نحن نحتفي بالاختلاف ونعزّز الفروقات، توّاقينَ إلى إبرازها بأي ثمن، لأن وجودنا الذي يؤسّس للحياة تماماً كما يصوغها بشكلها الإنساني يقوم على التمايز والتعددية. فالحياة لا تستقيم بلون واحد.. إن الحياة لا تحيا بالتطابق، وكلمة فرد – التي تشير إلى الشخص الواحد – هي جذر الفرادة والتفرّد التي تعني الاختلاف المُرام. ومع ذلك يأتي مفهوم التوأم ليتحدّى الاختلاف، ويجعله في كثير من الأحيان أكثر إثارة منه، بل ربما يحيل التماثل والتطابق إلى اختلافٍ قائم بذاته.
أن تكون مختلفاً أمر عادي جداً. أما أن تكون مطابقاً، شقاً مماثلاً مشتقاً من ثنائي، توأماً بشرياً لآخر وربما لثالث ورابع، صورة لآخر أو لآخرين كما تبدو الصورة في المرآة، فهذا هو «الاختلاف» المثير بحد ذاته. فالتماثل البشري التوأمي المنسوخ يسوق لنا عبرةً لا تخلو من ورع: يا لغرائب الحياة!
في هذا الملف، تأخذنا حزامة حبايب إلى عالم التوأم بكل مضامينه، حيث الواحد هو مثيل للآخر، قرين له، مرآته التي يعاين فيها نفسه، حتى وإن أصرَّ على أنه غير.
في التعريف القاموسي المقنّن، التوأم هو القرين وهو الشبيه بمعنى التماثل الشكلي أو التطابق الجسدي، قبل أن يتم استثمار المصطلح ومطّه ليشمل القرين النفسي والروحي، ليس بمعنى التماثل والتطابق فحسب وإنما بمعنى التكامل والاحتواء. فتوأمك هو الآخر الذي يكملك، يملأك، حتى كأنّك دونه تراك ناقصاً لا محالة. و«التوأم» أيضاً كمفردة تأتي بمعنى الصنو والنظير واللصيق، متخطياً التشابه والتماثل إلى الاندماج والالتحام.
وإذا لم نكن توأماً لآخر أو توأماً لشيء ما، لعاطفة خبيئة، لحقيقة مواربة، لحياة ممكنة وقابلة جداً، فإن في داخل كل منا مساحة تحتاج إلى توأم ما يكمله ويتكامل معه.
في الخارطة الثقافية البشرية واسعة الامتداد، حيث تقتات المخيلة الإنسانية على اللامنطق واللامعقول أكثر من ارتياحها إلى حصافة العلم الجاف، فإن التوائم الذين يبدو أن الجسد والروح مستنسخان مرتين وأكثر فيهم أثارت -كظاهرة- حالة من الدهشة تراوحت بين البهجة والخشية، بين القبول والرفض، بين اغتباط الفكرة ومعاداتها. وعبر التاريخ، وقف الإنسان يتأمل التطابق الخلقي، مطوراً تفسيراته وقناعاته إزاءها. فأبناء حضارة المايا رأوا في التوائم -خاصة المتطابقة- نعمة، منبهرين بفكرة جسدين متماثلين تماماً، معتقدين بأن أزواج التوائم فعلياً إنما روح واحدة تشظّت وانقسمت إلى اثنين أو أكثر. وفي روما القديمة، فإن أسطورة رومولوس وريموس، الشقيقين التوأمين، اللذين ربتهما ذئبة وأسسا مدينة روما جعلت من ولادة التوائم الذكور نعمة، لكن التوائم الإناث كان ينظر إليهن كعبء؛ وسيء الطالع هو من يُرزق بهنّ؛ ذلك أنه بحسب نظام المهور الأوروبي الغابر كان يتعين تأمين مهر مضاعف للبنتين التوأمين في الوقت عينه!
وفي أوروبا خلال القرون الوسطى التي وسمها الجهل وغلفتها الظلمات في جلّ جوانب الفكر والحياة، كان الويل ثم الويل لمن تحمل بتوائم، خاصة إذا كانا توأمين غير متطابقين أو ذكراً وأنثى، فهذا البرهان القاطع على أن كل واحد منهما جاء من أب مختلف، وهو ما يعني أن الوالدة زانية وتستحق الموت! فكم يا ترى عدد النساء اللاتي رُحن ضحايا مظلمة الجهل؟! نستطيع فقط أن نتخيل!
ونذهب إلى إفريقيا الغربية، ففي أجزاء واسعة منها يحتل التوائم مكانة مميزة في الثقافة الشعبية. من بين هذا الشق الأثير من إفريقيا مالي، إذ تعتنق إثنيّتا بامانا ومانينكا العديد من المعتقدات والممارسات التي تعلي من قيمة التوائم وتضمن بقاءهم، حيث تتراوح معدلات إنجاب التوائم في هاتين الإثنيّتين بين 15.2 و17.9 لكل ألف ولادة طبيعية، دون الخضوع لأية مساعدة طبية. ويُنظر إلى التوائم في حضن البامانا والمانينكا باعتبارهم «كائنات» خارقة، يتمتعون بقوى غير عادية، تُقدم من أجلهم القرابين من الدجاج والدماء وجوزة الكولا الغالية وذلك لحمايتهم من الأذى ودرء الشرور عنهم.
أشكال وأنواع
تتصدر مفردة «التوأم» القواميس والمعاجم في معناها العلمي الأكثر تداولاً، فيُعرَّف التوأم بأنه أحد طفلين يولدان من حمل واحد. وقد يكون التوأمان «متطابقين» أو «متماثلين» أو كما يشار إليهما علمياً بـ «Monozygotic»، أي يتطوران من بويضة ملقحة واحدة تنقسم مشكلة جنينيْن، أو قد يكون التوأمان «شقيقين» أو «غير متطابقين»، حيث يشار إليهما علمياً بـ «Dizygotic».
وفي العادة ينجم هذا النوع من التوائم غير المتطابقة حين يتم زرع بويضتين ملقّحتين بصورة مستقلة ومنفصلة في جدار الرحم في الوقت نفسه، فيكون الشبه بين التوائم هنا كالشبه المتوقع بين الأشقاء، أو قد لا يكون ثمة شبه قريب فيما بينهم! والحديث عن الشبه يدعونا للوقوف عند مصطلح «Zygosity» العلمي، الذي يشير إلى درجة التطابق في الخريطة الجينية للتوائم. يمكن في هذا السياق تحديد خمسة أنواع أو أشكال من التوائم، الثلاثة الأكثر شيوعاً منها توائم غير متطابقة، وهي على النحو التالي:
•
توأمان ذكر وأنثى، وهما الأكثر شيوعاً من بين كافة أنواع التوائم. وتشكل هذه الحالة قرابة خمسين في المئة من التوائم غير المتطابقة.
•
توأمان أنثيان غير متطابقين، حيث يشكلان حوالي ربع التوائم غير المتطابقة عموماً.
•
توأمان ذكران غير متطابقين ويشكلان قرابة الربع من بين التوائم غير المتطابقة.
أما النوعان الآخران الأقل شيوعاً فهما:
• التوائم الأنثوية المتطابقة.
•
التوائم الذكرية المتطابقة (وهما الأندر من بين كافة أنواع التوائم).
وفي هذين النوعين، فإن التوأمين، سواء أكانا ذكرين أم أنثيين، متطابقان جينياً، أي لهما الخريطة الجينية نفسها.
في اللغة الإنجليزية يشار إلى التوائم بـ «twins» وهو مصطلح مشتق من الكلمة الألمانية القديمة «twin» أو «twine»، التي تعني «اثنان معاً»، ولعل هذا ما جعل مصطلح التوائم عند الكلام عنه أو الإشارة إليه يوحي بالثنائية، وهي ثنائية خرجت من الرحم البشري إلى رحم المجاز؛ فبات التوأم كمصطلح يستخدم للإشارة إلى شق مماثل من اثنين، وجه مطابق لآخر، ونصف مكمّل لثانٍ.
