجوماً كاسحاً على الذات من جهات عدّة، فهو سلب لما يتوفر لدى الذات من إيجابيات وإمكانات من جهة، وإدخال مفاجئ للأخطار إلى مسرحها في اللحظة ذاتها.
ولهذه الأسباب تعد الخيانة زلزالاً قلّ أن يحدث في أرض المحبّة دون أن يؤدي إلى انفصام عرى المحبة بين الحبيبين ليتركهما جزيرتين منفصلتين ونائيتين.
الترجمة.. الخيانة الذهبية
هل توجد هناك خيانة ذهبية أو خيانة محببة؟!
في عالم الترجمة من لغة إلى لغة يوجد هذا النوع من الخيانات، فلقد اعتاد الناس على احترام الأمانة في نقل القول من طرف لآخر، ولطالما مثّلت اللغة للإنسان الطريق الحميم للتواصل مع الآخر، والجسر الوحيد للتعبير عن حاجاته. ولكنّ السؤال الذي يطرحه كثير من المترجمين هو: هل الأمانة ممكنة أصلاً في الترجمة؟
يجيب معظم المهتمين بالترجمة عن سؤال إمكانية الأمانة بأنّ شيئاً من الخيانة في الترجمة هو أمر لا بدّ من حدوثه في أثناء نقل النصِّ من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف، لأنَّ انتقال النصِّ بين لغتين لا يعني انتقاله في اللغة وحسب، بل يعني انتقاله إلى ظروف حضارية وثقافية وفكرية أخرى مختلفة عن الظروف في اللغة الأولى، ما يؤدي إلى ظهوره في شكل مختلف عن شكله الأصلي.
وللتدليل على القيمة العليا لهذه الترجمة أو الخيانة في إنعاش الحضارة البشرية أطلق عليها الإيطاليون اسم «الخيانة الذهبية»، أما المترجمون فيسمونها «الخيانة المحببة».
غير أنَّ بعضهم قد يرى الترجمة بأكملها «خيانة» للنصِّ الأصلي، وليست خيانة جزئية، ولكنها في الوقت نفسه قدرٌ وليست اختياراً، إذ إنَّ الترجمة تحتاج إلى تلقي النصِّ أولاً قبل الشروع في ترجمته، ومن المؤكد أن عملية التلقي تختلف من شخص لآخر بحسب متغيرات كثيرة أولها ثقافة المترجِم، ما يجعل الترجمة في النهاية تبدو وكأنها خيار شخصي يختلف من مترجم لآخر بحسب ثقافته ووعيه للنصِّ الأصلي، بل إنها قد تختلف، أيضاً، لو أعاد المترجم نفسه ترجمة النصِّ ذاته مرّة أخرى بعد فترة من الزمن تتغيّر فيها ثقافته ووعيه للنص.
يبقى الوفاء للنصِّ الأصلي أمراً مختلفاً عليه، فقد ينظر إليه كأمر ينبغي التخلّص منه، فالترجمة المثالية هي حلم، كما يصف بول ريكور، الذي يقترح أن نتخلى عنه بسبب وجود الاختلاف الذي لا يمكن تجاوزه بين اللغة الأصل واللغة الاخرى. ومن الطريف أن تقرأ لأحد المترجمين يصف الترجمة بأنها «كالمرأة إذا كانت جميلة فهي غير أمينة، وإذا كانت أمينة فهي غير جميلة».
إلا أنَّ الإخلاص للنصِّ الأصلي يبقى هو الآخر أمراً مطلوباً لدى المترجم، ولكن بمعنى الحرص على الاجتهاد في الترجمة لكيلا يؤدي التقصير وعدم الإجادة إلى تشويه النصِّ المُتَرْجَم. ومهما بلغ إخلاص المترجم وأمانته، لا يمكن أن يغني القارئ عن قراءة النصِّ الأصلي، وفي هذا السياق يقول الجاحظ: «إن الترجمات لا يمكن مطلقاً أن تغني عن النص الأصلي، لأن ذلك يفترض أن فهم المترجِم هو درجة فهم الذي يُتَرجَمُ عنه».
شعراء جرحتهم الخيانة
من المؤكد أنَّ وقع خيانة الحبيب سيكون مضاعفاً حين يقع على نفس شاعر مرهف الأحاسيس، تعوّدت أن يستثيرها الجمال، فكيف سيكون وقع القبح عليها؟ هذا ما تكشفه حكاية عدت من أبرز حكايات الخيانة في الشعر العربي، وهي حكاية الشاعر ديك الجن الذي عاش في مدينة حمص من بلاد الشام مطلع العصر العباسي الأول، مع حبيبته التي قتلها وبكاها بقيّة عمره.
بين كلِّ الشعراء العرب دوَّن ديك الجن اسمه بحروف من دم وندم، والمفارقة، أنه الشاعر الذي ظلَّ يبكي محبوبته الخائنة ويتغزَّل بها ميتةً:
روّيت من دمها الثرى ولطالما
روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
قد بات سيفي في مجال وشاحها ومدامعي تجري على خدّيــها
فوحقّ نعليها وما وطئ الحصى
شيءٌ أعزّ عليّ من نعليهــــــا
ما كان قتليها لأنّي لم أكــــــن
أبكي إذا سقط الذّباب عليهــــا
لكن ضننت على العيون بحسنها
وأنفت من نظر الحسود إليهــا
ومثلما شكّلت «ورد» بداية انعطافة خطيرة في حياة شاعرٍ معربدٍ يحكي ديوانه عن مغامراته مع جوارٍ يخدمن زبائن الحانات، فانتشلته «ورد» من الضياع والتشتت ليكون موحداً لها في الحبّ، كذلك شكَّل موتها انعطافة أخرى له، ولكن نحو الشقاء والحزن.
