اكتسب سروال الجينز الأزرق خلال العقود القليلة الماضية مكانة في الحياة اليومية ترتقي به من كونه مجرد قطعة لباس إلى مرتبة ذات بُعد ثقافي واجتماعي تستحق التوقف أمامها.
أطلَّ على الحياة اليومية كرمز من رموز البساطة، ينتصر للطابع العملاني الذي يجب أن يميِّز الأشياء كما نريدها في عصرنا. وعلى الرغم من أنه فقد دلالته الرمزية والاجتماعية الأولى، فإنه تابع تقدمه في كل اتجاه في العالم، وفرض نفسه على خزائن الأثرياء بعدما انطلق من بيوت العمال والفقراء.
في هذا الملف إطلالة من إبراهيم العريس وشوقي الدويهي، وبمساهمة محدودة من فريق التحرير، على عالم سروال الجينز الأزرق وتاريخه ومسيرته، علَّ في ذلك ما يفسِّر لغز تمسك العالم بقطعة ملابس موحَّدة استمدت قيمتها الأولى من بساطتها.
ما سر هذا اللباس الذي قد لا يضاهيه لباس آخر؟
قد لا يكاد يكون هناك إنسان في العالم مهما علا شانه أو تواضع، فقيراً كان أم ثرياً، إلا ويمتلك جينزاً واحداً على الأقل، وكثيرون يمتلكون عدة.
ما هو هذا اللباس الذي تراه هو نفسه ملائماً للعمل على زراعة الحديقة أو إصلاح السيارة، وأيضاً للذهاب إلى السوق ولحضور مباراة رياضية أو لقاء الأصدقاء في المقهى أو تلبية دعوتهم لتناول العشاء..وحتى الذهاب به إلى مكان العمل؟
ففي كل مكان تقريباً ومهما كانت المناسبة،الجينز مرشّح لكي يكون اللباس.
ما سر هذا اللباس الذي قد يكون قديمه مرغوباً أكثر من جديده، ويتمسك به صاحبه كلما ازداد قِدماً حتى حدود المبالغة الغامضة في ذلك؟
ما هو هذا ∩اللباس الظاهرة∪ الذي تلبسه صبحاً أو مساءً، في الحر والبرد..
لا ريب في أن أي إحصاء في أي فصل من السنة، وفي أي ساعة من اليوم، سوف يُثبت أنه اللباس الأكثر شيوعاً بلا منازع. وكم من منتج في تاريخ الإنسانية حقق هذا الانتشار والرّواج الكاسح؟
إنه محاك من خيوط ∩الجوت∪ التي تجمع نعومة الملمس إلى القدرة على مقاومة العوامل المؤثرة في الأقمشة الأخرى. وبات متوافراً بأنسجة مختلفة السماكة، ما يجعله قابلاً للارتداء صيفاً وشتاءً، حتى يمكن تشبيهه إلى حدٍّ ما بجدران الطين في البيوت القديمة، دافئة في الشتاء وباردة صيفاً. كما أن لونه الكحلي القاتم أو الأزرق الحالم يجعله سهل التماشي مع معظم ألوان قطع الملابس الأخرى. فزرقته تبرز بقوة أمام العين، ولكنها تتسم بحياد خاص يجعلها قابلة للتناغم مع باقي الملابس مهما كان لونها أو شكلها. إنه على بساطته الشديدة، يبقى واحداً من أضخم ابتكارات الحياة في العصر الحديث وأكثرها رواجاً، ويستحق التوقف أمامه.
لكل شيء بداية… عبارة بديهية مثل الكلام الذي قاله دكتور واطسون لصديقه شرلوك هولمز. ومع هذا فثمة أمور تبدو من الرسوخ ما يوحي إلى المرء أنها بلا بداية معروفة. إنها وجدت هكذا، ربما بصدفة من الصدف. من هذه الأمور سروال «الجينز»..
ولكن لسروال الجينز حكاية… وهي حكاية طويلة، لها بداية وإن كان يصعب اليوم أن تقول إن لها نهاية… فالجينز، شكلاً وقماشاً تغلغل في ثنايا كل ما له علاقة بالحياة اليومية، حتى صار أسلوب حياة.. بل أسلوب حيوات عديدة، إذ كان عليه في البداية أن يكون قوياً وديمقراطياً وللعمال الفقراء، فصار منذ ما لا يقل عن ربع قرن، وفي العالم كله، متعة للأغنياء يتباهون بها وبسعرها الباهظ. فكيف حدث هذا الانقلاب؟
البداية عند رجل واحد
للبدء بالقصة حسبنا أن نذكر اسم ليفي شتراوس، الذي لا تزال تحمله حتى اليوم، وربما زمناً طويلاً مقبلاً، أشهر السراويل، وغير السراويل، الجينز. هذا الرجل، دخل اسمه عالم الخلود بفضل نوع من القماش، وعقل تجاري واعٍ، فكان هو «المكتشف» الأول لسروال الجينز، ولن نقول المخترع الأول، لأن سر مكانة هذا السروال في قماشه. وكان قماشه مجرد بضاعة آتية من إيطاليا: أقمشة مجهزة لتتحول إلى خيام، لا سراويل. وفي ذلك التحول سرّ ليفي شتراوس وقيمة ما فعل.