التوائم في الغالب -وضمن سياق التعريف السائد للمصطلح- ثنائية، وبصورة أقل شيوعاً قد تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وأكثر، وهو أمر لم يعد يُقابل في السنوات الأخيرة بكثير استهجان مع انتشار تقنيات التخصيب الصناعي، التي يفترض أنها اشتُقّتْ في المنطلق لمعالجة العقم المؤقت أو معوقات الحمل، والتي أحالت رحم المرأة إلى حاوية تتسع لعدد كثير من الأجنة – قد تصل في بعض الحالات إلى عشرة في صفة كنا – حتى عهد قريب – نخالها «أرنبية» أي مقتصرة على الأرانب!
والحق أنه حتى تاريخه، سجِّلتْ حالتان لثمانية توائم بشرية ولدوا أحياء؛ الأولى هي حالة توائم «عائلة تشاكوو»، وهي عائلة أمريكية من أصول نيجيرية رزقت في ديسمبر من العام 1988م ثمانية توائم، بعدما حملت الأم بمساعدة التلقيح الصناعي. وتألّف التوائم من ست إناث وولدين، وتوفيت إحدى الإناث بعد وقت قصير من ولادتها، وعاش التوائم السبعة. أما الحالة الثانية فمسرحها الولايات المتحدة أيضاً حين وضعت الأمريكية نادية سليمان ثمانية توائم، ستة أولاد وبنتين، دفعة واحدة وذلك في يناير من العام 2009م، بتدخل طبي أيضاً، مسجلةً رقماً قياسياً في عدد التوائم الذين وُلدوا من بطن واحدة وما زالوا حتى اليوم على قيد الحياة. وثمة حالات محدودة لحمل بتسعة توائم، حيث ولد عدد من الأطفال أحياء وإن عانقوا الحياة لأيام محدودة. كذلك، تضم السجلات الطبية الموثقة حالات حمل بدأت بعشرة أجنة وأحد عشر وخمسة عشر جنيناً، جميعها ناتجة عن التلقيح الصناعي أو التقنيات الطبية المساعدة في الإنجاب. على أن هذا لا يعني أن ولادات التوائم لا تتم إلا بالتخصيب أو بالتدخل الطبي، فهناك حالة موثقة لحمل طبيعي باثني عشر جنيناً وإن لم يولدوا على قيد الحياة.
ندرة الشبيه.. والزمن القريب البعيد!
إذا كان شبيهك، الذي يحمل خريطة جينية تطابق خريطتك، أمراً يثير الشهية إلى النظر والتسليم بعجائب الخلق فما بالك بشبيهين وربما أربعة؟! الثابت أن التوائم الثنائية المتطابقة من أندر ولادات التوائم بأنواعها؛ فمن بين كل ألف ولادة طبيعية يولد ثلاثة أزواج من التوائم الثنائية. لكن الأندر منها يقيناً هي التوائم الثلاثية المتطابقة والأكثر ندرة التوائم الرباعية المتطابقة. فبالنسبة للتوائم الثلاثية، فإن ولادة واحدة من كل 8,000 ولادة طبيعية ينجم عنها توائم ثلاثية (غير متطابقة). أما فرصة ولادة توائم رباعية فلا تزيد على 1 لكل 730,000 ولادة طبيعية! في العادة تنجم التوائم الثلاثية أو الرباعية عن أكثر من بويضة، بويضتين أو ثلاث، وقد تنقسم البويضة الملقحة إلى اثنتين مشكلةً توأمين متماثلين في حين يتشكل التوأم الثالث أو الرابع غير المتطابق عن بويضة مستقلة. لكنه في حال التوائم الثلاثية المتطابقة، فإن البويضة الأصليّة الملقّحة تنقسم إلى اثنتين، ثم تنقسم إحدى البويضتين الناجمتين ثانية، مشكلة ثلاثة توائم متطابقة. في حالة التوائم الرباعية المتطابقة، وهي الأندر جداً، يحصل انقسام ثالث. أو قد تنقسم البويضة الأصلية الملقحة مرتين مشكّلةً أربعة أجنة، وقد يعيشون جميعهم كتوائم رباعية متطابقة أو يموت أحد الأجنّة ليستقرّ الأمر عند ثلاثة توائم متطابقة.
وكانت دراسة ألمانية استغرقت خمسة عشر عاماً وشملت 8,220 ولادة طبيعية (أي غير قيصرية) قد عمدت إلى قياس الفترة الزمنية الفاصلة بين ولادة التوائم، حيث قُدِّر هذا الفاصل بـ15 دقيقة في المتوسط في معظم الحالات (75.8 في المئة)، في حين تراوح بين 16 و30 دقيقة في 16.4 في المئة من الحالات، ووصل إلى 31 – 45 دقيقة في 4.3 في المئة من الحالات، في حين بلغ هذا الفاصل الزمني 46 – 60 دقيقة في 1.7 في المئة من الحالات، وتخطى هذا الفاصل الزمني الساعة في 1.8 في المئة من الحالات. ومع ذلك ثمة حالات نادرة قد يولد فيها التوائم بفاصل زمني يقدَّر بعام.. نظرياً على الأقل؛ كأن يولد أحد توأمين مثلاً في الدقائق الأخيرة من شهر ديسمبر بينما يولد الثاني في الدقائق الأولى من يناير، أي مطلع عام جديد. وهو ما حصل مع الأمريكية سوزان غوديكي، التي ولدت توأمها الأول كاترين في الساعة 11:56 مساء الحادي والثلاثين من ديسمبر 1991م، ثم وضعت توأمها الثاني جيسيكا في الساعة 12:14 فجر أول يوم من العام 1992م. ولا تستغربوا إذا عرفتم أن الفارق -نظرياً أيضاً- بين ولادة توأم وشقه قد يصل إلى عقد من الزمان؛ فها هما التوأمان المتطابقان مارسيلو وستيفانو فيلاسكو قد وُلدا بفارق سنوات عشر وذلك عندما أبصر مارسيلو النور في أحد مستشفيات فلوريدا بالولايات المتحدة في الدقائق الأخيرة من العام 2009م في حين تبعه شقيقه ستيفانو في الدقائق الأولى من العام 2010م. أما الأشد عجباً بلا شك هو أن يكون الفارق بين التوأمين ألفية بأكملها.. أي نعم كما هو في حالة التوأمين الأمريكيين المتطابقين آرون ولوك هيغنبيرغر! فقد وُلد آرون عشية رأس السنة في العام 1999م، تبعه شقيقه لوك في الدقيقة الأولى من العام 2000م، أي مطلع الألفية الثالثة.. صحيح أن الفارق العمري بين التوأمين قد يكون دقائق، لكن الفارق النظري هو ألف عام!
عوامل «التوأمة» وأسبابها
يُقدّر عدد التوائم في العالم بـ125 مليوناً، وذلك وفق أحدث بيانات جُمعت في العام 2006م، وهو ما يشكِّل تقريباً نحو 1.9 في المئة من تعداد السكان العالمي. ومن بين هؤلاء، يبلغ عدد التوائم المتطابقة -الثنائية والثلاثية- قرابة عشرة ملايين نسمة، وهو ما يشكِّل قرابة 0.2 في المئة من تعداد السكان العالمي، و8 في المئة من إجمالي عدد كل التوائم.
العديد من النظريات تناولت ظاهرة التوائم وأسبابها، لكن أياً منها لم تتوصل إلى سبب أكيد، حاسم وناجع، يفسر حدوث «التوأمة»، التي ظلت تراوح في دائرة الغموض، خاصة فيما يتعلق بولادة التوائم المتطابقة. ولا يبدو أن التقدم العلمي الهائل، الذي سهَّل الولادات بالجملة، قد نجح تماماً في استيعاب التطابق المرآتي للبشر. ومع ذلك، ظلّتْ التوائم المتطابقة حقيقة شبه سوريالية مبهمة، فإن العلماء تمكنوا في الطرف الآخر من التوصّل إلى فهم وتحليل أكبر لظاهرة التوائم غير المتطابقة أو الأسباب التي تؤدي إلى حدوثها.
من جملة هذه الأسباب عامل الوراثة؛ فالحمل بأكثر من جنين يعني أنه يتعين على الأم أن تكون قادرة على إفراز أكثر من بويضة، وهذه المقدرة قد تكون سمة متوارثة عن الأم. كذلك، فإن المرأة التي تكون هي نفسها توأماً غير متطابق لديها احتمال أكبر من غيرها لإنجاب توائم متطابقة بمعدل الضعف.