كان لقاء ديك الجنّ الأوّل بورد في الحانة التي تعمل بها، ولم يتردد الشاعر الخارج أساساً على قيود مجتمعه، في مواصلة تحدّيه لعشيرته الرافضين زواجه منها، وهم يحذّرونه عاقبة الزواج من مخالِفَةٍ له في الدّين، واستمر في إثارة لائميه بأشعاره فيها متغزلاً بمكان الصليب في صدرها مقسماً به، إلا أنه بيّن لهم أنه لا يهتمّ منها سوى بجمالها الذي ملك قلبه.
غير أنَّ مكان اللقاء الذي انطلق منه الحبّ لعب دوراً آخر، باذرا الشكوك بالخيانة في نفس العاشق، ما انتهى به إلى قتل المحبوب مع تصاعد هذه الشكوك وبلوغها الذروة.
أوغر تجاهل الشاعر صدر لائميه وحاسديه و أقربائه الذين حاولوا سابقاً ثنيه عن حياة اللهو، وكان على رأسهم ابنُ عمِّه «أبو الطيّب» الذي زاد حقده عليه بعد أن هجاه بقصيدة عبَّرت عن مرارته منه، وقللت من مكانته بين النّاس: لم يهنأ لأبي الطيب بعد هذا عيشٌ، وحاول أن يعكِّر صفو ابن عمِّه مع زوجته «ورد» بشتى الطرق، فاجتهد في بثِّ الإشاعات، واغتنم فرصة غيابه في رحلة سفر فأرسل إليه من يخبره بأن ورد خانته مع خادمه وأن جميع من في المدينة علموا بذلك، وكانت المخاوف من الأساس تساور الشاعر من امرأة كان قد التقاها على طاولة الخ?ر، ويخشى أن تحنّ يومًا إلى حياتها القديمة.
عاد ديك الجنّ من سفره على جناج السرعة، ممتلئاً بالغضب والثأر، ولم يمهل ورداً ما يكفي لتدافع عن نفسها، فانهال عليها ضرباً بسيفه حتى أرداها مضرّجة بالدماء.
ومن خيانة المحبوبة عند ديك الجن، وأثر هذه الخيانة المدمرة إلى خيانة الخليل أيًّا كان ولقد سطرها الشافعي في قصيدة «إذا لم يكن» يقول:
إذا لم يكنْ صفو الودادِ طبيعة
فلا خير في ودٍ يجيء تكلفا
ولا خير في خلٍ يخون خليله
ويلقاه من بعد المودةِ بالجفا
أما الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة، الذي لم يقل بعد الإسلام إلاّ بيتاً واحداً من الشعر، إلا أنه وفي زمن جاهليته يأنف الخيانة ويراها رديفاً لكل صفة سيئة وسلوك مذموم يقول:
أبلغ ربيعة وابن أمهْ نوفلاً
أنّي مُصيبُ العظم، إن لم أصْفَحِ
وكأنّني رِئبال غابٍ ضيغمٌ
يقرُو الأمَاعز بالفجاج الأفيَحِ
غرثتْ حليلتهُ، وأرملَ ليلة ً
فَكأنّهُ غضبان ما لم يجرحِ
فتخالُهُ حسّانَ، إذْ حرّبتهُ
فَدعِ الفضاء إلى مضيقك وافسحِ
إنّ الخيانة، والمغالة، والخنا
واللّؤم أصبح ثاوياً بالأبْطَحِ
لم يكن شعراؤنا العرب هم وحدهم من جرحتهم الخيانة ورموها بأبشع الصفات، بل نجد في الشعر العالمي وصفاً للخيانة يجعل النفس المرهفة تأنفها. يقول الشاعر الإنجليزي وليم بليك من شعراء القرن الثامن عشر في الخيانة التي شبهها بالدود في الزهرة:
أيتها الزهرة
إنك مريضة
فالدود المتخفي
المحلق في الظلمة
في العاصفة العاتية
وجد في فراشك
المتعة الحمراء
وحبه السريّ الأسود
قد جلب لك الفناء
الخيانة في القرآن والسُّنة
حذَّر الإسلام من الخيانة وعدَّها من الكبائر التي تسخط الله عز وجل، لأنها خصلة مذمومة ومقيتة تقطع أواصر الأسرة والمجتمع، وقد وردت الآيات التي تحذِّر من الخيانة في سياقات عدة، فمنها قوله تعالى: }ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ{ٍ «الحج: 38».
كما صنفها الفيروزآبادي في القرآن الكريم على خمسة أوجه، وهي:
الأَوّل في الدّين والدّيانة: }ﭬ ﭭ{ «الأنفال: 27».
الثاني في المال والنّعمة: } ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ { «النساء: 105»، أي: لا تخاصم من عرفت خيانته.
الثالث في الشرع والسُّنَّة: }ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ{ «الأنفال: 71» أي إِن تركوا الأَمانة في السُّنَّة فقد تركوها فى الفريضة.
الرّابع: الخيانة بمعنى الزِّنى: }ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ { «يوسف: 52»، أَي الزَّانين، وفيها دلالة على أن الزاني والزانية خائنان لعهد الزواج وميثاقه.
الخامس: بمعنى نَقْض العهد والبَيْعَة: }ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ{ «الأنفال: 58» أي نقضَ عهد.
كما ورد ذمُّ الخيانة والتحذير منها في الكثير من الأحاديث النبوية، ومنها قوله، صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» رواه البخاري، وقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» رواه أبو داود، وقوله: «ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه» رواه أحمد.