فمن هو ليفي شتراوس هذا؟ من هو الرجل الذي حفزه حسّه التجاري ذات يوم من العام 1850م.، ليبتكر سروالاً، باعت شركته منه في قرن ونصف القرن، حتى اليوم، أكثر من مليار قطعة، إذا لم نذكر سوى السراويل؟
مثل الجميع في أمريكا (عدا الهنود الحمر)، أتى ليفي شتراوس من الخارج. من بافاريا في ألمانيا، حيث ولد العام 1829م. وحين بلغ الرابعة عشرة، هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة، بحثاً عن وضع أفضل. وأقامت أسرة شتراوس في مدينة لويزفيل بولاية كنتاكي بعض الوقت، ثم نزحت بعدئذٍ إلى نيويورك. وهناك، مثل ألوف غيرهم من أبناء الطبقة المتوسطة والدنيا، عاش ذوو ليفي شتراوس من تجارة القماش، عيشاً متواضعاً للغاية. كانت تلك سنوات الرواد، وكان في وسع كل ذي عقل مبتكر ونشاط يومي أن يكسب عيشاً وثروة إن عرف كيف يشتغل. وسرعان ما أحرز آل شتراوس نجاحاً متواضعاً بفضل قماش كانت تستورده من ألمانيا وإيطاليا وتبيعه في حاضرة العالم الجديد، ولا سيما في الحي الألماني. غير أن ذلك الحيز الجغرافي لم يكن من شأنه أن يرضي الشاب ليفي، الذي كان تجاوز العشرين. ففي اجتماع عائلي لدرس سبل إحراز مزيد من النجاح والغنى، تحدث المجتمعون عما يحدث في المركز الثاني في أمريكا: كاليفورنيا، حيث كان الباحثون عن الذهب يتجهون ألوفاً خلف ألوف لينشئوا مجتمعاً جديداً ويكسبوا ثروات جديدة. وإزاء استعراض الوضع قال ليفي لأخويه الأكبرين جوناس ولويس: «أعطوني القماش وسأذهب إلى كاليفورنيا».
طلب عمال المناجم
كانت تلك هي البداية الحقيقية. فبعد أسابيع قليلة، كان ليفي ينزل من باخرة ركاب في مرفأ سان فرانسيسكو، بصحبة مئات الباحثين عن الذهب. أما هو فكان محملاً بالأقمشة، أو ما كان بقي له منها، ذلك أن صاحبنا، بذكائه الموروث من أسرته، باع وهو بعد على ظهر الباخرة، معظم ما كان لديه من قماش صوف وقطن. أما ما بقي لديه فلفائف قماش سميك أزرق اللون، مصنوع في الأصل لصنع الخيام. وكان القماش مستورداً من مدينة جنوى (جينز في اللفظ الإنجليزي آنذاك). وسار صاحبنا ليفي، وهو يحمل لفائف القماش الباقية لديه ضمن قافلة باحثين عن الذهب، واتجه إلى مناطق الداخل، دون أن يدرك آنذاك أنه بدوره، اكتشف «الذهب» من غير أن يتجشم عناء دخول أي منجم. كان همّه أن يغري أي تاجر بشراء ما لديه من قماش، لكي يطلب بعدئذٍ من أخويه أن يرسلا إليه حمولة جديدة.
وصل ليفي إلى مدينة سكرامنتو، حيث التقى جماعة من عمال المناجم. وسألهم من فوره: «هل يهمكم شراء قماش لصنع الخيام؟» كان الجواب حاسماً: «لا.. بل يهمنا الحصول على قماش متين نصنع منها سراويل قوية، لا تهترئ في أيام قليلة من العمل والزحف الشاقين في التراب وبين الصخور. سراويل يمكن لنسائنا أن يغسلنها دون أن تتمزق فوراً. ولا تكلفنا مالاً كثيراً». ما إن سمع ليفي هذا حتى أضاءت الفكرة في رأسه: هذا القماش الآتي من جنوى سيتحول إلى سراويل.
هنا ظهر اسم شخص تجاهله التاريخ تجاهلاً شبه تام، إنه اسم الخياط جاكوب دبليو ديفيس، الذي كان أول خياط في التاريخ يخيط «بلو جينز». كان الأول لكن ذلك لم يفده كثيراً، عكس ما كان من نصيب ليفي شتراوس. فمنذ أن بدأ ديفيس يخيط أول سروال من هذا النوع وحتى يومنا هذا، أُهمل اسمه ولم يَبْقَ سوى اسم «ليفي شتراوس».
طبعاً، في ذلك الحين كان ليفي يعرف أنه أحرز نجاحاً… وسيحرز مزيداً، لكنه لم يكن في وسعه أبداً أن يتصور مداه. كل ما في الأمر أنه، في ذلك الحين، راح يجول في مدن «الغرب» وقراه ، يسجل الطلب، مئات وألوفاً، ليصنع سراويله في محترفه الصغير الذي أنشأه في سان فرانسيسكو. وبعد حين، عجزت جنوى الإيطالية عن تلبية كل طلب صاحبنا من قماش، ومعها مدينة نيم الفرنسية، من شدة الإقبال على ملابسه.
وما كان على ليفي شتراوس إلا أن يسجل الطلب ويراكم الثروة، وقد نسي تماماً أنه إذا كان العقل الأول في ذلك المشروع، لإدراكه قوة القماش ومتانته، فإن الخياطة المزدوجة للحوافي والجيوب، كانت ذات فضل كبير في النجاح. ولم تكن هذه الخياطة من بنات فكر ليفي ولا حتى من بنات فكر خياطه الأول ديفيس، بل ابتكار شخص عادي، كان مجرد باحث عن الذهب وفضولي يدعى الكالي آيك، واتته الفكرة يوماً فأسرّ بها إلى ليفي.
جانب غير مشرق في صناعته
ما من شاب في العالم إلا ويعرف أن هناك «مستويات» عدة من الجينز الواحد، استناداً إلى بلد صناعته الذي قد يكون الصين أو فيتنام أو أمريكا مروراً بتايلند أو بنغلاديش.. وله أن يختار منها ما يريد، من دون التوقف على ما يخبئه انتشار هذه الصناعة من مشارق الأرض إلى مغاربها.
في شهر أبريل من عام 2013م، أدَّى انهيار مصنع للملابس في بنغلادش على مَنْ فيه إلى مقتل 1127 شخصاً، وإصابة نحو 2000 بجروح مختلفة. وكانت الكارثة ذات حجم جذب أنظار العالم إلى واقع حال صناعة الملابس في دول جنوب آسيا، بما فيها صناعة الجينز، لتكشف التحقيقات عن وقائع وأرقام مخيفة ومحزنة.
فمنذ خمسينيات القرن الماضي، عندما بدأت الملابس الجاهزة بالرواج في أوروبا، التفت التجار الغربيون صوب آسيا، وبشكل خاص صوب الصين للتصنيع بالجملة فيها والاستفادة من رخص تكلفة اليد العاملة هناك مقارنة بأوروبا. ومن الصين طغت بقعة الزيت في صناعة الملابس لتشمل فيتنام وتايلند والهند وبنغلادش، وهذه الأخيرة صدَّرت في العام الماضي وحده ستة مليارات قطعة ملابس مختلفة.