من العوامل الأخرى المرتبطة بظاهرة إنجاب التوائم عمر المرأة ووزنها؛ فالنساء الأكثر وزناً والأكبر سناً -فوق 35 عاماً- أكثر ميلاً لإنجاب التوائم من الشابات، وذلك نظراً لارتفاع مستويات الهرمون المعروف بـ «الهرمون المحفز للجريب» والمشار له اختصاراً بـ «FSH»، وهو هرمون ينظِّم عملية التكاثر في الجسم. ومع اتجاه العديد من المجتمعات إلى تأخير سن الزواج، على خلفية تبني أنماط حياتية ثقافية مستحدثة، وبالتالي ارتفاع سن المرأة عند الزواج والإنجاب، فمن المرجح أن تكون ولادات التوائم مرشحة لازدياد عددي واضح مستقبلاً.
إلى ذلك، لا يمكن أن نغفل التخصيب الصناعي كعامل أساسي في «فورة» ولادات التوائم المتعددة؛ فبفضل هذه التقنية لم يعد الحمل بتوائم يُصنّف في خانة الندرة أو الطفرة الحياتية، مع ولادة 21 زوجاً من التوائم لكل ألف ولادة تقريباً. وهناك بالطبع عوامل بيئية ذات تأثير بيّن، فتحسّن الرعاية الصحية ونظام التغذية يلعبان دوراً حيوياً في تعزيز الحمل بالتوائم والحفاظ على صحة الأجنة في الرحم واستكمال الحمل دون معوقات أو عقبات.
نتناول أيضاً عاملاً رئيسياً طالما شكَّل موضع اهتمام لدى الباحثين والعلماء في الأنثروبولوجيا الحيوية ألا وهو العرقية أو الجنس؛ فقد ثبت أن الأصل العرقي يلعب دوراً حيوياً في تحديد نسبة التوائم غير المتطابقة مع وجود أعلى نسبة في هذا الخصوص لدى النساء المنحدرات من أصل إفريقي. بحسب إحصائية موثقة فإن معدل إنجاب الإفريقيات للتوائم غير المتطابقة 1 لكل 70 ولادة، في حين يبلغ هذا المعدل لدى النساء ذوات الأصل القوقازي 1 لكل 88 ولادة، وعند النساء اليابانيات الأصل 1 لكل 150 ولادة، أما النساء اللاتي ينحدرن من أصول صينية فيبلغ المعدل لديهن 1 لكل 300 ولادة.
وبما أننا مفتونون بالعجائب، نتوقف أخيراً مع عجيبة بشرية لامرأة، فلاحة روسية، دخلت التاريخ بوصفها المرأة التي أنجبت أكبر عدد من الأولاد في حياتها، حيث رزقت بـ 79 طفلاً في القرن الثامن عشر. ففي الأعوام بين 1725 و1765م، شهدت 27 عملية ولادة توائم، ضمت 16 زوجاً من التوائم الثنائية، وسبع مجموعات من التوائم الثلاثية، وأربع مجموعات من التوائم الرباعية!
قدرٌ «ملتصقُ» الخطى!
إذا كان الشبيه المطلق، الذي يقابلنا، يتحدّى مفهوم الاختلاف، فإن الشبيه الملتصق بنا، الملتحم بحياتنا – بالمعنى المادي والحسي للالتحام – يكاد ينسف مبدأ الفرادة، لا لأن «الآخر» يشبهنا فقط بل لأنه ليس «آخر» منفصلاً عنّا، وقد يتغذّى على بعض أعضائنا، فيكون وجوده مشتبكاً – حدّ الألم – بوجودنا.
يمنح التوأمان الملتصقان – أو «التوأمان السياميان» بحسب التوصيف الشائع – الحياة شراكة بيولوجية ونفسية غاية في التعقيد، وهي شراكة تبدأ في الرحم وقد تنتهي في اللحد، إلا إذا فُصل الكائنان بتدخّل جراحي، عادة ما يكون محفوفاً بالمخاطر.
علمياً، يُعرف التوأمان الملتصقان أو السياميان بتوأمين متطابقين حدث التصاق أو التحام في منطقة ما من جسديهما أثناء تشكلهما في الرحم، وبما أنهما متطابقان فهما إما ذكران أو أنثيان. ثمة نظريتان تفسِّران هذه الظاهرة؛ الأولى وهي الأكثر قبولاً ورواجاً تعرف بنظرية «الانقسام غير المكتمل»، حيث إن البويضة المخصَّبة التي يفترض أن تنقسم إلى بويضتين مشكلةً توأمين متطابقين لا تنقسم بالكامل، فيكون الانقسام أو الانشطار جزئياً الأمر الذي ينجم عنه توأمان ملتصقان في المنطقة التي خاصمها الانقسام. أما النظرية الثانية، التي لا تلقى حماسةً كبيرةً في الأوساط العلمية، فتعزو الأمر إلى ما يعرف بعملية «الاندماج»؛ وفيها تنقسم البويضة الملقّحة، لكن الخلايا الجذعية تعثر على خلايا تشبهها في التوأم الآخر وتعمل على دمج التوأمين معاً.
أصل تسمية السيامي
قد يكون كل من إنغ وتشانغ بانكر أشهر توأمين ملتصقين في التاريخ. وكان التوأمان الملتصقان من عند منطقة الصدر قد ولدا في العام 1811م في سيام (تايلاند حالياً). واكتشفهما تاجر بريطاني يدعى روبرت هانتر في العام 1829م، فاصطحبهما معه في جولة عالمية ليكونا «فرجة» للخلائق مقابل بعض المال. وفيما بعد، تخلى التوأمان السياميان عن وكيل أعمالهما البريطاني ليعملا في سيرك بي. تي. بارنوم الأمريكي، فجابا أوروبا والأمريكيتين، مقدميْن عروضاً ترفيهية، محققيْن شهرة عالمية، ومتكسّبين من وراء «خلقتهما»، قبل أن يستقرا أخيراً في ولاية كارولينا الشمالية كمواطنين أميركيين ويتزوجا شقيقتين وينجبا 21 ابناً. ولقد ودع التوأمان الحياة في اليوم نفسه في يناير (كانون الثاني) عام 1874م، إذ أصيب تشانغ بذات الرئة وتوفي أثناء نومه، ولحقه شقيقه إنغ بعد ثلاث ساعات رافضاً أن يتم فصله عن شقيقه، بعدما استدعت العائلة طبيباً ليقوم بالعملية على أمل ألا يلحق بشقيقه، مصراً على انتظار النهاية التي رسمها القدر له مع شقيقه: فقد عاشا معاً وعليهما أن يموتا معاً. بسبب ندرة هذه الحالة في ذلك الزمان واشتهار التوأمين، بات يطلق على التوائم الملتصقة عموماً بـ «التوائم السيامية»، نسبة إلى موطنهما سيام، وهي تسمية لا تزال سائدة، على الرغم من نبذها علمياً. تشريحياً، كان تشانغ وإنغ ملتصقين بكتلة من اللحم وبجزء من الغضروف مع التحام كبديهما في منطقة الجذع. بمقاييس الطب العصري، كان بالإمكان جداً فصلهما دون أن تشكل العملية خطورة كبيرة على أي منهما.
كظاهرة، فإن ولادة التوائم السيامية نادرة، حيث تتراوح نسبتها بين مرة كل خمسين ألفاً إلى مرة كل 200 ألف حالة ولادة. وتقدّر الأبحاث أن من 40 إلى 60 في المئة من التوائم السياميّة يموتون عند الولادة، وأن 35 في المئة يظلون على قيد الحياة يوماً واحداً، علماً بأن معدل نجاة التوائم السيامية يتراوح بين 5 إلى 25 في المئة، حيث تشكّل الإناث الغالبية ضمن هذا المعدّل بنسبة تقدر بـ 3 إلى 1 في المئة.
