محمد فارع فنان سعودي شاب. شكّل في محترفه في الرياض فضاءً فنياً، فرّغ له الجزء الأكبر من بيت العائلة.وذلك في اعتماده نمط حياة تقوده فعلياً لا مجازياً مفاهيم الفن..
ولدى لقائنا فارع في محترفه هذا، تشكَّلت عندنا صورة عنه، كفنان حريص على استقلاليته، وذي موقف إيجابي من مؤسسات الثقافة الرسمية في الوقت نفسه. كما يظهر أن لإيمانه بالتراكم والصدق مع الذات بالغ الأثر عليه في تكوين المواقف والمسافات بينه وبين مجايليه في الوسط الفني. إنه فنان وفيٌّ للتراث، ويظنه المشروع الأنسب لمصافحة الآخر، مؤمن بأنَّ لمحترفه الجميل دوراً اجتماعياً فاعلاً في الوسط الفني.
• لو استنطقنا روح محترفك، ماذا ستقول لنا عن الفن وعنك في عالم الفن؟
سيقول محترفي إن قصتنا كمجتمع لديها فرصة لتؤرخ فنياً بأجمل تفاصيلها. فنحن نعيش حياة الأسلاف من خلال فنهم فقط. وسيقول أيضاً إنني أبحث عن قلب واحد يجمع الفنانين من جهة والفن بهم من الجهة الأخرى. فالفنانون التشكيليون أو الفوتوغرافيون والشعراء والفنانون عموماً، هم دائماً في حالة اختلافات ضمن المهنة المشتركة. أريد للصدق أن ينشأ في بيئة الفن لدينا. أريد أن يتم تداول الفن بالصدق فقط.
• من الواضح أن أعمالك تقدِّم مجموعة من العناصر والمعلومات اللونية الأساسية حول التراث، وبشكل أقل وضوحاً بكثير، تظهر أهمية موضوعات أخرى تتطرق إليها لوحاتك. هل نقول إن فنك ذاتي يتعلَّق بالشعور أكثر من الفكرة؟
أولاً، الفن هو تعبير الإنسان عن ذاته وما حوله وما اكتسبه خلال حقبة زمنية يعيشها. والفنان «الحقيقي» هو نتيجة ما يكتسبه ويتعلمه من أشياء بسيطة. هنالك ثقافات أخرى سبقتنا لديها مهارات في الفنون تفوقت بها. ونحن نستطيع تعلم مهاراتهم وتقنياتهم. ولكن الجميل والمميّز ليس في ذلك إنما في «اختزال» الثقافة التي نشأنا عليها: البيوت، الشمس، المطر، النخيل.. كل شيء حولنا لمسناه، أحسسنا به هو من مكتسباتنا الجميلة، ويجب أن تخرج منها أعمالنا الفنية سواء أكانت تجريدية أو مفاهيمية، أو بأي شكل من أشكال الفنون، ويحق لي أن أعبِّر عن وجودي وكياني من خلالها. فبالنسبة لي، تدرجت في الرسم من قلم الرصاص إلى الواقعية ثم إلى التجريدية ثم إلى نوع من التعبير المفاهيمي..لأوصل رسالتي.. ولا أقول إن رسالتي بهذا الوضوح، ولكن انتمائي إلى بيئتي الذي أريد التعبير لكل العالم عنه هو في غاية الوضوح. وسيدرك الآخر ما أفعله.
• مناقشة فضاء المحترَف الخاص بك تجعلنا نتطرَّق إلى الإشكالات التي تواجهها في تلقي موضوعك الفني وفي تحوله وتطوره. إلى أي حدٍّ أنت مدرك للتحولات الفنية في أعمالك، وللصعوبات التي قد تواجهها هذه التحولات مع المتلقين؟
أنا أعي أن تحولات مراحلي الإبداعية ليست محاولة للتماشي مع المتلقين. وعندما أتغير فهذا لا يعني أن الأمر يحدث من أجل المتلقين أو الجمهور. إدراكي هو الذي يتغير. ربما في بداياتي كان يهمني أن أثبت احترافيتي وموهبتي.