حياة العامل تتوقف على 15 سنتاً أمريكياً
فيما يتعلَّق بالجينز تحديداً، يقول أصحاب المصانع إن مكوناته هي ذات تكلفة موحدة تقريباً في الصين وأمريكا وباقي دول العالم. أما الفارق الكبير فيكمن في الأجور المدفوعة للخياطة. إذ إن عامل (أو عاملة) الخياطة في بنغلادش يتقاضى 50 دولاراً في الشهر، وفي فيتنام 100 دولار، وفي الصين ارتفع إلى 235 دولاراً، في حين أنه يصل في ولاية أوكلاهوما الأمريكية إلى 1440 دولاراً وفي كاليفورنيا إلى 1800 دولار.
وفسَّر أصحاب مصانع خياطة الجينز في بنغلادش لتلفزيون «بلومبرغ» الأحوال المزرية والخطرة على السلامة والصحة في مصانعهم بقولهم إنهم يتقاضون 75 سنتاً أمريكياً على خياطة السروال الواحد. وأشاروا إلى أن الدراسات أكدت أنه فيما لو قبل الزبائن (أصحاب الماركات وتجار الجملة) رفع هذا السعر إلى 90 سنتاً، لتمكَّنت المصانع من تأمين بيئة عمل آمنة وسليمة. ولكن هؤلاء يصرّون على أن تبقى تكلفة الخياطة عند أدنى حدٍّ ممكن. الأمر الذي أقرَّ بصحته التجار. ولكنهم أضافوا أن الطلب على تصنيع الجينز يتم بشكل «وحدات» تتألف كل منها من 100 ألف سروال. أي إن كل وحدة ستكلفهم مبلغاً إضافياً قدره 15 ألف دولار، وأن المليون سروال (وهو رقم شبه عادي) سيكلِّف 150 ألف دولار إضافية.
إلا أن واحداً من أقبح الوجوه التي تكشفت عنها صناعة الجينز في آسيا، هو في الفضيحة التي انفجرت في الهند عام 2010م، عندما كشف صحافيون أن مصنعاً ينتج سراويل لصالح ماركة معروفة عالمياً، يفرض على عماله العمل لمدة 16 ساعة يومياً، مقابل 40 سنتاً أمريكياً، أي 12 دولاراً في الشهر. الأمر الذي دفع الشركة العالمية إلى إصدار بيان تقول فيه إنها تحرص على «تصنيع منتجاتها وفق مقاييسها وشروطها»، وأنها ستعالج هذه القضية. ولم يسمع أحد لاحقاً بأية تطورات طرأت على ذلك، حتى عام 2013م، عندما أعلنت الشركة نفسها أنها ستتعاون مع عشرين شركة أخرى لتفتيش المصانع المتعاقدة معها في بنغلادش للاطلاع على ظروفها، وكان ذلك عقب انهيار المصنع الكبير الذي أشرنا إليه.
أساطير متحف
في العام 1873م، وبعد عشرين عاماً من بداية «الجينز» و«الدينيم»، حصل ليفي شتراوس أخيراً على براءة الاختراع باسمه. وكان من شروط البراءة أن يواصل الرجل بيع السروال بدولار. فهل علينا أن نقارن ذلك بما يحدث اليوم حين تباع سراويل جينز من علامات تجارية عالمية، بسعر قد يصل إلى ألف دولار؟!
قبل أن تصل الأمور إلى هذا الحدّ، كان على سروال «الجينز» أن يواصل رحلة نجاحه، فيتحول من ذخر للباحثين عن الذهب، إلى زي لرعاة البقر، ثم إلى رداء رسمي لجنود الشمال، كما تدل سراويل لا تزال معروضة حتى اليوم في جناح خاص في متحف سميثسونيان في واشنطن، إلى جانب بعض أثمن القطع المتعلقة بتاريخ الولايات المتحدة وأساطيرها. ذلك أن الجينز سرعان ما دخل من باب الأسطورة والتاريخ في آنٍ. وحسبنا هنا أن نتذكر كتابي جون دوس باسوس وجون شناينبك وما جاء فيهما عن تلك السراويل، في بعض أكثر الروايات ارتباطاً بالأسطورة الأمريكية والحلم الأمريكي.
ولقد عاش ليفي حتى بداية القرن العشرين. فمات عام 1902م. ثرياً في سان فرانسيسكو، قبل أن يخطر في باله أن سرواله سيصبح جزءاً من ثقافة، ويحدث تبدلاً أساسياً في الذهنية العامة. ولا نخالنا مغالين إن قلنا هذا. فالقرن العشرون، كما كان حافلاً بالأساطير الثقافية العديدة والمتشعبة، عرف كيف يجعل «الجينز» واحدة من أساطيره، ولا سيما مع خروج أمريكا نفسها إلى العالم. وقد يصح هنا أن نقفز مباشرة إلى الأربعينيات من القرن العشرين، لنرى كيف وصل «الجينز» إلى أوروبا، بعدما كان سمة أساسية من سمات الفقر، منذ انهيار سوق مال نيويورك والركود الاقتصادي الأمريكي. وصل السروال إلى أوروبا، أولاً إلى إيطاليا، مع الجنود الأمريكيين الذين كانوا يرتدونه. وبهذا اكتشف الأوروبيون سروالاً، لم يدركوا أن أصله عندهم، مع «العلكة» (اللبان) و«الكوكا كولا» والسوبرماركت، وزمن سبق الهمبرغر.
رفيق التحول في العمارة والفن
العالم كان مستعداً لاستقباله
منذ العقد الثاني من القرن العشرين، ظهر في أوروبا ميل واضح إلى «التبسيط» في كل ما ينتجه الإنسان، تماشياً مع متطلبات الحياة في المدن الصناعية، وحتى مع فلسفة الصناعة نفسها. ففي الفن التشكيلي ظهر التجريد، وفي العمارة ظهرت لأول مرة المباني الخالية من أية زخارف، الأمر نفسه ينطبق على صناعة المفروشات والأدوات المنزلية وكل مستلزمات الحياة اليومية. وتعزَّز هذا الميل إلى تبسيط كل شيء بفعل الحربين العالميتين اللتين تركتا خلفهما الكثير من الفقراء المضطرين إلى العمل، وفي الوقت نفسه إلى الاقتصاد في مصاريفهم على المظاهر الباذخة. في ذلك الوقت بالذات، أي في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية أطلَّ الجينز برأسه في أوروبا، وكانت أوروبا مستعدة تماماً لاستقباله.