أنواع الالتصاق
ويمكن تقسيم التوائم الملتصقة إلى أنواع في تصنيف يشير إلى المنطقة من الجسد التي يوجد فيها الالتصاق أو الالتحام. من أنواع التوائم الملتصقة الأكثر شيوعاً النوع المشار إليه علمياً بـ «متحد الصدرين والسرّتين»، حيث يكون الجسمان ملتحميْن من الجزء العلوي من الصدر وحتى الجزء السفلي منه، وغالباً ما يتشارك التوأمان هنا القلب، وقد يتشاركان الكبد أيضاً أو جزءاً من الجهاز الهضمي. ويشكّل التوائم السيامية الذين يولدون ضمن هذا النوع من الالتصاق ما نسبته 28 في المئة من مجموع الولادات. وهناك النوع المعروف بـ «متّحد الصدرين»، وفيه يكون التوأمان ملتصقين من أعلى الصدر وحتى أسفل البطن، ودائماً ما يكون القلب مشتركاً في هذه الحالات. ويشكَّل النوع المعروف بـ «متّحد السرّتين» 10 في المئة من الحالات، حيث يكون التوأمان متصليْن من الجزء السفلي من منطقة الصدر، دون أن يكون القلب مشتركاً وإن كان التوأمان يتقاسمان هنا الكبد والجهاز الهضمي والحجاب الحاجز وأعضاء أخرى. والنسبة ذاتها نشهدها في النوع المعروف بـ «التوأمين الطفيليّين»، وهما توأمان ملتصقان بصورة غير متناسقة أو على نحو غير متماثل فيكون أحد التوأمين ضئيلاً، أقل اكتمالاً وتشكلاً، ومعتمداً في بقائه على التوأم الأكبر حجماً. كذلك، وضمن أنواع التوائم السيامية يبرز نوع يدعى بـ «متّحد القحفين» حيث يلتصق التوأمان من الجمجمة، بجسمين منفصلين.
في هذا السياق، يمكن فصل التوائم السيامية بتدخّل جراحي، وهو تدخل تتراوح درجة صعوبته بين اليسير نسبياً إلى المعقّد جداً، حسب المنطقة التي يوجد فيها الالتصاق وحجم الاعتماد المشترك للتوأمين على الأعضاء الحيوية للجسم. ومعظم جراحات فصل التوائم محفوفة بالمخاطر وقد تنتهي بوفاة أحد التوأمين أو كلاهما، خاصة إذا كانا ملتصقين من منطقة الرأس الحساسة. ولعلنا نذكر الحكاية المؤلمة للشابتين الإيرانيتين لادان ولاله بيجاني الملتصقتين من الرأس، حيث أصرتا على إجراء عملية فصل كي تشقّ كل واحدة منهما الحياة التي تريد، فلقد كانت لاله تتطلع إلى العمل كصحفية في طهران في حين أرادت لادان متابعة دراستها العليا في القانون في شيراز، مسقط رأسيهما الملتصقين! وإذ رفض أطباء كثر إجراء الجراحة «القاتلة» للشابتين وافق طبيب سنغافوري يدعى كيث غو على المضي قدماً في المغامرة بعدما كان قد نجح في فصل توأمين نيباليتين ملتصقتين من الرأس. وأجريت الجراحة الخطرة جداً في مستشفى رافيلز بسنغافورة في السادس من يوليو 2003م تحت إشراف فريق من الأطباء قوامه 28 جرَّاحاً عالمياً وطاقم مساعد تألف من أكثر من 100 شخص، واستغرقت الجراحة أكثر من عشرين ساعة، تبيَّن في الأثناء أن عملية فصل الجمجمتين أعقد بكثير مما تصورها الأطباء. فتوفيت لادان على طاولة الجراحة وتبعتها شقيقتها لاله بعد تسعين دقيقة.
في المدوّنات التاريخية، يمكن تتبّع أول رصد للتوائم الملتصقة في حضارة الموشي التي ازدهرت شمالي البيرو في الحقبة من 100 إلى 800 ميلادية، حيث تم تصوير التوائم الملتصقة في منحوتاتهم الخزفية في العام 300 ميلادية. على أن أقدم حالة موثقة لتوأمين ملتصقين تعود إلى العام 945 للميلاد حين تم جلب شقيقين توأمين ملتصقين من أرمينيا إلى القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية آنذاك، لإجراء تقييم طبي لهما. كذلك، كانت الشقيقتان الإنجليزيتان ماري وإليزا تشالكيرست من أوائل الحالات الموثقة تاريخياً في سجل التوائم الملتصقة، إذ كانتا ملتصقتين من الظهر وعاشتا من العام 1100 وحتى العام 1134 ميلادية. ومن التوائم السيامية التي حققت شهرة، وإن لم تواز شهرة الأخوين تشانغ وإنغ، الشقيقتان الأمريكيتان الزنجيتان ميلي وكريستين ماكوي، اللتان وُلدتا في زمن العبودية بولاية كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة في العام 1851م، فتعلمتا الغناء والعزف الموسيقي، وامتهنتا مجال الاستعراض الفني مكتسبتين لقب «العندليب ذات الرأسين». وتوفيتا في العام 1912م جرَّاء إصابتهما بالسل، بفارق 17 ساعة بين كل منهما! حالياً، يعد الشقيقان الأمريكيان روني ودوني غاليون، المولودان في العام 1951م، أكبر التوائم الملتصقة في العالم سناً. هما الآخران استغلا «خلقتهما» في التكسب من ورائها قبل أن يتقاعدا في العام 1991م.
توأم الروح
من وقت لآخر، نتعثّر بتعبير «توأم الروح» أو «توأم النفس»، أو حتى «توأم القلب»، فيحيلنُا إلى تأويلات وترجمات عدة للمصطلح، الذي يبدو فانتازياً أو مجازياً، وهو كذلك وأكثر.
في تعريفه لتوأم الروح، كتب الفيلسوف اليوناني أفلاطون، قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام، يقول: «حين يلتقي أحدهم نصفه الآخر، النصف الفعلي لذاته، يضيع الاثنان في حالة مذهلة من الحب والصداقة والحميمية، فلا يغيب أي منهما عن بصر الآخر ولو للحظة.» على مدى قرون من الفكر البشري، جاب الفلاسفة والمنظرون قارة «توأم الروح» الملأى باحتمالات الكشف لإضفاء الصبغة الرومانتيكية على هذا المصطلح. في تعريف عام، يكاد أن يكون مجمعاً عليه، فإن توأم الروح هو الشخص الذي نقع في شراك روحه وقلبه وفكره، فيأسرنا ولا نود أن نقاوم هذا الأسر، هو الشخص الذي نبثه محبة عميقة، صافية، خالصة، فنستشعر في حضرة وجوده أن وجودنا هَامَ وظل يهيم ليستقر في نهاية المطاف عنده أو لعله كان مودعاً لديه في كشف ظل مؤجلاً إلى أن التقيناه. هو شبيهنا، وفي الوقت عينه يكملّ نواقصنا، فيسدّ فراغاتنا دون انحشار، ويعبئنا دون فيض أو نقصان، هو الشخص الذي حين تراه تعتقد أنه جاء من ماضيك، أو تشكّل من ثنايا روحك أو نُسج من جدران فؤادك لأنه يقرؤك، يترجمك، يفهمك، ويسهب في شرحك دون أن تقول كلمة، هو أنت بقدر ما أنت هو؛ هو الشخص الذي يطرق حياتك، يتصفح فصولك الآنية والآتية، فيوغل في معانيك عميقاً.
وقد لا تكون لفظة «توأم» مجانية، فتوأم الروح شبيهك من مبدأ المرآة، أي إنك ترى نفسك في الآخر، فيكون توأمك النفسي والروحي والعاطفي والفكري، أياً ما كانت طبيعة التوأمة التي تميل إليها أو تميل هي إليك. ضمن هذه العلاقة الوشائجية التوأمية، نستطيع أن نصنف ثلاثة أنواع مما يميل البعض إلى تسميته بـ «علاقات المرآة»، أي العلاقات التوأمية؛ فهناك المرآة التي تريك ما كنتَ عليه، فتعطيك الفرصة لترى ما آلت إليه حياتك حتى الآن، وبالتالي تضع الخطط للتغيير. إن توأم الروح الذي يفد إلى حياتك -بعد ماض غير شيق- يجب ألا يجعلك تندم على ما فات أو تنوح على الأمس، فهو ترجمة للمقولة بـ «أن يأتي الخير متأخراً أفضل من ألا يأتي أبداً». أما النوع الثاني من العلاقات فهي المرآة التي تعكس لك الطريق الذي تسلكه الآن، فتبين لك القضايا العالقة في حياتك والمسائل التي يتعيَّن عليك أن تعمل عليها، فكنتَ معمياً عنها إلا أن فتح توأم روحك عينك عليها. ونخلص إلى النوع الثالث من العلاقات التوأميّة وهو النوع الذي يعكس إمكاناتك، فتظهر لك لمحة مما تستطيع أن تكونه إذا أردت، فيكون توأمك هنا ملهمك ومحفزك.
