تشير آخر الإحصاءات إلى أن أكثر من 400 مليون صورة تُنشر يومياً على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، انستغرام، وغيرها) وهو رقم هائل، لم يكن ممكناً لولا تطور خدمات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً التطور الكبير في كاميرات الجوَّالات وسهولة نشر صورها وفديوهاتها.
أعطى التطور التقني كل مواطن أداة توثيق وبثاً، وإيجاد ما يسمى بصحافة المواطن، حيث أصبح المواطن مراسلاً، واستُخدمت صوره وأفلامه قنوات إخبارية لتبثها للعالم، حين يكون هذا المواطن بهاتفه المحمول هو المراسل الوحيد في الميدان، كما حدث ويحدث في الحروب والكوارث وحوادث العنف. ولعل من أهم الأمثلة حادثة سقوط طائرة «يو إس إيرويز» سنة 2009م في نهر هدسون، بولاية نيويورك، حيث التقطت يانيس كرامز صورة الطائرة وهي تسقط، ووضعت الفلم على تويتر، وكان ذلك أنموذجاً اشتهر جداً لما يمكن أن تقوم به كاميرا صغيرة مدمجة في هاتف جوَّال.
لقد غيَّرت كاميرا الجوَّال عادات عامة الناس تجاه التصوير كفعل وكثقافة وغيَّرت خارطة سوق صناعة الكاميرات.
نمو كاميرا الجوّال
في أوائل التسعينيّات من القرن الميلادي الماضي، تمكن دكتور إريك فوسوم وفريقه من صنع أول كاميرا تصوير رقمية، على نحو ما جاء وصفه في مجلة «بيزنس ويك» في آذار / مارس 1995م. وفي الوقت نفسه تقريباً، تمكنت شركة «جي- فون» اليابانية من تطوير أول جوَّال بكاميرا تصوير بيع في الأسواق. ثم جاء تطوير الجوَّال ليرسل الصور بالإرسال الهاتفي.
بدأ انتشار الجوَّال بكاميرا في اليابان أولاً، ثم انتشر في العالم انتشار النار في الهشيم. وفي سنة 2003م، تخطت مبيعات الجوّال المزوَّد بكاميرا تصوير، مبيعات الكاميرات الرقمية في العالم.
وفي سنة 2008م، باعت «نوكيا» الفنلندية من الجوّال المزوَّد بكاميرا، أكثر مما باعت «كوداك» من كاميرات الأفلام التقليدية. وصارت أكبر منتج لكاميرات التصوير من أي نوع كان. وفي المقابل تقلَّصت مبيعات الكاميرات المدمجة بشكل كبير جداً لأن الناس بدأت تستغني تدريجياً عن شراء الكاميرات الصغيرة العائلية، حيث أصبحت كاميرا الجوَّال “هي الكاميرا المدمجة الجديدة” كما تقول المصوِّرة الأمريكية المعروفة أني لوبوفيتز.
مستقبل المدمج والاحترافي منها
وحيث إن هذه التقنية لا تتوقَّف بل تتطوَّر بشكل كبير، فلا يمكن التخمين كيف سيكون مستقبل هذه الصناعة. إلا أنه من الواضح أن الكاميرات المدمجة مهددة بالانقراض أسوة بما يحدث للكاميرات الفلمية بعد ثورة الكاميرات الرقمية.
ولكن ما مصير الكاميرات الاحترافية أمام كاميرا الجوَّال التي وصلت دقة بعضها إلى 41 ميغا مثل كاميرا جوَّال “بيور فيو” (808 Pure View) الذي صنعته نوكيا عام 2012م؟
في الواقع، يمكن مقارنة كاميرا الجوَّال كأداة بكاميرا الكوداك التي أنتجتها عام 1888م وغيرت طبيعة التصوير وثقافته إلى الأبد. فبعدما كان التصوير محتكراً من قبل المحترفين والعارفين بأسرار مواد التحميض، أعطت كوداك عامة الناس فرصة أن يصبحوا مصورين “اضغط الزر ونحن نكمل الباقي” كما كانت تقول كوداك في تسويقها لمنتجها، ومع ذلك ازدهرت سوق الكاميرات الاحترافية وتطورت ليس للعامة ولكن لمحترفي التصوير كمهنة تحكمها معايير وأخلاقيات وخاصة التصوير الصحفي.
من هذا المنطلق يمكن أن نتلمَّس كيف أثَّرت كاميرا الجوَّال على ثقافة الناس تجاه التصوير لتنتج لنا ما يسمى بالتصوير الشخصي (سيلفي selfie).
هذه الكلمة التي اختيرت ككلمة العام حسب قاموس أكسفورد وأصبحت شكلاً من أشكال الممارسة اليومية للناس، حيث يلتقطوا صوراً لأنفسهم ويشاركون بها الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى لأغراض التسلية والتوثيق.
إذاً، منذ اختراع الكاميرا وحتى الآن تغيَّرت مفاهيم الناس عن التصوير وممارساتهم له. ففي حين كان يتجوَّل المصوِّرون الأوائل بكاميراتهم بحثاً عن زبائنهم في الشوارع، ثم الانتقال إلى الاستوديوهات ثم مطاردات الحروب والأحداث، أصبح لكل فرد آلة تصوير متطورة في كف يده لا يوجهها إلى الناس والأحداث فقط بل إلى نفسه أيضاً. وكل هذا بفضل كاميرا الجوَّال، وحتى نكون أكثر دقة (كاميرتا الجوَّال الأمامية والخلفية)!
ولأنه عالم متطور تقنياً ومتغير ثقافياً لا يمكن الجزم كيف سيكون مستقبل كاميرا الجوَّال أو جودتها أو ممارستنا للتصوير وتقبلنا له من خلالها؟ وهل نحتاج في الأساس إلى كاميرا جوَّال ذات جودة عالية؟ أم كاميرا يمكن الوصول إليها بأقل عدد من اللمسات؟ وحتى لو تطورت كاميرا الجوَّال لتنتج لنا صوراً موازية من ناحية الجودة للكاميرات الاحترافية، فإن وجودها – أي كاميرا الجوَّال ذات الجودة العالية – لن يعطي العامة من الناس الموثوقية التي يمتلكها المصور الصحفي الذي تحكمه قوانين وأخلاق المهنة.