كان في أوروبا آنذاك عدد من دور الأزياء الشهيرة التي عملت على تبسيط الملابس حتى أقصى حدٍّ ممكن، وانتصرت للطابع العملي والمريح على حساب مقاييس الأناقة التقليدية كثيرة الحشو بعناصر لا لزوم لها، ومن أشهر هذه الدور دار «شانيل» التي كانت رائدة وطليعية في هذا التطوير.
ولكن تطور تصميم الأزياء هذا كان مؤشراً على تطور الحاجات العامة أكثر مما كان موجهاً إلى تلبيتها. فالملابس الجاهزة كانت شبه غير معروفة آنذاك. وبالتالي فإن خياطة الملابس بقيت غير قادرة على تلبية رغبات الناس في تخفيض مصاريفها. فاتجهت أنظار الفقراء وأبناء الطبقات الدنيا إلى هذا السروال الجاهز والمتين والرخيص.. ولهذا ارتبط سروال الجينز في أولى إطلالاته خلال تلك الفترة بالطبقات الاجتماعية الدنيا، قبل أن ينجح في اكتساح العالم خلال النصف الثاني من القرن.
ويعزو علماء الاجتماع مراحل النجاح وأسبابها إلى حركات الشبيبة التي سيطرت على الأفق الاجتماعي في النصف الثاني من القرن العشرين. بل إنهم يقسمون هذا الحيز الزمني قسمين: قبل العام 1970م وبعده. خلال القسم الأول، كان ارتداء الجينز مقتصراً على شرائح اجتماعية معيَّنة، لكنه في الوقت نفسه أصبح واحدة من علامات تزيين الطليعة الثقافية، التي رأت فيه تخلصاً منطقياً من ضغط السراويل المنمقة التي تحتاج إلى عناية وكي دائمين.
في ذلك الحين لم تكن الشبيبة قد «اكتشفته» بعد. كان «الجينز» في حاجة إلى أن يشاهد عبر الشاشة الكبيرة يرتديه جيمس دين ومارلون براندو وإلفيس برسلي، ثم فرق الروك الإنجليزية، حتى تتنبه الشبيبة في أوروبا، ثم في العالم كله إليه. وما إن أطل القسم الثاني من سنوات القرن العشرين الأخيرة، حتى تحوّل الجينز في العالم كله، من مجرد سروال، أو سترة أو أي شيء آخر، إلى علامة على نزعة طليعية. عاد ما كان أسطورة ليتحول من جديد إلى جزء من الحياة اليومية، إلى جزء من حرية الفرد في مواجهة المجتمع. لا حرية الحركة فقط بل تحرر العقل أيضاً. وإذا كان علينا أن نصل إلى خاتمة الحكاية، فالحكاية لم تنته بعد، ويمكننا الحديث عمَّا صارت إليه الحكاية الآن، وهذا أمر يدخل في نطاق ما يمكن لعلم الاجتماع، لا تاريخ الأزياء، أن يدرسه.
لغز الجيب الصغير.. وابتكار الجيبين الأماميين
فوق الجيب الأيمن من كل سروال جينز يوجد جيب صغير، غير مستخدم عملياً لأي شيء. ولكنه هناك «لزوم ما لا يلزم».
وفي البحث عن أصل هذا الجيب تبيَّن أنه كان في ثمانينيات القرن التاسع عشر أكبر بقليل مما هو عليه اليوم، وأن ليفي شتراوس أضافه إلى التصميم لأن رعاة البقر كانوا يربطون الساعات التي يحملونها بسلاسل إلى سراويلهم ويخبئون الساعة تحت الحزام، فكان هذا الجيب الصغير لوضع الساعة فيه أولاً. ثم صار يُستعمل لوضع شذرات الذهب الصغيرة التي يعثر علهيا الباحثون عن الذهب في كاليفورنيا. كما يُروى أن البعض كان يستخدم الجيب الصغير لحمل النقود الذهبية وفصلها عن الفضية الكبيرة والأشياء الأخرى التي كانت تُحمل في الجيب الكبير.
ولأن السراويل التقليدية في القرن التاسع عشر، كانت إما من دون جيوب، أو ذات جيب أو جيبين جانبيين، ابتكر ليفي شتراوس الجيبين الأماميين لحمل أشياء، قد تكون مهددة بالسقوط من الجيب الجانبي، خاصة عند ركوب الخيل. أما الجيبان الخلفيان، فواحد منهما كان للمنديل، والآخر للاستعمال الحر.
واليوم، لا يزال الجينز التقليدي بجيوبه التقليدية الخمسة. غير أن الاستعمالات تبدلت. فمن الجيوب الخلفية يستعمل الكثيرون واحدة فقط لحمل المحفظة، والجيبان الأماميان للنقود والمفاتيح (يضيف البعض إلى ذلك التلفون). أما الجيب الصغير فيبقى مجرد تذكار من القرن التاسع عشر.