أياً كانت تفسير المرآة هنا، فما أن تتشكل العلاقة حتى تكون الرابطة بين طرفيها كتلك التي تجمع التوأمين المتطابقين لا لجهة التشابه الشكلي وإنما للتشابه النفسي، فيكون كل طرف على دراية وإحساس بمشاعر الآخر وأفكاره ورغباته واحتياجاته، فيقرأها قبل أن تُطبع، ويلبيها قبل أن تُطلب.
لتوأم الروح والنفس في الشعر مكانة، إذ استنطق حراس الكلمة وشعراؤها المعاني الغافية في توائم قلوبهم..
تتوقف ذاكرتنا القريبة عند قصيدة «توأم الروح» للشاعر الأمير عبدالله الفيصل، رحمه الله، حيث يقول:
«يا توأم الروح ونور البصر
ضاقت مني الروح بهذا السفر
وغشت الوحدة عيني فما
يؤنس عيني كل هذا البشر».
وكتب الشاعر المصري إبراهيم ناجي في قصيدته «خطاب» مناجياً:
قَبَّـــلْــتُ خطَّــــــك ألْفــــــــــا ولــم أَدَعْ منــــه حرفـــــا
قـــد كنــــتِ تــــوأم قلـــبــي وكنـــتِ في الغيــــــبِ إلفــــا
وله أيضاً في «ساعة لقاء»:
درجَ الدهرُ وما أذكرُ بعدَكْ غيرَ أيامِك يا توأم نفسي!
وأنا الطائرُ! قلبي ما صبا لسوى غصِنك والوكرِ القديمْ
وها هي الشاعرة السورية سنية صالح تتماهى مع ابنتها، توأم ذاتها، في قصيدة «الذاكرة الأخيرة»، إذ تمنحها كل الحب، في وداع آسر:
أيتها الذات التوأم
يا أجنحةَ المحيط وزفيرهُ المنعش
ستحملك جزره إلى المتصوفة والهائمين
والسرياليين
ستنقلك إلى أحلام الماء وأشواق الربيع
بينما تغافلني ريح المنعطف
وتخطف غباري
ونقرأ للشاعر المصري عاطف الجندي في «أشواق الجازورينا»:
لا تحسبيني
قد نسيت ُ كما نسيت ِ العابرينْ
أو لم تكوني
توأمي في الجُرح ِ
قافية َ القصيدة ِ
وابتداءَ توهجي
أما «التوأم» بمعنى الحبيب فترسم الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان مواصفاته على النحو التالي:
منذُ أن اكتشفتِ الظلامَ
و خوفَها من الظلامِ
في ليلِ الغربةِ القاسي الطويل
و هي تنتظرُهُ
فارسًا
بعينيْن لوزيَّتيْنِ
و قلبٍ من سُكَّر
بلمسةٍ
يعيدُ الفرحَ مُهْرًا
على جبهتِهِ هلالٌ
في صهيلِهِ سماءٌ من نجوم.
التوائم في السينما..
كثير من الضحك..
قليل من الجد
لا يمكن للتوائم وما يوحونه من أفكار ومواقف، تصطدم فيها كل أشكال اللامعقول، أن تغيب عن خيال السينما الشره دوماً للعجيب. حين أطر فِلم «التوأمان» الشاشة الفضية الهوليودية في العام 1988م، وجد الجمهور نفسه أمام مفاجأة غير متوقعة، فقد جسد دور الشقيقين التوأمين كل من الممثل «سابقاً» آرنولد شوارزينغر (حاكم ولاية كاليفورنيا الأمريكية حالياً) والممثل المخضرم داني دي فيتو. وجاء اختيار النجمين، متناقضي الخلقة تماماً، للعب دور التوأمين متعمداً. فهما أبعد ما يمكن أن نفكر فيهما كشقيقين، فما بالكم بتوأمين؟! فببنيته العضلية الضخمة أو المتضخمة، وبطوله الفارع يبدو شوارزينغر ضغف حجم دي فيتو، الذي لا يزيد طوله على المتر ونصف المتر! لكن الطرافة لا تتوقف هنا، فالشقيقان اللذان وُلدا من تجربة تخصيب تمت في المختبر -بحسب حبكة الفِلم- وفُصل بينهما عند الولادة تطرح الأول بوصفه التوأم الوديع، المتأمل، الساذج والأخلاقي، بينما يتقمص الضئيل دي فيتو، شخصية التوأم «البلطجي» المحتال، الذي يحاول الإفلات من الرقابة الأخلاقية لتوأمه الضخم!
ومن الأفلام ذات النهكة الكوميدية التي تناولت المفارقات الناجمة عن التطابق التوأمي فِلم «عمل كبير» (1988م) بطولة الممثلتين الأمريكيتين بيتي ميدلر وليلي توملين. تدور قصة الفِلم حول زوجين من التوائم الأنثوية يولدان في المستشفى نفسه لعائلتين، إحداهما ثرية والأخرى فقيرة، وينتهي الأمر بالممرضة إلى الخلط بين المواليد الأربعة، في حبكة شائكة، تتصاعد حين تلتقي الفتيات الأربع بعد أربعين عاماً لتقع كل واحدة على شبيهتها، بعد سلسلة من الأحداث والمواقف والمصادفات التي لا يمكن نسجها إلا سينمائياً.
وهناك أيضاً فِلم «مصيدة الأبوين»، الذي قُدِّم في نسختين؛ الأولى في العام 1961م والثانية في العام 1998م، حيث تقمصت النجمة الأمريكية ليندسي لوهان في النسخة الحديثة من الفِلم دوري توأمين متطابقين لأسرة مزقها الطلاق، فتعيش إحدى التوأمين مع والدها في أمريكا فيما تظل الأخرى في كنف أمها في لندن، دون أن تدري أي منهما أن ثمة نصفاً آخر يطابقها عبر الأطلسي! وحين تلتقي التوأمان الطفلتان صدفة في مخيم صيفي، تكتشفان الحقيقة وتتخذان على عاتقهما مهمة إعادة المياه إلى مجاري العلاقة بين أبويهما، وبالطبع وعلى الطريقة الهوليودية تنجحان في مهمتهما بامتياز!
والحق أن معظم الأفلام، التجارية الطابع، استثمرت الشبه التوأمي في كوميديا هزلية، قلة منها نجحت في احتلال مكانة مميزة في إرث الشاشة الفضية الذي يُعتدّ به. من الأفلام النادرة التي طرحت التماثل التوأمي بما يكتنفه من توافق نفسي وروحي وصراعات داخلية جمة على نحو آسر فِلم «اقتباس» (2002م)، بطولة النجم نيكولاس كيج والممثلة المخضرمة ميريل ستريب. يجسد كيج في الفِلم دور كاتب سيناريو يُدعى تشارلي كوفمان يجد صعوبة في اقتباس رواية بعنوان «لص الأروكيد» وتحويلها إلى نص سينمائي، فيستعين تشارلي بشقيقه التوأم دونالد، وهو كاتب سيناريو أيضاً، لكنه أكثر تصالحاً مع نفسه من شقيقه الذي يبدو أنه يرى حياته في مرآة محبطة. في النهاية، ينجح تشارلي في فك لغز الحكاية، بمساعدة توأمه، قبل أن يلقى دونالد حتفه.. بموت دونالد، النصف الآخر، يتوازن تشارلي، لا لأنه فقد شقيقه بل لأن شقيقه كأنه ضحى بنفسه في سبيل تعافي روحه المعذبة.. هذه التضحية تفك «عقدة الكاتب» لدى تشارلي فينجح في كتابة نصه!