الآن أرسم لأرتاح، لأنني أشعر بنوع من المسؤولية في طرحي. بت أعرف أن هناك نوعاً من الصدق يصل إلى المتلقين على أي حال. فمثلما تتغيَّر نظرة الإنسان من عيني الطفل إلى عيني المراهق إلى الناضج إلى الشيخ، فإن إدراك أي مبدع من المبدعين ينمو بنفس الأطوار تقريباً. وما يحكم كل هذا هو التطلع إلى الحياة بشغف. فما يتغير هو طريقة تعقيد الحياة. كل شيء حولي أقرأه وأراه بشكل أوضح الآن. وأنا أدرك أن رؤيتي في المستقبل ستكون أوضح وسأعبِّر عن كل مكتسب.
• إلى أي حدٍّ تطمئن إلى قدرة «محترَفك» كأداة كما تحب أن تسميه.. في عكس توجهك الداخلي وعمقك!
لقد تطور معنى المحترَف بالنسبة لي كثيراً. فقد جاء في مرحلة ما ليتدخل في تكوين حياتي ومنزلي الشخصي. وحولت «مجلس البيت» الذي هو وجه البيت وأهم مكان فيه، إلى محترف. لم يؤمن أهلي في البدء بفكرة المحترف لأجل الفن. ولعشرة أعوام أو أكثر، عانيت لكي أقنعهم بضرورة تغيير المكان ليتسع للفن مع الأشياء الأخرى. اقترحت أن يأتي الضيوف إلى مكان أكثر إثارة للدهشة من مجلس عادي. والآن، بعد كل هذا الزمن، استطعت تغيير المكان ليتماشى مع داخلي.
استطعت إدخال مجتمع الفن النخبوي إلى محترفي والفنان «الحقيقي» هو نتيجة ما يكتسبه ويتعلّمه من أشياء بسيطة..
لدي عائلة وأخوة يتشاركون البيت، وقد تغيروا داخلياً تجاه فكرة الفن بعد أن استطعت إدخال مجتمع الفن النخبوي إلى محترفي / الذي هو جزء من بيتهم الآن. المساحة بالنسبة لي أساسية لفني لأنها تمثل إيماني بالمساحة الصحيحة لمصافحة الناس، والتعبير عن الفن، وإيصال رسائل جميلة للمجتمع. ومساحتي استقبلت ضيوفاً مهمين. لذلك، أثق بأن المحترف جزء من مشروعي الفني الذي أعمل عليه. هو عملي الذي يتطور كل يوم أكثر وأكثر. التراكم الذي يحدث بفعل الزمن وتلاقح الأفكار يتشكَّل في داخلي، وينعكس في النهاية على المحترف.
ومن خلال فنون الآخرين الذين أشركهم في مساحتي من فناني جيلي وعشاق الفن، أستثمر الثقة التي تتكون بيننا وتثمر. وأستثمر من تجاربهم التي مروا بها لأتعلم. الفن أداة تتكلم عن ثقافة مجتمع كامل. أتعامل مع هذه الحقيقة بواقعية، وأحاول بتعاوني مع عدة جهات تنظيمية أن أتعامل مع ثقافة الآخر من خلال ثقافة وطني. ثقافة مجتمعي ومكاني وأصدقائي والفنون التي تحدث في كل لحظة حولي. خصوصاً الإسلامي منها الذي يملأني بمعاني الثبات من أجل ركيزة التقدم.
• ما هي الصعوبات التي تواجهها مع محترفك بصفته عالمك الأصغر بسبب انفتاحه على الحياة الاجتماعية بهذا الشكل الواسع؟
الصعوبة الأولى هي في أنني مضطر للبقاء في المحترف أقل بكثير مما أتمنى. بسبب ارتباطي بالعمل وعدم تفرغي لفني. هذا يحدّ كثيراً من فضائي الفني.. فضلاً عن الالتزامات الأخرى. أنا بحاجة لذهني وتركيزي وأتطلع لإنتاجي بشغف حقيقي.
• اهتمامك بأناقة محترفك واضح. فهذا فضاء يتوقع حضور الأصدقاء.. ويمارس سلوك المنصة الاجتماعية تقريباً. ويأخذنا هذا إلى سؤال عن إيمانك بجدوى التفاعل الاجتماعي بينك وبين الفنانين من جهة. وبين الفن والمقتنين الذين هم جزء أساسي من إحياء الاتجاهات الفنية أو قتلها.