في كتابه شبه المنسي اليوم «نحو التحرر»، يتحدث عالم الاجتماع الألماني الأمريكي هربرت ماركوزه، الذي يُعد من أبرز المفكرين الذين درسوا وحللوا حركات الشبيبة العالمية في الستينيات من القرن الماضي، مفسراً كيف استوعب سادة العالم وسادة الشركات هذه الحركات، وكيف تمكنت الشركات والمؤسسات والأنظمة المهيمنة من استيعاب الفنون وأفكار التمرد الطليعية وإعادة توظيفها، حتى فقدت جوهرها وبقي شكلها. فضرب أمثلة من لوحات أندي دارهول والسوريالية وما إلى ذلك… وصولاً إلى أغاني البيتلز، التي صارت جزءاً من أرقام أعمال تقدر بالمليارات، وكانت نهضت في الأصل اعتراضاً على هذه الثروات التي تجمعها أيدٍ قليلة. والمؤكد أن هذا التحليل النافذ، وإن كان يبدو خارج إطار الدارج في زمننا هذا، يصح على سراويل ذلك الشاب الذكي الذي انتقل ذات يوم من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، محملاً قماشاً لا يعرف ماذا يعمل به أو من سوف يشتريه: فهي بعدما كانت اعتراضاً على المجتمع ورهافته الكاذبة، صارت اليوم جزءاً من هذا المجتمع. جزءاً من كماليات هذا المجتمع وأساطيره، حتى وإن بدت للوهلة الأولى ديمقراطية، إذ يرتديها الغني والفقير في الوقت نفسه. فالحقيقة أن ليفي شتراوس، الراحل سعيداً بأفكاره وثروته، قبل مئة عام ونيّف، ما كان ليتصور أبداً في حياته أن سروالاً يحمل اسمه سوف يباع ذات يوم بما يساوي دخل عائلة متوسطة، شهراً في بلد متواضع، من دون ذكر سراويل «جينز» تطرز بالجواهر، وتباع بسعر يناسب اسم العلامة التجارية، لا نوع القماش ومتانته. وقد وصل الأمر إلى بيع أحد نماذجه المصوغة عام 1880م، بمبلغ 46,532 دولاراً في صفقة على شبكة التجارة الإلكترونية.
ولكن هذه المغالاة نفسها في السعر، لن تكون أبداً قادرة على محو الأسطورة، طالما وجد في طول العالم وعرضه ألوف المصانع تنتج كل يوم ملايين السراويل وغير السراويل، تباع بسعر يراوح حقاً، وحتى اليوم، بين دولار أو دولارين، شغل تايوان، وألف وألفين من الدولارات للقطعة الواحدة!
الجينز في البلاد العربية
دخل الجينز إلى البلاد العربية من بوابة بيروت، وتحديداً من محيط الجامعة الأمريكية فيها. وتاريخ هذا الدخول موثق بدقة.
فقد اكتشف سكان بيروت هذا السروال عقب الإنزال البحري الأمريكي في بيروت إبان أحداث عام 1958م. ورافق هذا ظهور الأحذية الرياضية الخاصة بلعبة كرة السلة، التي لم يعد انتعالها مقتصراً على مزاولي الرياضة، إنما أمسى يحل تدريجاً محل الأحذية العادية لدى فئات الشباب.
وقد خطرت فكرة الاتجار بسراويل الجينز يوم لاحظ أحد أبناء آل الخوري، حين كان يرتاد ملاعب الجامعة الأمريكية، شباناً يزاولون بعض ضروب الرياضة وهم يرتدون هذا الزي. وبعد اطلاعه في المجلات على شؤون هذا الزي وشجونه، لم يتأخر والد الشاب عن الأخذ بفكرة ولده، القائلة إنه يمكن الاتجار به، على الرغم من المجازفة الكبيرة. ذاك أن هذا الزي، إضافة إلى كونه جديداً، فهو غامض الهوية بين الألبسة، أي إنه لا يَدرُج في أي باب من أبوابها المعروفة، فهو بهذا خارج التصنيف التقليدي.
كانت الجامعة الأمريكية المعبر الأول الذي عبر منه هذا الزي إلى المدينة وسوقها. وبهذه الصفة لم يسلك المسار الذي سلكه في أمريكا، حيث تحوّل من زي للعمال في بدايته ليصبح فيما بعد زياً للمثقفين، بل ربما يمكن القول إنه سلك المسار الذي عرفته أوروبا على هذا الصعيد.
وشاع الجينز في لبنان عند فئات جديدة. فإذا كان في بدايته مقتصراً على فئات الشبان من الذكور الذين لم تكن أعمارهم تتجاوز عشرين سنة، أي ما يمكن تبويبه في أولى سنوات الدراسة الجامعية، فالملاحظ أن الفتيات لم يتأخرن عن التهافت عليه بعد مدة قصيرة، أي بدءاً من أواسط الستينيّات. غير أن التهافت هذا الذي ظل في الحقيقة، محدوداً إلى حدٍّ ما، لم يؤدِّ إلى صنع زي خاص بهن، زي «يحترم» خصوصيتهن.
لكن الجديد على هذا الصعيد، ظهر يوم بدأت الفتيات ارتداء هذا الزي متعدد الألوان، فصرت ترى فيه الأخضر والأسود وأحياناً الأحمر. وفي بداية السبعينيّات، ومن أجل الترويج للجينز لدى فئات عمرية أكبر، كتب صاحب محلات خوري لافتة علقها عند مدخل محله: «للأهل والأولاد». وكان طبيعياً أن يرافق هذا الأمر شكلٌ جديد من الجينز غير شكله التقليدي المعروف. وأهم ما حدث على هذا الصعيد اعتماد «الغمزات» في خياطة خصر الجينز، وجعل جيبه شبيهاً بجيب السروال الرجالي العادي، أي على الجانبين، بدلاً من أن يكون من الأمام عند الزنار. غير أن التحول هذا وإن لعب دوراً في الترويج للزي الجديد لدى هذه الفئة، إلا أن الجينز ظل عند هذه الفئة زياً خاصاً بعطلة نهاية الأسبوع، ذاك أن النظرة إليه لم تخرج عن كونه زياً يتميز بالخفة، إن لم نقل عدم لياقته.
ظلَّ الاسم التجاري الوحيد في السوق ذلك المسمى «ليفايز» الذي وفّر ثلاثة طرز (موديلات) فقط، أشهرها طراز 501 الشهير.
لم يطرأ جديد على التحوُّل الذي ذكرنا حتى بداية الثمانينيّات، فخلال تلك السنوات تحوَّل الجينز من الشكل التقليدي إلى الشكل المسمى «فاشن» (Fashion). ويبدو أن الانتقال هذا لم يكن ممكناً لولا دخول الجينز الأوروبي إلى السوق. وشهدت تلك المرحلة، على ما يبدو، انقلاباً فعلياً في هوية زبائن هذا الزي. فبعدما كانت نسبة مبيعه لدى الشبان هي العليا، تساوت النسبة لدى الشابات مع الشبان، فأصبح لدى عديد منهن جزءاً من خزانة ملابسهن لمجموعة الجينز، ولم تعد النظرة إليه خاصة فيما يتعلق بهن، نظرة يشوبها كثير من الالتباس، إن لم نقل من عدم اللياقة.