ولنختم مع مقاربة كوميدية طريفة للتوائم، من خلال فِلم «ملتصق بك» (2003م)، الذي يتناول حكاية شقيقين ملتصقين من الجنب، على طريقة التوائم السيامية. كل من شاهد الفِلم يكتشف أن مقاربته خيالية، ذلك أن التوأمين الملتصقين في الفِلم يجسِّدهما النجمان مات ديمون وكريغ كينير، وهو أمر يدخل في خانة اللاممكن، لأن التوائم السيامية متطابقة! ولا يمكن أن يكون الشقيقان فيها مختلفي الخلقة على طريقة ديمون وكينير! ومع هذا يحقّ للسينما ما لا يحق لغيرها! لكن قصة الفيلم الطريفة كفيلة بأن تجعلنا نتسامح مع المقاربة العلمية الخطأ لمفهوم التوائم الملتصقة، خاصة وأن الفِلم يعالج بحيوية العلاقة الأخوية التي لا تُفصم حتى حين ينفصم الجسمان بعد عملية جراحية يخضعان لها واضعيْن حداً لحياتهما المتلصقة. إذ يظلا ملتصقين «حبِّياً» مهما حصل!
التوأمة مستعارة للمدن
من أكثر المجالات التي يستعار فيها تعبير «التوأمة» خارج عالم المواليد هو توأمة المدن، الذي يكاد يُختصر في مفاهيم اليوم بوجود بعض الاتفاقات التنموية أو الثقافية ما بين مدينة وأخرى على مستوى بلديتها، وغالباً ما تكون إحدى المدينتين فقيرة بحاجة إلى المساعدة والأخرى غنية طامحة إلى مد نفوذها.
ولكن هناك مدناً عديدة في العالم هي في الواقع توائم بفعل نشوئها في ظروف تاريخية واحدة وعلى مسافات متقاربة جداً حتى حدود الالتصاق، مثل مدينة بودابست التي تشكَّلت من مدينتي بودا وبست اللتين نشأتا أولاً كمحطتين تجاريتين صغيرتين متقابلتين على ضفتي نهر الدانوب، قبل أن تنموا لتصبحا مدينة واحدة هي اليوم عاصمة جمهورية المجر.
ومن توائم المدن التي نعرفها أكثر من غيرها هي المدن الثلاث: الظهران والخبر والدمام، التي نشأت في وقت واحد وعلى مسافات قريبة جداً من بعضها وبفعل ظرف تاريخي واحد (اكتشاف النفط في المنطقة الشرقية من المملكة). وكما هو الحال في معظم الأحيان تنمو هذه المدن التوائم لتلتصق ببعضها وتصبح عملياً حاضرة مدينية واحدة.
أما توأمة المدن بقرار، أي نسج مشاريع تنموية وروابط ما بين مدينتين بعيدتين عن بعضهما، وفي معظم الأحيان تنتميان إلى ثقافتين مختلفتين، فهي ظاهرة قديمة، ظهرت أولى أشكالها في العام 836م عند توأمة مدينة لومان الفرنسية مع مدينة بادربورن الألمانية. وطوال القرون الوسطى كان ثمة أشكال مختلفة من التوأمة، كأن تنضم مدينة إلى مدينة أخرى بعيدة عنها في تبعيتها لحاكم واحد بفعل الميراث أو الزواج وما شابه ذلك.
أما أول توأمة مسجلة في العصر الحديث فتعود إلى العام 1920م، وهي بين مدينة بوا-دو-نور الفرنسية وكايلي الإنجليزية.. وغداة الحرب العالمية كثرت عمليات التوأمة بين المدن، خاصة بين المدن الأوروبية ومدن البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار الأوروبي.. وتتخذ هذه التوأمة في الغالب شكل مشاريع تنموية، وأوجه نشاط ثقافية مختلفة، وطبعاً بعض «المساعدات».
ومن المجالات الأخرى التي يستعار فيها تعبير التوأم، هو عالم البناء والأبراج، عندما يرتفع مبنيان في الوقت نفسه متشابهان حتى التطابق، بحيث يكمِّل الواحد شخصية الآخر. ومن أشهر توائم الأبراج هذه في وقتنا الحاضر، هما برجا كوالالومبور الشهيرين.
التخاطر..
على طرف العلم.. على حافة الخرافة
من وقت لآخر، يطفو جدل حول «التخاطر»، أي الاتصال النفسي والعقلي عن بعد بين التوائم. وفي الغالب، يوحي التخاطر بمعنى هائم وغائم، يحيله إلى خرافة أو أقرب إلى حكاية فولكلورية منه إلى العلم. لكن بعض العلماء الشغوفين بقدر محتمل من الخرافة يتبنون نظرية «التخاطر التوأمي»، من منطلق أنه شكل من أشكال التواصل النفسي بين التوائم، مدعومين في قناعاتهم بعدد من التجارب الشخصية لتوائم استشعروا خطراً يحيق بشقّهم الآخر، مرآتهم التي يرون في تهشّمها تهشماً لهم!
ثمة العديد من الأمثلة والروايات على التواصل النفسي بين التوائم، التي تدعم نظرية التخاطر التوأمي أو تضفي شيئاً من المصداقية عليها.
من بين الروايات التي احتفظ بها الباحثون في سجلاتهم – بانتظار إيجاد تفسير غير مُختَلف عليه – ما يلي:
•
كانت شقيقتان توأمان بالغتان تتواصلان معاً عبر الإنترنت، حيث تقيم إحداهما في بلجيكا بينما تقيم الأخرى في الولايات المتحدة، حين اكتشفتا أن كلتيهما ابتاعتا البنطلون نفسه في اليوم نفسه من العلامة التجارية نفسها. كذلك، اكتشفتا أن إحداهما ألم بها مغص شديد في الوقت عينه الذي باغتت فيها آلام المخاض الثانية.
•
وقع رجل، فيما يشبه الانهيار، على كرسي قابضاً على صدره في الوقت نفسه الذي أصيب شقيقه التوأم فيه برصاصة قاتلة، علماً بأن توأمه كان يقطن على بعد نحو خمسين كيلومتراًَ منه.
•
حرقت طفلة توأم في الرابعة من العمر يدها، وأصيبت توأمها المتطابق بتقرح غير معروف سببه في الموقع نفسه!
وثمة قصص موثقة عن توأمين فُصلا عند الولادة، بحيث تربيا في كنف أسرتين مختلفتين، وحين يلتقيان بعد سنوات يتفاجآن بحجم التماثلات التي تجمعهما ليست في الشكل فقط وإنما في منحى الحياة، وقد تكون حكاية «التوأمين جيم» الأشهر والأكثر دهشاً. فلقد تم الفصل بين التوأمين الأمريكيين المتطابقين جيم لويس وجيم سبرينغر وهما رضيعان في أسبوعهما الرابع، حيث تبنت أسرة مختلفة كل طفل على حدة. والتم شمل التوأمين وهما في التاسعة والثلاثين من العمر، وهو لقاء تكشفت عنه غرائب وعجائب لم تذهل التوأمين فحسب وإنما الباحثين في جامعة مينيسوتا أيضاً.
فمن التشابهات العجيبة التي جمعت بين التوأمين، إلى جانب الحقيقة بأن كلاهما حملا الاسم الأول نفسه ولديهما الطول نفسه والوزن عينه، ما يلي:
• حين كانا طفلين، كل منهما كان لديه كلب اسمه «توي».
•
كلاهما تزوج مرتين، حيث كان اسم الزوجة الأولى لكل منهما «ليندا»، كما كان اسم الزوجة الثانية لكل منهما «بيتي».
•
أحد التوأمين أطلق على ابنه اسم «جيمس ألان» (James Allan)، في حين أطلق التوأم الثاني على ابنه اسم «جيمس ألان» (James Alan) مع فارق في الكتابة من خلال إضافة حرف «إل» زائدة على «ألان» في أحد الاسمين.
•
كلاهما يقضمان أظفارهما كعادة، كما أن كلاً منهما يعاني من الصداع النصفي.
بالطبع، ثمة فروقات بين جيم الأول وجيم الثاني، لكن التماثلات -التي جمعت حياتيهما حتى في خضمّ فارق زمني يصل إلى نحو أربعين عاماً- ظلَّت لها الغلبة.