بداية، أنا أحب الديكور والتصميم. ويجب أن يتناسب الإخراج مع المحتوى بشكل واضح ولافت. محترفي أنيق بسبب هذا لا أكثر. كما أن مرسمي يستقبل ضيوفاً وزملاء وأصدقاء وفنانين تشكيليين.. ولذا، أحاول العمل على تحويل محترفي إلى معرض دائم وخاص بمقتنياتي الشخصية. أنا أعشق الفن، وأريد للحياة أن تتحوَّل إلى قطعة فنية. لم يزرني مقتنون، كل زواري حتى اللحظة من الفنانين أو الأصدقاء أو الإعلاميين. وإذا تحوَّل المحترف إلى كيان رسمي، فقد نستقبل أكثر من ذلك. أتمنى أن يصبح هذا المحترف مكاناً يخدم الوطن من خلال الفن الذي يقدِّمه.
• لايوجد فن بمعزل عن المجتمع وما يجري فيه. وهناك تحولات كبيرة يواجهها المجتمع السعودي والعالم بأسره مثل تقنيات التواصل بين الناس.. كيف يواجه عالم الفن هذه التحولات برأيك؟ وما هي الرهانات والصعوبات والأثمان التي سيدفعها الفنانون جرَّاء ذلك؟
صارت وسائط التواصل الاجتماعي جزءاً من الفن. فظهر «الفيديو آرت»، وتغيرت بنية الفن وصورته بحسب تغير أشياء كثيرة في الحياة، ربما أكبرها هو ما نراه في ثورة الاتصال. فبتنا نستطيع أن نرى ورشة فنية في أي مكان في العالم ونحن في بيوتنا. وهذا تطور يخدم العمل الفني. ورغم أن سطح اللوحة «الكانفاس» تغيَّر، إلا أن الفن صار صدره أرحب، وتبقى اللوحة المتصدرة في نظري.
• تنبعث القرية وما زالت في أعمال أدبية وفنية كثيرة. فهل تكريس أعمالك لموضوع القرية هو موقف سلبي من المدينة؟
ليس عندي مثل هذا الموقف السلبي. أنا أرى البيوت القديمة تندثر، وجمالها ببقائها، وأنا أشير إليها بلوحاتي. والحمدلله أن هناك من عمل على المحافظة عليها لأنها الإرث الأجمل الذي تركه لنا من سبقنا، بجمالياته ومدلولاته ومناسبته للبيئة. وأنا أحافظ عليها من خلال لوحتي. هذه طريقتي في حفظ البيت التراثي الوطني في أي جزء من الوطن الغالي. وهي لا تزال ماثلة أمامي، وأنا أفتخر بها.
• أي نوع من الأمل تنطوي عليه مسيرتك الفنية؟ وإلى أين صارت تأخذك مؤخراً؟
اشتركت مؤخراً مع مجموعة من الفنانين السعوديين في معرض أقيم في مدينة كان الفرنسية وانتقل إلى باريس برعاية سفارة خادم الحرمين الشريفين في فرنسا. وكانت له أصداء جميلة في المجتمع الفرنسي. أما طموحي المستقبلي فهو أن أتمكَّن من إقامة معارض شخصية داخلياً وخارجياً. فأنا أعمل على هذا، وأفكر في تبنِّي تنظيم معارض داخلية أو خارجية لفنانين آخرين. أريد أن أمارس دوراً في تنظيم المعارض، وأن أستثمر خبرتي في هذا المجال لتنظيم ملتقيات فنية.
• هل تعتقد أن التكتلات الفنية في المجتمع السعودي هي ظاهرة إيجابية أم العكس؟ وبرأيك، هل تنشأ هذه التكتلات بحكم موضوع الفن أم سوقه؟ وإلى أي حدٍّ نحتاج إليها؟
التكتلات ظاهرة طبيعية في الحياة وفي مختلف المجالات. ولكن الجيد منها هو ما يخلق فضاء تنافسياً جميلاً وشريفاً، عبر أعمال منظمة. أما التكتلات التي تسعى إلى إلغاء الآخر أو تقلل من شأنه فهي هدّامة.