قانون الخيانة الزوجية
في الإسلام يُرجم، وفي المسيحية تفقأ عينه، وفي القانون الروماني القديم يُقتلان في الحال.
تُعد الخيانة الزوجية في جميع الديانات السماوية وفي بعض العقائد الوثنية منها جريمة محرمة لا تغتفر، تصل عقوبتها إلى القتل. ففي الإسلام يرجم المحصن بالحجارة حتى الموت بعد إثبات جريمة الخيانة «الزنى» بشهادة أربع شهود رجال عدول ثقات. وفي المسيحية العقوبة هي النبذ، حيث يفصل الزاني الخائن عن الجماعة الكنسيّة ويحرم من امتيازاتها. لكن قبل الوقوع في الفعل، فإن المسيح قد أمر كل من تسول له عيناه بالنظر إلى امرأة أخرى أن يفقأ عينه الخائنة قبل أن يقع في جريمة الخيانة الكبرى. أما في اليهودية فإن الوصية السابعة من الوصايا?العشر تحرم فعل الخيانة الزوجية، وحسب المذهب اليهودي القديم، فإن الزاني والزانية يرجمان حتى الموت بعد ثبوت جريمة الخيانة بوجود شاهدين مستقلين، كما تلزم المحكمة اليهودية الرجل الذي تخونه امرأته واحتالت عليه، بأن يطلقها ويحرم عليه مواصلة العيش معها. أما في القانون الروماني القديم فمن رأى امرأة ورجلاً مضطجعين يمارسان فعل الخيانة، يجب قتلهما في الحال دون محاكمة.
الخيانة العظمى
مفهوم ملتبس
وتطبيق متفاوت
من حيث المفهوم اللغوي، قد تعني الخيانة العظمى للوطن، الغدر وعدم الإخلاص وجحود الولاء، إلا أن مفهومها، كمصطلح قانوني، قد شابه الكثير من الغموض، تبعاً لعدّة متغيرات، منها تطور مفهوم الدولة، وتطور النظم القانونية والسياسية، وبعد ذلك، كون مصطلح «الخيانة العظمى» لا يزال في معظم الحالات تعبيراً عن وصف لفعل من الناحية السياسية، أكثر منه تعريفاً لجرم قانوني محدد.
وتقوم أركان الخيانة العظمى عند قيام شخص بخدمة دولة أجنبية وتعهد مصالحها على حساب مصلحة دولته التي ينتمي إليها، ما يؤدي إلى المساس بأمن بلده واستقراره أو الإضرار بمركزه السياسي، وتُوجَّه تهمة الخيانة العظمى عادة لمرتكبي عدد من الأعمال كإفشاء أسرار الدولة الخارجية والداخلية، والتجسس والعمالة لدولة أجنبية، وخيانة الثقة لمن يتسلم مناصب عليا في الدولة كالوزارة والسفارة.
وقد تقع أفعال الخيانة السياسية زمن السلم وزمن الحرب على السواء، ويواجه مرتكبو الأعمال التي توصف بالخيانة العظمى بعقوبات شديدة كالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو الاعتقال المؤبد أو المؤقت، وقد تصل العقوبة إلى الإعدام، إلا أن العقوبة قد تختلف بين زمني السلم والحرب، فعقاب الجاسوس في زمن الحرب الإعدام، وعقابه في زمن السلم السجن لفترة معينة.
ونظراً لوجود الالتباس بين مفهوم الخيانة والمعارضة السياسية في دول العالم الثالث، فكثيراً ما توجه تهمة الخيانة العظمى للوطن والعمل ضد مصالحه للمعارضين للحاكم أو بعض أعماله وسياساته، أو حتى للمنتقدين له، فيما تعدّ هذه الأمور من الأعمال الجائزة بل ومن الملامح الأساس للمجتمع المدني في الدول الديموقراطية.
ورغم ذلك يبقى مفهوم الخيانة العظمى موجوداً في الدول الأكثر رسوخاً في الديموقراطية، فالقانون الأمريكي ينصّ على أنَّ الإدانة بالخيانة العظمى تتم إذا انضم شخص إلى عدو الولايات المتحدة وثبت ذلك من خلال الاعتراف في محكمة علنية أو شهادة شاهدين.
إن الاختلاف في فهم الخيانة يخترق مفهومها الذي قد يبدو للوهلة الأولى واضحاً، فهل المعيار هو خيانة الوطن ومصالحه أم القائد؟ وكيف يمكن تحديد ما إذا كانت الدولة الأجنبية التي يتمّ التعامل معها عدوّة أم صديقة؟ هل المعيار هو النظام أم الشعب؟ وهل يمكن وصف خضوع قيادة بلد ما للاستعمار ضد مصالح البلد بأنه خيانة منه للوطن؟
في بريطانيا، وفي القرن التاسع عشر كان تزييف النقود خيانة عظمى. وفي عام 1945م كان آخر شخص يحاكم بتهمة الخيانة العظمى وليام جويس في محكمة أولد بيلي في لندن.
في ألمانيا وفي أثناء الحرب العالمية الثانية خيَّر القائد العسكري المارشال أرفين روميل الملقب بثعلب الصحراء بعد عودته إلى ألمانيا المتهم بالتآمر على قتل هتلر بين تجرع السم ليموت منتحراً، ومحاكمته بتهمة الخيانة العظمى، فاختار الموت منتحراً.
في أمريكا تتم الإدانة بالخيانة العظمى إذ انضم مواطن أمريكي إلى عدو للولايات المتحدة.