من غرفة العمليات إلى بطولة الرواية
في التاسع والعشرين من إبريل من العام الجاري، جرى فصل التوأمين الملتصقين الأردنيين محمد وأمجد في مدينة الملك عبدالعزيز الطبية في الرياض. وكان على رأس فريق الجرَّاحين الذين أجروا عملية الفصل الناجحة، وزير الصحة نفسه الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز الربيعة، الذي حظي بشهرة عالمية لنجاحاته المتكررة في فصل التوائم الملتصقة منذ ما قبل أن يصبح وزيراً للصحة في فبراير من العام الماضي.
وإن لم تثر عملية فصل الطفلين محمد وأمجد ضجيجاً إعلامياً كبيراً، بخلاف بعض العمليات السابقة، فمرد ذلك على الأرجح هو تكرار النجاح نفسه. إذ إن الدكتور الربيعة كان قد أجرى أكثر من 20 عملية فصل ناجحة حتى عشية تعيينه وزيراً للصحة في المملكة. الأمر الذي جعل منه بطلاً لرواية أوروبية، من تأليف الأديبة الرومانية دومينيكا أليزل، تعبيراً عن امتنانها وانبهارها بما قام به من أعمال.
ومعلوم أن الدكتور الربيعة هو من مواليد الرياض، 11 نوفمبر 1954م، بدأ بدراسة الطب عام 1972م في كلية الطب بجامعة الملك سعود، وحصل على الترتيب الأول في دفعته عند تخرجه عام 1979م. ثم انتقل إلى جامعة ألبرتا بكندا حيث حصل على الماجستير، ولاحقاً على درجة الزمالة في جراحة الأطفال من جامعة دالهاوسي الكندية عام 1987م.
وبعد عودته إلى المملكة، تقلَّد الدكتور الربيعة مناصب عديدة في مستشفى الملك خالد الجامعي في الرياض، وفي المركز الطبي وقسم الجراحة في مستشفى الملك فيصل، ومستشفى الملك فهد بالحرس الوطني بالرياض، قبل أن يصبح المدير العام التنفيذي للشؤون الصحية بالحرس الوطني عام 2003م. وأدت نجاحاته المهنية وشهرته في إجراء أصعب العمليات الجراحية (فصل التوائم السيامية) إلى تعيينه وزيراً للصحة في 14 فبراير 2009م.
والوزير الطبيب الربيعة حائز على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، وكان سبق له أن حصد جوائز عديدة منها جائزة أفضل بحث في جامعة ألبرتا الكندية عام 1985م، وجائزة أفضل طبيب مقيم في الجامعة نفسها وجائزة أفضل مدرس بكلية الطب بجامعة الملك سعود بالرياض عام 1989م.
وإضافة إلى عضويته في جمعيات طبية سعودية وعربية وكندية، اختارت «الأكاديمية الوطنية الفرنسية للجراحة» عام 2007م الدكتور الربيعة ليكون عضواً فيها من ضمن تسعة جرَّاحين هم الأكثر تفوقاً في العالم.
إمبراطورية ميم
تجربة ثلاثة توائم متطابقين
علاوة على المسحة الجمالية الغرائبية التي يشكّلها حضور التوائم متطابقي الخلقة في أي محفل أو تجمّع، فإن المواقف الطريفة التي قد تحدث نتيجة هذا التشابه كفيلة بإثارة إرباك وتشويش، وإن كان من النوع المحمود ذلك أنه يثير الابتسام في العيون والانشراح في النفوس. وكأن التشابه رباني الصنع وحده لا يكفي، حتى يأتي التشابه المتعمد في الأسماء ليجعل الإرباك مضاعفاً، كأن يكون الاسم مبتدئاً بالحرف نفسه، كما هي قصة التوائم الثلاثة مهند ومحمد ومثنى، الذين يشكّلون فيما بينهم «إمبراطورية ميم» في عائلة صالح حزين.
يستذكر صالح حزيّن، وهو أب لثمانية أبناء، ولادة توائمه الثلاثة في العام 1987م، معترفاً بالقلق الذي تلبسه وترقبه القادم من المسؤوليات المترتبة على رعاية ثلاثة أطفال دفعة واحدة، ترتيبهم الأصغر بعد الولد البكر وأربع بنات. فقد تمّ تحويل منزله إلى غرفة طوارئ مع إقامة معسكر داخلي شارك فيه جميع أفراد العائلة وقسمٌ لا بأس به من العائلة الممتدة بالاعتناء بالتوائم. تشاركنا أم محمود، زوجة صالح، جانباً من المواقف الطريفة التي صنعها توائمها، وأول ما يخطر في بالها يوم أن قامت بتحميم مهند مرتين، معتقدة أنه مثنى في المرة الثانية، وذلك في شهرهما الأول من حياتهما المليئة بالأحداث المثيرة. وكانت أم محمود قد تعمدت في البدء إلباس أبنائها ملابس متماثلة في صغرهم قبل أن تلقى معارضة من جدّتهم بحجة دفع الحسد عنهم. وحتى «الحصبة» أبت إلا أن تزورهم ثلاثتهم في ذات الوقت، ثم أُدخل الثلاثة لاحقاً المستشفى في المكان والزمان عينهما لإجراء عملية استئصال اللوز، وسط دهشة الأطباء من كون حجم اللوز المستأصلة واحداً.
في المدرسة، وفي موسم الامتحانات، كان أحد المعلمين يتجول بين الطلاب، ليفاجأ بطالب يجلس إلى يمين الصف تارة، وإلى يساره تارة أخرى، قبل أن يصطدم بوجود الشخص نفسه في مؤخرة الصف! أياً ما كان عليه الأمر، لم يكن الثلاثي المرح يستغل التشابه «الشكلي» في الغش، مؤكدين بأنهم طيلة سنوات الدراسة حافظوا على مستوى علمي متقارب. وتشاء واحدة من مفارقات الحياة الكثيرة أن يحصل مهند ومثنى على معدل متقارب للغاية في شهادة الثانوية العامة، بفارق علامة واحدة بين معدليهما.
وكان كل من مهند ومثنى قد التحقا بجامعة اليرموك في مدينة إربد بالأردن، في كليتين مختلفتين، ورافقتهما في تلك الأثناء نوادر جمة. منها أن أحد زملائه استغرب ذات مرة قيامه بتغيير ملابسه بين المحاضرات قبل أن يكتشف هذا الزميل أنه كان يأخذ محاضرتين إحداهما معه والأخرى مع مثنى! ويسوق محمد -التوأم الثالث- واحداً من المواقف التي واجهته ذات مرة قائلاً: «ذهبت إلى محل حلاقة لقص شعري، وبعدها بيومين ذهب مهند إلى المحل نفسه ليتفاجأ الحلاق من سرعة نمو شعري قبل أن يشرح له مهند أننا ثلاثة توائم، لكن هذا لم يمنع الحلاق من الذهول عندما رأى مثنى لاحقاً. عندئذ، اتفقنا على أن يقصد كل واحد منا محلاً مختلفاً تجنباً للخلط الذي قد يقع فيه الحلاق».
وها هو محمد أيضاً يدحض الاعتقادات الشائعة حول التوائم، ومن بينها أنهم يمرضون سوية وينامون ويستيقظون في موعد واحد؛ فالتوائم، وفقاً لمحمد، يختلفون في المزاج والأحوال النفسية، ويقتصر التشابه فيما بينهم على الجانب الخارجي. «فلكل منا ذوقه المختلف ورؤيته المميزة للحياة، على الرغم من ارتباطنا الكبير مع بعضنا بصورة أكثر من تلك بين الأشقاء غير التوائم».
يمضي محمد شارحاً: «لا يشترط في كل التوائم الإحساس ببعضهم البعض، فشقيقاي وأنا مرتبطون شعورياً بشكل لا يوصف، لكننا مختلفون في الشخصية والتفكير، وهذا ما لا يفهمه الكثير من الناس. فيستمرون في التعامل معنا كشخص واحد، صحيح أننا نستمتع بتطابقنا شكلياً وبالإحساس والارتباط، لكن أكثر ما يضايقنا تعامل الآخرين معنا على نحو موحد». يثني مهند على كلام شقيقه قائلاً: «تسبب هذا الشيء في بخس حقنا في المدرسة، فكنا ننال الدرجة نفسها بصرف النظر عن المستوى فقط لأننا توائم..!».