حجم صناعته وسوقه
تستهلك أمريكا الشمالية نحو 39 في المئة من إنتاج العالم من سراويل الجينز، تليها أوروبا الغربية بنحو 10 في المئة ومن ثم اليابان وكوريا 10 في المئة وباقي دول العالم 31 في المئة. ولأن اليد العاملة الآسيوية هي أرخص تكلفة بشكل ملحوظ مما هي عليه في أوروبا أو أمريكا، كثرت في العقود الثلاثة الأخيرة مصانع الجينز في الصين وتايلند وسريلانكا والهند، التي تصدِّر منتجاتها إلى البلدان الغربية.
ويقول مدير مصنع برانديكس، الذي بلغت تكلفة إنشائه 10 ملايين دولار، في سريلانكا، أن مصنعه ينتج ثلاثة ملايين سروال جينز في السنة، وإن العمال يستغرقون حوالي 13 دقيقة لتفصيل وخياطة السروال الواحد ذي الخمسة جيوب، وتبلغ تكلفته الأصلية نحو 6 دولارات، أما زبائنه الذين يضعون اسمهم على المنتج فيبيعونه في أوروبا وأمريكا بنحو مئة دولار. وفي العام 2005م، صرف الأمريكيون 15 مليار دولار على شراء سراويل الجينز. ولكن هذا الرقم انخفض في عام 2011م إلى 13.8 مليار دولار. والسبب في ذلك ظهور منافس جديد لسروال الجينز، ألا وهو السروال الرياضي الفضفاض للرجال، وسروال «اليوغا» الضيِّق للنساء.. فهل بدأ الجينز يفقد زعامته على عرش الملابس الشعبية في العالم؟
في أي حال، أمسى هذا كله من الماضي، إذ إن هذا الزي أضحى بدءاً منذ أواسط التسعينيّات زياً يُعد زبائنه من الجنس اللطيف الكثرة الواضحة. وفي هذا يُجمع أصحاب محالّ الجينز على أن مبيعاتهم لدى الفتيات تفوق سبعين في المئة، شأن نسب مبيعه في العالم.
ويلاحظ على هذا الصعيد أن الجينز الذي يصنع في الصين وبعض بلدان شرق آسيا، صار يستأثر تقريباً بثمانين في المئة من البضاعة في السوق. أما الباقي فيصنع في فرنسا أو إيطاليا.
ومن بيروت انطلق الجينز إلى باقي الدول العربية ولا سيما سوريا والعراق ودول الخليج العربي. فكثير من طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت كانوا من أبناء هذه الدول، ولعبوا دوراً كبيراً في تعريف هذا الزي في بلدانهم التي كانت في البدء ترتاب حياله. إذ كان هذا الزي عندها رمزاً من رموز طريقة العيش الأمريكية. ولكنها، تدريجاً بدأت بالارتياح إليه، أو لنقل باتت تقابله بلا مبالاة، إن كان ارتداؤه لا يخرق في بعض الظروف القيم الاجتماعية المتعارف عليها.
والواقع، أن المواقف الاجتماعية من ارتداء سراويل الجينز ليس واحداً في العالم. والشرائح الاجتماعية المحافظة في البلدان العربية، ليست وحدها في التطلع إلى سروال «الجينز» بعدم الرضا. ففي كثير من الدول الآسيوية مثل الهند والنيبال وميانمار، ظل ارتداء الفتيات لسراويل «الجينز» غير مقبول اجتماعياً حتى سنوات قليلة خلت، ولربما لا تزال المدن الصغيرة والأرياف على نظرتها المتحفظة هذه حتى يومنا هذا.
أقمشة ممزقة على الموضة
من عناصر «التجديد» التي أضيفت إلى سراويل «الجينز» في السنوات الأخيرة، تجديد ما كان في إمكانه أبداً أن يخطر ببال ليفي شتراوس، يوم كان يضاعف إنتاج السراويل المصنوعة من ذلك القماش السميك، ليضرب سوقاً تزيد طلبها. لكن هذا التجديد يتلاءم مع سمعة قماش هذه السراويل منذ البداية بصفته قوياً صلباً. فمنذ عقد ونصف العقد من السنين، بدأت تظهر (موضة) السراويل الممزقة. حتى صار السروال الممزق، أو المشروخ هنا وهناك، يباع بأغلى من السروال غير الممزق، على أساس أن التمزيق يتطلب وقت الخياطين، ناهيك بأن التمزق نفسه يعد دليلاً على قوة القماش ومتانته. وهذا صحيح إذ إننا نعرف أن ليس ثمة في العالم، إذا استثنينا قماش الجينز، أي قماش يخدش أو يمزق، ويبقى الخدش أو المزق في حدوده. فأي شرخ في القماش يزداد اتساعاً من فوره ليشمل قطعة القماش كلها. أما قماش الجينز فعسير جداً على أي شرخ. ومن هنا انتشرت هذه الدُرجة، ولا تزال حتى الآن، وصار الخياطون يتفنون في أماكن التمزيق، إلى درجة صار معها ارتداء سروال جينز ممزق، دليلاً على الطليعية وربما الثراء أيضاً!
عند حدود الاحترام
رغم شيوعه، لم يستطع سروال الجينز أن يتجاوز بعض الخطوط الحمراء التي تصده في بعض الظروف والمناسبات، وفي كل مجتمعات العالم تقريباً.
فبسبب خطابه الذي يقول بالبساطة والتواضع، واللامبالاة إذا كان السروال معتقاً أو ممزقاً، يصبح ارتداء الجينز غير مستحب (أو حتى غير مقبول بتاتاً) في المناسبات التي تشكِّل فيها اللامبالاة إهانة، مثل اللقاءات الرسمية وحفلات الأعراس والمآتم ولقاءات الشخصيات المهمة. فإذا كان مقبولاً أن يتقدَّم شاب إلى وظيفة معيَّنة وهو يرتدي سروال جينز شبه جديد وحسن الصُنع، فمن غير المقبول بتاتاً أن يرتدي سروالاً من الجينز الممزق عندما يكون على موعد مسبق مع مديره، مهما غلا ثمن هذا السروال.