في القانون الكندي عقوبة الخيانة العظمى السجن مدى الحياة في زمن الحرب، أمّا في زمن السلم فعقوبتها السجن لمدة لا تتجاوز 14 عاماً.
خيانة حمراء
قبيلة الأباتشي من قبائل الهنود الحمر، وهم السكان الأصليون لأمريكا الشمالية، تُعدُّ قبيلتهم التي كان يتزعمها جيرانيموا في القرن التاسع عشر من أكبر قبائل الهنود الحمر التي أقضت مضجع الأمريكي الأبيض وحاربته بضراوة، حتى إن هوليوود أنتجت العديد من الأفلام التي تحكي صراعاتهم وسير أبطالهم. بالرغم من الصراع الدّامي الذي فرضه المستوطن الأبيض على زعيم الأباتشي جيرانيموا وقومه، إلا أنه عُدَّ في التاريخ الأمريكي واحداً من أعظم الأبطال ورمزاً للمقاومة والوطنية. كان هذا البطل مقاتلاً شرساً، فقد صمد بجنوده أمام الهجمات ا?مكسيكية المتلاحقة، وتمكَّن من إنقاذ قبيلته مراراً من إبادة محققة.
تعود بدايته كمقاتل عندما هاجمت القوات المكسيكية قبيلة الأباتشي على حين غرة في وقت كان الرجال مرتحلين إلى أعمالهم، فعاد جيرانيموا ليفجع بمقتل والدته وزوجته وأطفاله الثلاثة. تلك الحادثة الأليمة جعلت من جيرانيموا مقاتلاً بعد أن كان تاجراً. لقد أخذ على عاتقه مسؤولية حماية أهل قبيلته وسلامتهم، وتحمَّل في هذا الأمر من العناء الكثير.
جراينموا الذي يعني اسمه المُتثائب، لم تغمض له عين وهو يواجه خطر استيطان الحكومة الأمريكية أراضي قبيلته. لكن يبدو أن النفس البشرية قد تميل أحياناً لمعاداة من يضحي لأجلها، وقد ترضى لأسباب دنيئة بطعن من يسعى لتجنيبها الشر. لقد كانت للخيانة فصول مأساوية في نضال جيرانيموا، إذ قطع حبل هذا النضال بعد صراع طويل مع البيض بوشاية قذرة. في البداية تخلت قبائل الهنود الحمر عن جيرانيموا بتوقيعها اتفاقيات مع الرجل الأبيض على الاستسلام مقابل السلام، وترحيلهم إلى أماكن مقفرة شبيهة بمحميات كأنها السجن الكبير، وكلما مد الرجل ?لأبيض استيطانه رحلوهم إلى منطقة أشد قفراً، عندها ثارت ثائرة جيرانيموا وهو في السبعين من عمره، فهرب بأفراد عائلته ورجال من قبيلته إلى أماكن مجهولة، ليشن هجمات متكررة على الجيش الأمريكي. إزاء هذا القتال الشرس استعان الرجل الأبيض بمن ضعفت نفوسهم من كشافة الأباتشي الذين اقتفوا أثره ووجدوه معتصماً في أحد الجبال، وتحت تهديد السلاح الأبيض، استسلم القائد المغوار مكرهًا، وكان ذلك الاستسلام بداية لنهاية تاريخ الهنود الحمر في أمريكا.
خيانة الذاكرة
تخون الذاكرة الإنسان بنسيان الأسماء والطريق وبعض الذكريات، فعندما تبدأ الذاكرة بالخيانة فإنها تُعد مؤشراً على تقدم العمر وعلى مرضه الخطير الزهايمر. الذاكرة تخون كبار السن، والحوامل، ومن يعانون نقصاً في فيتامين «ب». لذا عُدَّت خيانة الذاكرة من أسوأ الخيانات، لأنها عزلة إجبارية.
أبو رغال مضرب المثل في الخيانة
ربما كان أمثال أبي رغال كثر في هذا الزمن، فأبو رغال الخائن الذي أصبح مضرب الأمثال في الخيانة عرفه التاريخ العربي قبل بزوغ الإسلام، إذ كان له الدور الأقبح في الوصول إلى مكة لمحاولة هدم الكعبة على رأس جيش حبشي بقيادة أبرهة الأشرم.
عندما قاد أبرهة جيشه من الحبشة إلى جزيرة العرب في عام الفيل للوصول إلى الكعبة بغرض هدمها. كان يحتاج إلى دليل من هذه الجزيرة ليدله على المكان الأكثر قدسية في جزيرة العرب. فأرسلت معه إحدى القبائل التي تسكن الطائف أكثر فتيانها خيانة مقابل أن يترك بيتهم الذي يعظمونه. فالكعبة المشرفة كانت هي الهدف الذي يحتاج إلى دليل. وعندما أوصلهم إلى المغمس وهو موقع بين عرفات ومزدلفة مات أبو رغال، فدفن في المغمس بعاره وخيانته. فكان قبره مرجماً يرجمه الراجمون ويلعنه اللاعنون.
لماذا يخون الإنسان؟
رؤية سيكولوجية
جريمة عالمية لم تتباين فيها الاختلافات الاجتماعية. قاتلة للقيم السليمة وضاربة بها بعرض الحائط، من خيانة الوطن وخيانة الأمانة إلى أكثر الخيانات إشكالية: الخيانة الزوجية.
تختلف المعايير الأخلاقية من مجتمع لآخر، وتتداخل الاتهامات، وغالباً ما يقع الباحث الاجتماعي والنفساني في مطب الحيادية، إلا أن من أعقد ظواهر الأمراض السلوكية: الخيانة. فالخيانة خطيئة تتسم بالظلم، والظلم هو الأقسى والأعنف في استفزاز العواطف الإنسانية.