• كيف تتحدد أهمية الفنان في مجتمعنا؟ وهل هي صادقة وأصيلة في نظرك؟
هنالك فنان يُصنع وآخر يَصنع. هنالك فنان تتم صناعته ليكون فناناً، وهذا موجود وبقوة على ساحة الفن السعودي. فإذا أردنا أن نعرف الفنان فعلاً، فعلينا أن ندرك رحلته وتراكم تجربته الحياتية والفنية. هناك فنانون كُثر من نوع الفنانين الذين «يَصنعون» مثل الفنان محمد السليم وعبدالحليم رضوي، رحمهما الله، وطه صبان، وعلي الرزيزاء، وعبدالرحمن السليمان وغيرهم. هؤلاء لا نستطيع أن نشك في ثقافتهم وفي أسمائهم الراسخة. ولكن هناك أيضاً فنانون تم تصنيعهم. ولا نعرف كيف يحدث هذا بين ليلة وضحاها. لست مطَّلعاً بما يكفي لمعرفة السر وراء هذا، لكنني على يقين تام بأن الأمر أشبه بفقاعة الصابون. ويبقى للممارسة والتعب والتراكم والقراءة والتعلم لمسة الفرق الواضحة.
• هل يفي الدعم الرسمي بما يحتاجه عالم الفن؟ وإلى أي حدٍّ يمكن للفنان تجاوز هذا الدعم في طريقه إلى النجاح؟
هذا موضوع حساس بعض الشيء بالنسبة للفنانين. فعلى سبيل المثال، هناك «جمعية الثقافة والفنون»، وفهم دور هذه الجمعية سيمكننا من التعامل معها، أو وضع سقف توقعات موضوعي. هذه الجمعية وضعت لتطوير النشء الفني. وكثير من الفنانين ركنوا إلى هذه الجمعيات فلا يعملون أو يقيمون معارض إلا عن طريقها. علماً أن دورها يقتصر على تعليم الفنون ودعم الفنانين الناشئين.
أشعر بنوع من المسؤولية وتحولات مراحلي الإبداعية ليست محاولة للتماشي مع المتلقِّين..
يجب أن يعمل الفنان لنفسه. أن يقيم المعارض لنفسه انطلاقاً من ذاته. حركته المرنة هي دوره الأساسي تجاه فنه ونفسه. وهو دور أعمق بكثير من أي دور آخر يمكن أن يمارس عليه. بالطبع من المهم أن تدعم الجهات الرسمية المشاركات الداخلية والخارجية. أما تطور الفنان الشخصي فيقع على عاتق الفنان وحده. أرغب في رؤية دور الفنانين وتحركاتهم أنفسهم، وإن كان تحت مظلة وزارة الثقافة والإعلام. نحتاج كثيراً في الحقيقة، ولكن الأمور تبشِّر بالخير من خلال إنشاء المتاحف وحركة سوق الفن. ونحن نتطلع بشغف وتفاؤل إلى «رؤية المملكة 2030»، ونتوقع منها الشيء الكثير.
الجزء الأهم من الدعم يجب أن يأتي من الشركات والبنوك والمؤسسات القادرة على رعاية الفن وتغيير وضعه، كما هو الحال في المجتمعات الأخرى، حيث تلعب مثل هذه المؤسسات دور الراعي الأكبر للحياة الفنية المعاصرة.
• هناك معيار في الوسط الفني السعودي منذ نشأته، يمنح درجة أرفع للفنان الذي يتاح له العرض في الخارج. من ناحية أخرى، لا يمكن إنكار التجربة الثقافية الخاصة والمميزة لمن تتاح له هذه الفرصة، فماذا عنك وعن مشاركتك في العرض في الخارج؟
المعارض العالمية والبيناليات الكبيرة تقوم باختيار الأعمال من خلال قيِّمين عليها. هذه معايير جيدة لتقييم الفنانين. وهذه النوعية من الأعمال على الأقل ليست من نوع الأعمال ذات القيمة المضلِّلة. وكتجربة ثقافية فهي مميزة لأن الشعوب الأوروبية مثلاً، متمرسة في زيارة المتاحف، ولديها تشبع وفهم حقيقي للفن. ويشد انتباهها الجديد. وبيئتنا جديدة عليها وتجذبها. هناك تساؤلات ممتعة لدى الغربيين تجاه أعمالنا، وهم يقرأونها جيداً.
إن النقاش مع الآخرين المختلفين إيجابي جداً. ومع هذا، تبقى ضرورة تمسُّك الفنان بثقافته وتعاليم دينه. فأحياناً لا تتناسب بعض الفنون المعروضة مع خصوصيتنا. والعمل الفني بالإجمال هو الرسالة الأولى عنا، ويجب أن تكون رسالة صادقة ومعبِّرة.