فحُسن المظهر وفق المقاييس التقليدية لا يزال قيمة تفرض نفسها على مناسبات عديدة، حيث لا مكان للجينز.. وفي ذلك رسم للحدود ما بين المجالات التي يمكن تقبل البساطة واللامبالاة فيها من جهة، وتلك التي تصبح فيها البساطة إما تعبيراً عن قلة الاحترام، وإما مجرد ادعاء بساطة.
فصحيح أن بعض رؤساء الجمهوريات ظهروا أمام عدسات التصوير بسراويل الجينز (كان أولهم الرئيس الأمريكي جيمي كارتر)، ولكن علينا أن نتذكر أن حراسهم وخدمهم لم يظهروا يوماً إلا ببذلاتهم الرسمية وربطات العنق. فالمسألة مسألة تراتبية، لم يتمكن الجينز إلى الآن من تحطيمها.
الجينز… سلاح في الحرب الباردة
بعد الحرب العالمية الثانية، انقسمت ألمانيا قسمين: غربياً تحتله الدول الغربية الثلاث التي انتصرت في الحرب، وهي الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، وشرقياً يحتله الاتحاد السوفياتي. وفي سنة 1948م، أخذت الأمور تتحسن على الصعيد الاقتصادي في القسم الغربي الذي سمي: جمهورية ألمانيا الاتحادية، فيما كان الوضع الاقتصادي في شرق البلاد الذي سمي: جمهورية ألمانيا الديمقراطية، لا يزال سيئاً. وكان لهذا سبب واضح، هو أن الولايات المتحدة التي لم تمسسها الحرب في أراضيها خرجت مزدهرة بصناعة نشطتها الحرب ولم تلحق بها الضرر الذي شهدته الأرض الأوروبية. ولم تكن الولايات المتحدة بحاجة إلى الألمان ولا إلى مصانعهم ولا حتى إلى التعويض الذي تقرر أن تدفعه ألمانيا للحلفاء. أما الاتحاد السوفياتي الذي خرج مثخناً بالخراب، فبدأ ينقل كثيراً من المصانع من الجانب الشرقي من ألمانيا إلى أرضه، بدل التعويض الذي أقر له بموجب تسوية ما بعد الحرب. وسرعان ما أخذ هذا الفرق يظهر في مستوى عيش الجانبين الغربي والشرقي في ألمانيا، التي كان كثير من العائلات منقسماً فيها بين الدولتين، ولا سيما في برلين التي كانت جزيرة في قلب ألمانيا الشرقية، وكانت منقسمة هي نفسها إلى أربعة قطاعات: أمريكي وفرنسي وبريطاني وسوفياتي.من داخل برلين الغربية هذه، التي تتوسط ألمانيا الشرقية، ومن داخل أرض ألمانيا الغربية المتاخمة، كان الاتصال بين الألمان في البدء ميسوراً، لكنه أخذ يضيق شيئاً فشيئاً، مع بداية الحرب الباردة.
وحين بدأ فارق مستوى العيش بين الألمانيتين يتسع، كانت الإذاعة تتولى إخبار الشرقيين ببعض ما حُظر عليهم سماعه من تقدم عند أقربائهم في الغرب. وصدف أن ظهرت التلفزة في ذلك الوقت. كانت الرقابة الشيوعية الصارمة قادرة على منع المنشورات والصحف والكتب الآتية من الغرب، أما موجات الأثير والبث التلفزيوني فكان أمرهما صعباً. كان الشيوعيون المتشددون والحزبيون التقليديون ينظرون نظرة ارتياب إلى الملابس التي تروج في الغرب وتستهوي أذواق الشرقيين، ولا سيما الشبان. وكانوا يصنفون هذا التأثر على أنه «تأثر بنمط حياة بورجوازية فاسدة»، ويخشون أشدّ الخشية أن يتسع التأثر من الجانب الاجتماعي إلى الاقتصاد والسياسة. وحين أخذ الخياطون في ألمانيا الشرقية، يسايرون ذوق زبائنهم من الشبان الراغبين في شيء مما يروج في الغرب، مثل الجينز، كانت الجودة أدنى مرتبة والوقت متأخراً سنوات عن زمن بدء دروج الملابس في الغرب. وفي سنة 1961م، شيَّد الشيوعيون جدار برلين، الذي أحاط برلين الغربية في بعض المناطق التي تتلاصق فيها الأحياء، مع أحياء برلين الشرقية. لكن هذا الجدار الذي قلَّص احتمال الانتقال أو الهرب من شرق المدينة إلى غربها، لم يستطع بالطبع أن يمنع انتقال البث الإذاعي والتلفزيوني، من غرب المدينة إلى شرقها. كانت ألمانيا حالة خاصة في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، لأن الألمان الشرقيين لغتهم الأم هي نفسها لغة الألمان الغربيين، بل إن التماس بين الجانبين كان وثيقاً يصعب فكاكه. ولم تكن حالة تشيكوسلوفاكيا أو المجر أو بولندا، وهي دول انتقلت إلى المعسكر الشرقي موحدة غير مقسومة. كانت اللغة والصلات الاجتماعية الألمانية حصان طروادة الذي اقتحم المعسكر الشرقي، من بوابة براندنبرغ، رمز الحدود بين البرلينين، في جادة أونتر دن ليندن.
في هذه الحقبة من التاريخ بالضبط، كان الجينز ينتشر بين الشبان في الغرب انتشار النار في الهشيم، ولم تكن ثورة الطلاب في فرنسا سنة 1968م تدفع في اتجاه معاكس، بل إنها فاقمت الأمور لدى العقائديين المتشددين في المعسكر الشرقي. وعندما جاءت السبعينيات من القرن الماضي، كانت موضة الجينز والقمصان البسيطة قد غلبت على لباس الشبان في ألمانيا الغربية. وساعد في ذلك اشتداد الوضوح في تباين الوضعين على الصعيد الاقتصادي، في كل من جانبي البلاد. إذ كان النجاح بادياً في الغرب، ولم يكن ما في الشرق يشبهه على الإطلاق. أما التأثير فلم يكن يأتي من البث الإذاعي والتلفزيوني من ألمانيا الغربية وحدها. فبعد اعتماد فيلي برانت، مستشار ألمانيا الغربية آنذاك، سياسة الانفتاح على ألمانيا الشرقية، أخذ الأولاد والشبان الشرقيون يتلقون من أفراد عائلاتهم المقيمين في الغرب، بل حتى في أمريكا نفسها، ملابس وهدايا. وكان الجينز من أفضل ما يتوقعونه منهم. والجينز رخيص في الغرب.