أما الطرف الآخر لمعادلة الخيانة فهو المسبب الرئيس لها! فلولا وجود الوطن والزوجة والأمانة فما كان للخيانة قيمة، فوقع الخيانة هو أسوأ ما يواجهه الإدراك البشري والأكثر تأثيراً في الانفعالات الإنسانية، وجرحها لا يندمل ويحرق مهشماً كل أمل وبصيص ثقة في الآخر. والأسوأ يقع عند تبرير الخيانة بتقصير الطرف الآخر، سواء كان بإدانة الحكومة أو من لم يسأل عن أمانته أو غفلة الطرف الآخر في العلاقة الزوجية وعدم وعيه بحاجات الخائن الذي لو استثمر عواطفه وأحاسيسه في زرع الحب بدلاً من ابتكار الطرق الملتوية لإخفاء جريمته لما حصلت?
هي معصية في شتى الكتب والأديان والعلوم الإنسانية أولاً، وانحراف سلوكي ثانياً، وهي أقوى سلاح ضد الثقة من الممكن أن يمتد تأثيره حتى بعد إدانة الخائن ومحاسبته.
وبشكل أو بآخر ترتبط الخيانة بعلاقة مباشرة مع الشيطان، فهو شريك الغرائز وتقلبها وصفاتها الملحة المتعددة، من حب المال إلى حب السلطة وحب الشهوات إلى حب الذات. إضافة إلى ذلك تلعب العوامل الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، دوراً في تكوين التركيبة النفسية لمن يصفه علم النفس الاجتماعي بـ: لديه ميول للخيانة، لأن كل إنسان يخبئ في طيات نفسه نوازع الخير والشر معاً. فالصالح هو من يجاهد نفسه، والطالح هو من ينقاد وراء الشبهات في القول والفعل.
في الدرجة الأولى من السلوك الخائن يبرز انعدام المسؤولية، فالخائن دائماً لديه ما يبرر أسباب فعلته ولو لنفسه فقط، حتى ولو تبقى من ضميره جزء يجعله يدرك أن خيانته غير مقبولة، فهو يبرر لذاته جرائمها ويحاول التنصل من مسؤوليته تجاه تأنيب الضمير. وبمرور الوقت يتغلب الطمع الغريزي على ما تبقى من مبادئ كانت في ذاكرته من بقايا التربية والمشاعر السليمة، ويطغى عليها دوره المسيطر عليه في لعبة الخيانة دون التفكير بعواقبها. وعند هذه المرحلة يتمكن من له مصلحة في هذه اللعبة المنحرفة، ويقوم بتدعيم هذا السلوك الأناني وتدريب الخائن أكثر على تحوير كل ما حوله لمصلحته البحتة، وهو ما ينشده المستفيد من ?ذا الدور سواء كانوا أعداء الوطن أو الرجل أو المرأة الأخرى أو أصدقاء السوء.
تختلف حدة فعل الخيانة من شخصية لأخرى، فهناك من يقوم بها تبعاً لحب الاستطلاع أو انصياعاً لرغبة، وهناك من يقوم بها عن انحلال أخلاقي وهو لا ينفك يرتكب فعل الخيانة بشكل متكرر دون شعور بالذنب، وأما الشخصية الهستيرية التي عرّفها فرويد بسمات سطحية الانفعالات والمبالغة وحب الاستعراض أمام الآخرين والتمحور على الذات، فهي الأكثر عرضة لارتكاب الخيانة نظراً لتأثرها السريع بالآخرين. وبالنسبة لفرويد فإن الخائن لا يستطيع مقاومة المغريات حين تبدأ عملية التقييم النفسية للموقف الذي يواجهه، فحينها يبدأ الصراع الداخلي بين رغبت? وإرادته، فإذا كان الشخص ذا شخصية سوية استطاع عقله أن يكبح النزوة، أما إذا كان ذا شخصية غير سوية فلا حدود لمدى الأخطاء التي سوف يرتكبها.
أما غوردن ألبورت العالم النفساني الشهير والمعروف بكونه رائد دراسة السمات المميزة للفروق الفردية, ففسر سلوك الخائن بالنزعة، إذ لكل شخصية سمات عامة وهي السمات المسموح بها في إطار الثقافة التي يعيش فيها الفرد وتختلف من ثقافة لأخرى. وسمات خاصة وهي التركيبة النفسية الفردية التي من خلالها يتباين السلوك الفردي. والخائن في نظر ألبورت هو من تطغى سماته الفردية على سماته العامة.
أما ألفرد ادلر فكانت له النظرية الأشهر في تفسير الخيانة، وهي أن القوة الدافعة في حياة كل إنسان هي الشعور بالنقص، التي ترافقه حين يقارن نفسه بالآخرين في أثناء محاولاته المستمرة للتكيف مع بيئته، وعندما لا تسعفه قدراته الذاتية في الوصول إلى ما توصل إليه الآخرون يميل إلى الحصول على رغبته بشتى الوسائل دون ترجيح للعواقب.
المدرسة الجشطالتية رفضت ما جاءت به مدرسة التحليل النفسي من أفكار حول النفس الإنسانية وقوى الخير والشر، فهي فسرت الخيانة كسلوك مرفوض اجتماعياً بطريقة ميكانيكية ترابطية. فسلوك الخائن يتسم بحلقة مترابطة من الصفات التي تبدأ منذ الطفولة، وهي على ثلاث مراحل: ضعف الضمير «أو الوازع الديني»، التعرض في أثناء الطفولة لإفراط في التربية، سواء بالقسوة الزائدة أو بالتدليل الزائد، إضافة إلى الميول الفردية للانحراف التي تعمل البيئة على إظهارها.
