حياتنا اليوم

هل أدخل البريد الإلكتروني ثقافة عملية جديدة؟

منذ انتشار استخدام البريد الإلكتروني، توقَّف كثير عند “حسنات” هذا الابتكار، وجوانب انتصاره على البريد الورقي التقليدي. ولكن، بمرور الوقت، وببلوغ الاعتماد على البريد الإلكتروني مستوى الذروة، يتكشف للمراقبين اليوم، أن هذا النمط الجديد من التواصل، وخاصة في مجال الأعمال، لا يخلو من جوانب مثيرة للاهتمام، كي لا نقول للقلق أو النقد. إذ يتبيَّن اليوم أن مفاعيل البريد الإلكتروني باتت تتجاوز جوانب السرعة وتوفير الورق والتكلفة الاقتصادية، لتطول ثقافة العمل في عمقها.

لا يتذكر راي توملينسون، الخبير الأمريكي في برمجة الكمبيوتر، ما كتبه عندما أرسل لنفسه أول بريد إلكتروني في العالم عام 1971، ولكن زميله جيري بيرشفيل يتذكر جيداً ما قاله له راي عندما أطلعه على ما استطاع القيام به: “لا تخبر أحداً! لأن ليس هذا الذي من المفترض أن نعمل عليه.” حدث هذا الاختراق التقني عندما كان هذان الخبيران يعملان على “أربانيت” ARPANET، شبكة وكالة مشاريع البحوث المتقدمة، التي كانت بمنزلة النواة الحقيقية التي أدت إلى ظهور شبكة الإنترنت. ولكن البريد الإلكتروني لم يصبح قيد الاستعمال على نطاق واسع إلا في تسعينيات القرن الماضي، عندما أصبح أداة تواصل حيوية بالنسبة لكثير من الشركات والمؤسسات التجارية. أما الآن، في 2016، فتشير الإحصاءات التي قامت بها شركة أبحاث السوق في مجموعة “راديكاتي” إلى أننا أصبحنا نرسل ما يُقدّر بنحو 205 مليارات رسالة بريد إلكتروني يومياً، بينما يتلقَّى موظف مكتب عادي نحو 121 رسالة إلكترونية كل يوم.

السرعة والقدرة على التحكم
لا شك في أن البريد الإلكتروني أدخل تغييرات كثيرة على بيئة العمل، أما النقاشات حول ما إذا كانت هذه التغييرات إيجابية أو سلبية فما زالت مستمرة. ولكن مهما كان الأمر، فقد أدخل البريد الإلكتروني ثقافة عملية جديدة في مسار الأعمال اليومية والروتينية. ففي كثير من الأحيان، بدا البريد الإلكتروني وكأنه هبة من السماء، إذ أعطى الناس القدرة على السيطرة والتحكم في اختيار الوقت المناسب لقراءة بريدهم الإلكتروني، والوقت المناسب للرد على الرسائل التي ترد إليهم. أما بالنسبة لأولئك الذين يفضِّلون المراسلات السريعة مع القليل من وقت الانتظار، فالبريد الإلكتروني جعل حياتهم أسهل، إذ قبل اعتماد البريد الإلكتروني، غالباً ما كان المديرون التنفيذيون يملون خطابات المراسلات على موظف يقوم بطباعتها، ومن ثم، كان المديرون يقومون بالتدقيق والتوقيع على النسخة الورقية لتأخذ طريقها إلى المرسل إليه عن طريق البريد التقليدي الذي لا قدرة لهم على التحكم بعمله لضمان وصول الرسالة في الوقت المحدَّد كما يشاؤون. كما أعطت الاتصالات الإلكترونية الموظفين إحساساً بالاستقلالية، فالبريد الإلكتروني سمح للعاملين على كل المستويات بإرسال الرسائل بشكل مستقل، وأتاح لهم فرصة التواصل مع الزملاء والعملاء وقتما شاءوا، حتى لو لم تكن إمكانية لقائهم وجهاً لوجه متاحة.