من جانبه، أكثر ما يضايق مثنى هو مناداة أفراد عائلته له باسم أحد شقيقيه لعدم قدرتهم على التمييز فيما بينهم على الرغم من مرور 23 عاماً على ولادتهم، مستدركاً: «حتى أفراد أسرتنا أنفسهم يخلطون بيننا، فكيف بالآخرين؟!». ويستغرب التوائم الثلاثة الأسئلة الساذجة التي يطرحها الناس من نوع: كيف يعيش التوائم؟ هل يتشاجرون؟ هل يمرضون في الوقت نفسه؟ ولعل أكثر ما يزعج مهند هو تبني الناس موقفاً واحداً إزاءهم، «فعندما يخطئ أحدنا نحاسب كلنا!».
يختم مثنى بقوله: مهما كبرنا ومهما اختلفنا، سنبقى شخصاً واحداً لدى العائلة والأصدقاء والغرباء.
أرض التوائم
تُعد بلدة إيغبوأورا، في جنوبي غرب نيجيريا، عاصمة التوائم في العالم أو أرض التوائم! فهذه البلدة موطن لجماعة عرقية كبرى تعرف باسم «يوروبا»، تتميز بأنها صاحبة أعلى معدل في إنجاب التوائم غير المتطابقة في العالم، إذ يبلغ معدل ولادة التوائم هناك 45 لكل ألف حالة. بحسب الثقافة اليوروبية، فإن التوائم يضفون السعادة والصحة والرفاه على الأسرة. وعند ولادتهم، تقام الولائم احتفالاً بالبركة التي هلّت على البيت، حيث تتم دعوة كافة أهل القرية وربما القرى المجاورة.
ودائماً ما يُطلق على التوأم الأول – سواء أكان ولداً أم بنتاً – اسم «تايوو»، الذي يعني «الأول الذي يتذوق العالم»، في حين يطلق على التوأم الثاني اسم «كيهيندي»، وهو ما يعني «الواصل بعد الآخر». وعلى الرغم من ولادته أولاً، إلا أن «تايوو» يُعد أصغر التوأمين، حيث يفترض أن شقيقه الأكبر «كيهيندي» قد أرسله خارجاً كي يرى كيف يبدو حال العالم له، وما إن يعطي تايوو إشارة بالبكاء، حتى يتبعه كيهيندي.
في اليوم الثالث لولادة التوأمين، يقوم الوالدان بزيارة عرَّاف القرية الذي يقدِّم للأم سلسلة من الإرشادات والتعليمات بشأن كيفية تعاملها مع توأميها؛ لجهة الألوان التي يجب أن يلبساها أو يتجنباها، والطعام الذي يُنصح به أو الذي يجب حظر تناوله، والحيوانات التي تشكل خطراً عليهما، وغير ذلك.
يؤمن اليوروبا بأن كلا التوأمين يتقاسمان روحاً واحدة، لذا في حال توفي أحدهما عند الولادة فإن حياة الآخر تكون معرضة للخطر، بسبب اختلال توازن الروح. لمواجهة هذا الخطر يتعين القيام بطقس خاص، حيث يتم تكليف نحات بحفر تمثال خشبي صغير، كبديل رمزي لروح التوأم الفقيد. ويتعين على الأسرة رعاية التمثال، كما لو كان كائناً حقيقياً، فيتم إطعامه وتحميمه وإلباسه، ذلك أن حمايته ورعايته تكفل إقصاء الخطر عن التوأم الذي ظل على قيد الحياة. وفي حال غيَّب الموت التوأمين معاً، يتم حفر تمثالين لهما ليتمثلا روحهما، فتظلّ تحفّ الأسرة في غيابهما.
إلى ذلك، من غير المعروف سبب استشراء ولادات التوائم وسط اليوروبا؛ فثمة علماء يعزون الأمر إلى الوراثة، بالنظر إلى الروابط العائلية والقبلية الوشيجة، مع ثبوت دور العامل الوراثي في ولادات التوائم المتطابقة. على أن بعض العلماء يزعمون أن للأمر علاقة باستهلاك كميات كبيرة من نوع معين من البطاطا الحلوة التي تعرف بـ «اليام الأبيض»، حيث تحتوي على هرمون الفيتوستروجين الطبيعي الذي قد يحفز المبيضين على أن يفرز كل منهما بويضة.
الاحتفاء بالتطابق
حول العالم، ثمة أيام مخصصة للاحتفاء بالتطابق والتماثل من خلال مهرجانات واحتفالات وعروض ترفيهية تستقطب كل أنواع التوائم، الثنائي والثلاثي والرباعي، الغريب والأغرب، في مشهد عجائبي يجعل البصر متحفزاً للدهشة على الدوام. وقد يكون مهرجان «أيام التوائم»، الذي تستضيفه سنوياً بلدة توينزبيرغ في ولاية أوهايو الأميركية هو الأشهر في العالم.
انطلق هذا المهرجان في دورته الأولى في العام 1976م، بمشاركة 36 مجموعة من التوائم، واليوم أصبح المهرجان، الذي يقام سنوياً في أول عطلة نهاية أسبوع من شهر أغسطس، يستقطب أكثر من 3000 مجموعة من التوائم، من كل الفئات والأنماط، يفدون إليه من مختلف أنحاء أمريكا ومن خارجها. في حدث هو الأضخم من نوعه عالمياً. تضم أيام المهرجان فعاليات ومسابقات ترفيهية عدة من بينها مسابقة للمواهب ومواكب استعراضية في احتفالية صاخبة، يتبارى فيها التوائم على اجتذاب الأنظار الحائرة في محيط من التشابهات المربكة، خاصة إذ يحلو للتوائم ارتداء أزياء متشابهة، فيخال المرء نفسه كأنه مطوق بمرايا تنقل له الصورة نفسها مرتين وثلاثاً وربما أربع مرات. قد ينطبق على بلدة توينزبيرغ Twinsburg المثل القائل بأنها اسم على مسمى بالمعني الحرفي للتسمية، فـtwins تعني «توائم» في حين أن burg تعني «بلدة» بالعامية، وهو ما يعني أنها بلدة التوائم، أو إذا أردنا التماس الدقة فإن اسمها يعني –حرفياً– بلدة التوأمين! نعم.. تعود التسمية إلى العام 1819 ميلادية حين استوطن شقيقان توأمان متطابقان هما موسيز وآرون ويلكوكس بلدة حديثة التأسيس عُرفت باسم ميلسفيل. ولقد اشترى التوأمان الوافدان من ولاية كونيكتيكت، قطعة أرض مساحتها 16 كيلومتراً مربعاً، وبدآ يبيعانها قطعاً صغيرة بأثمان زهيدة لاجتذاب مستوطنين جدد، ثم عرض التوأمان التبرع بقطعة أرض لتكون ميداناً عاماً للبلدة ومبلغ 20 ألف دولار أمريكي لبناء أول مدرسة لقاء تغيير اسم البلدة من ميلسفيل إلى توينزبيرغ، أي بلدة التوأمين!
ومن احتفالات التوائم الصاخبة في العالم «مهرجان التوائم الأوروبي» الذي يُعقد سنوياً في آخر عطلة نهاية أسبوع في يوليو في إيطاليا، حيث يجتذب ألف مجموعة، تقريباً، من التوائم الثنائية والمتعددة. وكان المهرجان قد دُشِّن في مدينة ريميني الإيطالية في العام 2000 قبل أن ينتقل في العام 2004م إلى متنزه «كانيفا ويرلد» الترفيهي عند بحيرة غاردا، شمالي إيطاليا. ويمكن للتوائم أيضاً المشاركة في «مهرجان يوم التوائم الفرنسي» الذي انطلق في العام 1994م، وهو أكبر تجمّع للتوائم في أوروبا، حيث يقام في بلدة بلوكادو بإقليم بريتاني في فرنسا في منتصف أغسطس من كل عام، ويؤم المهرجان الذي يستمر يوماً واحداً فقط ألف مجموعة، تقريباً، من التوائم من مختلف المشارب.
وهناك أيضاً مهرجان التوائم الثقافي الذي تحتضنه العاصمة الصينية بكين في مطلع أكتوبر من كل عام، بحضور مئات التوائم الذين يشاركون في عروض الغناء والرقص والفنون القتالية، في احتفالية بهيجة تشكِّل ذروة احتفالات البلاد بالعيد الوطني.