أما إريك أريكسون المحلل النفسي والمعروف بنظريته في التطور الاجتماعي للإنسان، فشدد على دور «الأنا العليا» في تربية السلوك السوي، وأن سلوك الخيانة يحصل عند حصول أزمة الهوية في تحديد ما هو مرغوب أو غير مرغوب من قبل المجتمع، وحينها تختلط الأمور على الفرد ولا يجد رادعاً يمنعه من الانحراف.
أقوال وأمثال
في الخيانة
إن أعظم الخيانات خيانة الأمة.
علي بن أبي طالب «كرَّم الله وجهه»
لم يخنك الأمين ولكنك ائتمنت الخائن
مثل عربي
إذا خانك أحدهم مرة، فالذنب يقع عليه،
أما إذا خانك مرتين فأنت المذنب.
مثل روماني
كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة.
مثل عربي
خيانة القليل من الناس تضر الكثيرين.
مثل لاتيني
يحتقر الخونة حتى من يأجرهم.
مثل لاتيني
المرأة قد تصفح عن الخيانة لكنها لا تنساها.
وليام شكسبير
أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر!
كمال النجار
الخائن النبيل!
سجل وليم شكسبير في القرن السادس عشر أغرب الخيانات التاريخية وأكثرها تراجيدية، وذلك من خلال مسرحية يوليوس قيصر، التي دارت أحداثها في روما قبل الميلاد. وقد كتبها شكسبير من خمسة فصول، مستمداً أحداثها من تفاصيل حياة يوليوس قيصر والقائد السياسي ماركوس أنطونيوس، جاعلاً من ماركوس بروتوس بطلاً لهذه المسرحية التراجيدية، فهو ربيب القيصر والمأمون الجانب، حيث كان الأقرب إلى القيصر.
تدور الأحداث حول كاسيوس القائد المتآمر الذي يختار بروتوس لتحريضه على الانقلاب على يوليوس قيصر، وذلك لمحبة الشعب له ولقربه من القيصر. وفي مجلس الشيوخ يثور ستون عضواً تأييدًا لفكرة اغتيال يوليوس الذي تلقى طعناتهم دفعة واحدة، ومن بينهم بروتوس الذي حالما رآه المغدور به حاملاً الخنجر ليطعنه قال جملته الشهيرة: حتى أنت يا بروتوس! فقال له بروتوس وهو يطعنه: أنا أحبك، لكني أحب روما أكثر.
ولعل خطبة بروتوس الشهيرة التي ترجمها عن الإنجليزية مصطفى صادق الرافعي تجعل العالم يتعاطف مع الخائن النبيل الذي وقف بين الشعب الذي أحبه وأحب يوليوس ليبرر خيانته. يقول بروتوس في خطبته:
أيها الرومانيون أتعدونني بالصبر قليلاً على سماع ما أقول من حلو الكلام ومره إكراماً لموقفي وإكراماً للعدل؟ أنا لا أريد أن أخدعكم ولا أعبث بعقولكم وأهوائكم، بل أريد منكم أن تنظروا إلى قضيتي نظرة الحذر المتيقظ الذي لا يعطي هوادة ولا يلقي قياداً، لأني لا أعتقد أن في زاوية من زواياها كمينًا أخاف أن تقع عليه العيون.
أيها الرومانيون إن كان بينكم صديق «لقيصر» يحبه ويذوب حزناً عليه فليسمح لي أن أقول له: أيها الصديق الكريم إن بروتوس قاتل قيصر كان يحبه أكثر منك!
أيها القوم: والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، فاعلموا أني ما قتلت قيصر لأني كنت أبغضه، بل لأني كنت أحب روما أكثر منه، كان قيصر طماعاً فقتلته، وفي ساعة واحدة وهبته دمعي وقلبي وخنجري.
أنا لا أصدق أن بينكم من يحزن لموت قيصر، فأنتم رومانيون، والروماني لا يحب أن يعيش ذليلاً.
من منكم يكره أن يكون رومانياً؟ من منكم يكره أن يكون حراً؟ من منكم يحتقر نفسه؟ من منكم يزدري مصلحة وطنه؟ إن كان بينكم واحد من هؤلاء فليتكلم؟ لأنه هو الذي يحق له أن يثأر لنفسه مني، لأني لم أسيء إلى أحد سواه.
أيها الرومانيون: إن الخنجر الذي ذبحت به قيصر في سبيل روما لا يزال باقياً عندي لذبح بروتوس في سبيل قيصر إذا أرادت روما ذلك.
«الخيانة» في الفن السابع
للخيانة في السينما نصيب، تنطوي تحت محاورها الإثارة والمفاجآت، وحولها تتمحور موضوعات الأفلام المتنوعة والمتجددة، التي تقدِّم في النهاية فيلماً جيداً ذا تكاليف إنتاج عالية. من خيانة الوطن إلى خيانة الأزواج تختلف الأدوار، ولكن خيانة المشاعر تبقى نفسها وما يرافقها من أنانية وغرور، واستغلال لثقة الآخر وحبه، وانعدام الوعي، وغياب الشعور بقراءة المستقبل وما يترتب عليها من تأجيج الأزمات وقطع الأرحام وعداوات، إضافة إلى غياب الوازع الديني الذي أسهم في انتشار ظواهر مأساوية تهدِّد الاستقرار الأسري والاجتماعي.