أضف إلى ذلك أن الرقابة نفسها التي أنشأتها الحكومة الألمانية الشرقية الشيوعية على المطبوعات، لم يكن ثمة ما يوازيها في مجال مراقبة البث الإذاعي أو التلفزيوني. ومع أن المعسكرين كانا يشوِّشان بعضهما على إذاعات البعض الآخر في خضم الحرب الباردة، إلا أن الغريب في هذه الحرب أن ألمانيا الشرقية لم تشوش على البث الإذاعي والتلفزيوني الآتي من ألمانيا الغربية. صحيح أن الاستماع إلى إذاعات الغرب ومشاهدة تلفزيونات الجانب الآخر، كان ممنوعاً في القانون الألماني الشيوعي آنذاك، إلا أن الجميع كان يستمع إلى هذه الإذاعات. وكان البث التلفزيوني من برلين الغربية ومن ألمانيا الغربية نفسها يصل إلى معظم أراضي ألمانيا الشرقية، عدا قليل من المناطق التي كانت جبال تحجب عنها هذا البث. ويرى عدد كبير من علماء الاجتماع أن مشاهدة أسلوب العيش الغربي، ولا سيما اللباس والرفاه، كان أشد أثراً في الشرقيين من الدعاية السياسية المباشرة التي كان الغرب يبثها عبر وسائل إعلامه الكثيرة والمتنوعة. ولم يقتصر ما يشاهده الألمان الشرقيون في هذه الوسائل على ما ينتجه إخوانهم الغربيون، بل إن نسبة كبيرة من المادة التي كانت تصل إليهم كانت مادة أمريكية وأفلام «كاوبوي» أو أفلاماً اجتماعية تلفت الانتباه بما يرتدي فيها الأبطال من ملابس على الطريقة الأمريكية. والجينز في الطليعة. ويعرف الذين تسنى لهم السفر إلى البلاد الشيوعية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أيام النظام الشيوعي، أن الملابس كانت على رأس قائمة السلع المشتهاة في تلك البلاد آنذاك، حتى إن الطلاب الذين كانوا يهرّبون سراويل الجينز أو جوارب النساء «النايلون» كانوا يسدِّدون جزءاً ملحوظاً من نفقاتهم هناك من بيع هذه المهربات التي كانت غير قانونية. وأما السكان في تلك البلاد، فكانوا يدخرون ما أمكنهم من عملة صعبة، بل صعبة جداً، لشراء هذه الملابس المهربة، وفي طليعتها سلاح خطير في الحرب الباردة اسمه… الجينز.
الجينز والبيئة
على الرغم من أن سروال الجينز الأزرق يُغسل أقل من غيره من الملابس كالقمصان البيضاء وما شابهها، إذ تقدِّر الأوساط العلمية أن معدَّل ما يستهلكه سروال الجينز الواحد من الماء على مدى عمره يبلغ نحو 3479 ليتراً، ويشمل هذا الرقم الماء اللازم لري قطنه وتصنيعه وغسله. غير أن قضية الجينز على المستوى البيئي تصبح أخطر من ذلك، عندما يتعلق الأمر بسراويل الجينز ذات المظهر المستعمل. فلإضفاء هذا المظهر، تستخدم المصانع مجموعة من المواد الكيميائية مثل برمنغانات البوتاسيوم، والهيبوكلورايت والفينول وبعض الراتنجات والأحماض. ومن وسائل تعتيق الجينز غسله بالرمال أو حكه بورق الزجاج.. واستنشاق غبار هذه المواد يمكنه أن يؤدي إلى مرض رئوي يُعرف باسم «سيليكوزيس». وتذكر موسوعة ويكيبيديا أن مصانع الجينز في تركيا، شهدت خمسة آلاف إصابة بهذا المرض، انتهت 46 منها إلى الوفاة. مما حمل عدداً
من شركات تصنيع الجينز على إعلان امتناعها عن استخدام ورق الزجاج والرمال في «تعتيق» الجينز.في أواخر عام 2010م، أجرت منظمة «غرين بيس آسيا» استطلاعاً لأحوال منطقة كسينتا في الصين، التي تُعد عاصمة صناعة الجينز في العالم بإنتاجها البالغ 260 مليون سروال سنوياً، أي ما يوازي 60 في المئة من إجمالي إنتاج الجينز في الصين و40 في المئة مما يباع في أمريكا خلال العام الواحد.
وجاء في التقرير الذي نشرته المنظمة على موقعها أن تحليل 21 عينة من مياه هذه المنطقة، أكد احتوائها على خمس معادن ثقيلة هي الكادميوم، الكروميوم، الزئبق، الرصاص، والنحاس، المتأتية من صناعة قماش الجينز وصباغته وتعتيقه. وأن نسبة الكادميوم بلغت في إحدى العينات 128 مرة الحد الأقصى المسموح به في الصين.ونسب التقرير إلى شهود عيان وعمال أن معظم العاملين في صباغ الجينز وغسله، يعانون من متاعب صحية متفاوتة الخطورة، ينتهي كثير منها بأورام رئوية قاتلة، وفقدان القدرة على الإنجاب.
ويُروى أن شركة «ليفايز» طرحت مؤخراً جينزاً صديقاً للبيئة، مصنوعاً من القطن العضوي (غير النباتي)، ومصبوغاً بمواد صباغة طبيعية، ويحمل زراً على الوسط من قوقعة جوز الهند الطبيعي، والورقة التي تحمل السعر مصنوعة من الورق المعاد تدويره، ومطبوع عليها بحبر من الصويا (الصديقة للبيئة)، أما السعر المطبوع على الورقة فهو بكل بساطة 250 دولاراً.