فيلم Perfect murder «جريمة مثالية» وهو من أشهر أفلام الخيانة الزوجية، أنتج عام 1998م، مُصنَّف تحت الدراما الغامضة من بطولة مايكل دوجلاس وجوينيث بالترو، الذي تتداخل فيه أحداث الطعن الأخلاقي ويتناوب عليها الممثلون بحبكة وصولية. وبالرغم من أن الفيلم يبدأ باكتشاف الممثل الرئيس في الفيلم لخيانة زوجته إلا أن الأحداث تتوالى لتكشف عن تورط كل شخصية في الفيلم في حلقة جشعة من الخيانة والهوس والخسارة.
أما فيلم Money Pit «حفرة المال» وهو كوميديا ساخرة، أنتج عام 1986م، فهو يتناول موضوع خيانة الأزواج بسبب المشاكل التي تصيبهم من وقت إلى آخر. ويتناول الفيلم قصة زوجين شابين يمران بضائقة مادية وهما بحاجة ماسة إلى النقود لترميم منزلهما. وتسير الأمور على ما يرام حتى يكتشف الزوج خيانة زوجته له بحجة الحصول على النقود! وتتوالى أحداث الهجر وتبادل الاتهامات حتى نهاية الفيلم عندما تنفي الزوجة خيانتها. الفيلم من بطولة توم هانكس وشيلي لونغ.
كذلك فيلم Unfaithful «خيانة» الذي حصد العديد من الجوائز المحلية والعالمية عام 2002م، وهو من بطولة ريتشارد جير ودايان لين. ويروي قصة زوجين يعيشان مع ولدهما في جو أسري دافئ إلى أن تتورط الزوجة في علاقة خائنة دون سابق إنذار أو مبررات. وحين يعلم الزوج تتوالى الأحداث الدرامية والبوليسية بسياق يلامس الأحاسيس، ويولد تعاطف مع الشخصيات الرئيسة في الفيلم بالرغم من تورطها في جرائم أخلاقية مختلفة.
فيلم «البشرة المصبوغة» الصيني
أثار هذا الفيلم في عام 2008م جدلاً واسعاً لدى الجمهور، وتدور أحداثه حول علاقة غير شرعية تنشأ بين جندي عسكري متزوج يقيم علاقة خارج مؤسسة الزواج حتى يصل إلى مرحلة يتوجب عليه الاختيار ما بين زوجته وخليلته. أما الجدل الذي أثاره الفيلم فهو حصل جراء استطلاع رأي قامت به جريدة صينية معروفة، ويطرح تساؤلاً على من يجب أن يكون اختيار البطل، فشارك في الاستطلاع أكثر من مليون شخص أجاب أكثر من ثلثهم بأنه على البطل أن يحتفظ بالمرأتين في حياته!
أما في السينما العربية فنجد فيلم خيانة مشروعة وهو فيلم مصري أنتج عام 2006م ويروي أحداثاً زمنية مقلوبة، تبدأ في الدقائق الأخيرة من حياة بطل الفيلم، وهو رجل أعمال متهم بجريمة قتل من الدرجة الأولى جرّاء قتله زوجته وأخاه بزعم خيانتهما له، وحُكم عليه بالإعدام، غير أن أحداث الفيلم والتحقيقات تثبت كذب هذه الادعاءات وصولاً إلى كشف مؤامرة تلفيق قام بها المتهم لتضليل العدالة بغية الطمع المادي. الفيلم من بطولة هاني سلامة ومي عز الدين.
في الكتب تسجيلٌ لها
كثيرة هي الأسرار التي تحملها الأحداث الكبرى التي تهز التاريخ. سنوات طويلة من البحث والتحري تمضي قبل أن تتكشّف الحقائق وتتجلّى ماثلة. قد تكون الخيانة هي أكثر الحقائق خفيةً وأشدها إيلاماً.
ولعل حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي في عام 1961م تُعد أكثر الأحداث السياسية شهرة، حيث شغلت الرأي العام لعقود طويلة. فهل كان اغتياله مؤامرة داخلية حيكت ضده وضد حزبه؟ كيف تم التخطيط لها؟ هل هناك ضحايا آخرون؟
أسئلة كثيرة ومتشعبة تجيب عنها صفحات كتاب الخيانة العظمى الست مئة وخمس وأربعون صفحة والمقسمة إلى 28 فصلاً.
ففي عام 1992م، قام الكاتب هاريسون إدوارد بنشر كتابه «الخيانة العظمى 2 التستر العظيم في اغتيال الرئيس جون إف كينيدي»، الذي احتل مرتبة الصدارة لتسعة أسابيع في قائمة نيو يورك تايمز. حيث طرح الكتاب تفاصيل القضية التي شغلت المؤلف لوقت طويل. يُعد هذا الكتاب إهداء لكل من يرغب في معرفة الحقائق التي سدل عليها الستار في حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي والخيانات التي أدت لاغتيال الرئيس. يرى هاريسون إدوارد أن كينيدي كان رجلاً غير اعتيادي، وسياسيًا غير مسبوق، ورئيسًا ذا طابع فريد. في هذا الكتاب يكشف أوراق الخيانة ويقدم العزاء لكل من آلمه اختطاف روح الرئيس كينيدي من بين حشود شعبه?
أما رواية الخيانة العظمى لصموئيل أكس فقد كانت مرتعاً للخيانات المتعددة، فعندما يجتمع الحب والغدر والخيانة تحت سقف واحد، تكون الفاجعة أعظم، وعندما يصبح الوالد مصدراً للخيانة عوضاً عن الرحمة، تكون الحكاية أكثر تعقيداً. هذا هو محور رواية الخيانة العظمى لصموئيل أوكس، أحد أشهر كتّاب الرواية في طائفة الأميش.
في مجتمع الأميش المغلق المنعزل، ينتشر داء الطاعون ويهدّد حياة الجميع. ترفض حكومتهم الفاسدة أن تزوّد الشعب بالمصل المضاد للمرض. في ظل هذه الأزمة، يقع بطل الرواية الشاب إينوس تحت وطأة أمرين: رفض والده عقد صفقة مع الأسقف للحصول على الدواء وإنقاذ والدته من موت محقق، واختطاف خطيبته الشابة على يد الحكومة الأمريكية وقتلها. في أوج رغبة إينوس في الانتقام، يلتقي مصادفة بالراهبة ريجينا أوينز، رأفة قلب هذه المرأة وإصرارها على إيصال المصل لمحتاجيه، رغم المنع، جعلته يعيد النظر في قراراته. لقد تمكّنت رواية الخيانة العظمى?من أن ترينا الجانب الآخر من حياة طائفة الأميش، التي عرفت بالمحبة فيما بينها وبضبط العواطف والتصرفات.
خيانة الليدي غراي
خيانة الوطن من أبشع الخيانات، فالوطن كيان يضم الأرض بمواردها والشعب والتاريخ، لذا كانت خيانته تسمى خيانة عظمى. إذ لا فرار من هذه التهمة إلا بالموت على المقاصل أو المشانق. فكل من يقف أمام إرادة الشعب الثائر أو من يقف أمام إرادة السلطة العليا ويرمي بهذه التهمة ستكون مسوغاً لإعدامه والتخلص منه.
كثيرون في التاريخ السياسي، نساءً ورجالاً، كانوا، ملوكاً أو رعاعًا سُفكت دماؤهم على مصاطب الإعدام بتهمة الخيانة العظمى. ولقد سجل الفن بعض هذه الأحداث التي كانت الخيانة فيها تهمة تستوجب القتل. ولعل أكثر اللوحات تأثيراً هي لوحة للفنان بول دو لاروش سجل فيها إعدام الليدي جين غراي 1537-1553م بتهمة الخيانة العظمى، التي نُصبت ملكة لإنجلترا لعقيدتها البروتستانتية طمعاً في الإصلاحات، لكن ماري تيودور الكاثوليكية المذهب، ابنة الملك هنري الثامن، انقلبت عليها بعد تسعة أيام من التنصيب متهمةً إياها بالخيانة العظمى للوطن.
وبما أن الفن باقٍ والحياة قصيرة، كما يقول مالارميه، فقد سجل الفنان بول دو لاروش انطباعاً ورأياً في هذه اللوحة التي رُسمت بعد الحادثة الحقيقية بثلاث مئة سنة، تجعل كل من ينظر في هذه اللوحة يتساءل: هل كانت هذه الفتاة الرقيقة والجميلة، التي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، خائنة؟! إن فتاة ترتدي فستاناً من الساتان الأبيض وتستدل طريق المقصلة بيديها الناعمتين لتضع عنقها البض أمام فأس الجلاد، تحمل المتأمل للوحة أن يفكر جدياً في أن يعيد قراءة التاريخ والصور.
هل
الخيانة
جميلة؟
سؤال يبدو سطحياً أمام المنطق، لكنه أمام الشعر تأتي الإجابات مختلفة، حيث الخيانة مطلوبة أحياناً ومرغوبة في أن يكون الشاعر هو من غرسها. بينما نجد غادة السمان تختلف عن النساء في أنها تحب خيانة حبيبها لها، تقول:
أحب خياناتك لي، فهي تؤكد أنك حي،
عاجز عن الكذب وارتداء الأقنعة.
توجعني الأقنعة أكثر من وجعي بالخيانة!
أحبك لأنك متناقض.
لأنك أكثر من رجل واحد.
لأنك الأمزجة كلها داخل لحظة تأجج.
أحب إيذاءك البريء لي وأنيابك التي لا ترعف خبث
مصّاصي الدماء.
سميح القاسم في قصيدة أطفال سنة 1948م يقول:
يا إخوتي!
آباؤنا لم يغرسوا غير الأساطير السقيمة
واليتم.. والرؤيا العقيمة
فلنجنِ من غرسِ الجهالة والخيانة والجريمة
فلنجنِ من خبز التمزّق.. نكبة الجوع العضال
الشاعر العراقي الراحل سركون بولص لا يرى أن الخيانة سوداء ولا مشتعلة ولا ذات رائحة نتنة، بل يراها باردة، يقول في قصيدة مساء بارد كالخيانة:
«ما الذي يحدث؟
وهل كان من الضروري
أن يكون مساؤك متّسعاً للأضداد
ومراياك عمياء إلى ما لا نهاية..
ما الذي يحدث؟
وهل كان من الضروري
أن أهيئ كلّ شيء
ولا أحد في غرفة القلب؟
ما الذي حدث؟
كفت الأماسي عن البوح
ولا وقت
لجائحة الأمواج..
ما الذي حدث؟
انكسرت المرايا
وما زال في القلب
مساء بارد كالخيانة».
أما الشاعر العراقي بدر شاكر السياب فكانت إجابته استنكارية للسؤال، فلا الخيانة جميلة، ولا يعقل أن يكون هناك خائن لوطنه، حيث الوطن في هذا النص هو معشوقة السياب، يقول حول شوقه لبلاده العراق:
شوق يخض دمي إليه كأن كل دمي اشتهاء
جوع إليه كجوع كل دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادة!
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟
وكما علقنا استفهامنا حول الخيانة الجميلة التي أثارتها غادة السمان، فإننا نختم هذا الملف بسؤال السياب:
كيف يمكن أن يكون الخائن؟