بدا البريد الإلكتروني وكأنه هبة من السماء، إذ أعطى الناس القدرة على السيطرة والتحكم في اختيار الوقت المناسب لقراءة بريدهم الإلكتروني، والوقت المناسب للرد على الرسائل التي ترد إليهم

مكاتب خالية من الورق
أما التغيير العملي البارز الذي أحدثه البريد الإلكتروني فهو ما أصبح يُعرف “بالمكاتب الخالية من الورق.” ففي تعريف مناصري الحفاظ على البيئة أصبحت أمكنة العمل صديقة للبيئة من ناحية تخفيض استخدام الورق. ولم يقتصر الأمر على وجود عدد أقل من الرسائل والوثائق المرسلة بواسطة النظام البريدي التقليدي، بل إن التخزين الإلكتروني سهَّل على الشركات الحفاظ على مختلف الملفات والوثائق دون اللجوء إلى الورق. وبالنسبة لكثير من الشركات، أسهم البريد الإلكتروني في تخفيض النفقات بسبب الحد من استهلاك الورق الذي يمكن أن يتجاوز التكاليف اللازمة لتثبيـت أجهزة الكمبيـوتر وتوصيلــها بشبكة الإنترنـت. كما أنــه اختصــر إلى حدٍّ كبير الوقت اللازم للبحث عن الرسائل القديمة في الأرشيف.

لا تكلفة مالية ولا اجتماعية
وعلى صعيد آخر، أزال البريد الإلكتروني التكلفة المالية أو الاجتماعية للمراسلات والاتصالات العملية والشخصية. فقبله، كان على الأشخاص التفكير قليلاً قبل إجراء أي مكالمة هاتفية، وليس فقط لأن العملية ستكلِّف بضعة دراهم، ولكن بسبب التردد والحذر من إمكانية إزعاج أو مقاطعة الطرف الآخر عن عمل ما كان يقوم به. فوجود البريد الإلكتروني أزال تلك اللحظة من التردد. وأصبح كل شيء يستحق إرسال رسالة بريد إلكتروني (كما اكتشف المسوقون ومرسلو البريد المزعج أيضاً). كما أن وجود حقلي الـ “CC” أو النسخة الكربونية و “BCC” أو النسخة الكربونية العمياء، وحتى خيار “الرد على الكل” جعل الأمور أسهل وأسهل.

عقد عملي جديد
وعلى الرغم من أن البريد الإلكتروني خدم غرضاً مهماً جداً في مكان العمل، وكان مساهماً فعالاً في مجال الاتصالات وعلاقات العمل الافتراضية، إلا أنه أسس لعقد عملي غير مكتوب، يفترض توفر الأشخاص للعمل طوال الوقت داخل مكان عملهم وخارجه (على الرغم من وجود توجُّه لدى بعض الدول الأوروبية بضبط هذا الجانب، مثل فرنسا التي أصدرت قانوناً يعطي الموظفين خيار قطع اتصالهم بالبريد الإلكتروني خارج دوام العمل). فمع وجود البريد الإلكتروني، أصبحت الأعمال تتجاوز مكان العمل إلى بيوت الموظفين، وذلك لأن تقنيات الاتصال الحديثة سهّلت على الأشخاص الوصول إلى أعمالهم في فترات المساء وأيام العطل.

لا شك في أنَّ ذلك له تأثير سلبي كبير على نوعية الحياة. فكم مرة رأينا العائلات تتناول العشاء بينما يبحث الوالدان (والأطفال) في هواتفهم النقالة عن الرسائل النصية أو رسائل البريد الإلكتروني بدلاً من الاستماع إلى بعضهم بعضاً؟ وإضافة إلى أن غياب التواصل داخل الأسرة يمكن أن يؤثر سلباً على العلاقات الأسرية الداخلية، إلا أنه يمكن أن يكون له امتداد سلبي أيضاً إلى مكان العمل. فهذا التواصل المستمر مع مهام العمل من خلال الرسائل الإلكترونية هو بالضبط “الإكثار من العمل” الذي تحدَّث عنه جون راسكين، المصلح الاجتماعي الأمريكي، عندما كتب في 1851: “من أجل أن يكون الناس سعداء في عملهم، هناك حاجة لأمور ثلاثة: أن يكون مناسباً لهم، وألا يكثروا منه، وأن يشعروا بالنجاح فيه”. إذ إنَّ التواصل الدائم مع التيار اللامتناهي من الرسائل الإلكترونية يمكن أن يتحوَّل إلى مصدر “للتوتر السام”، كما وصفه علماء النفس، لأنه يؤدي إلى القلق الدائم والتشتت الذهني وقلة التركيز.

قلّل البريد الإلكتروني من العلاقات الشخصية والتفاعل المباشر مع الزملاء والعملاء والمشرفين من خلال التواصل وجهاً لوجه

ففي دراسة قام بها الدكتور توم جاكسون، البروفيسور في إدارة المعلومات في جامعة لوبوروا البريطانية، وجد أن %70 من الأشخاص يمضون ست ثوانٍ للرد على رسالة بريد إلكترونية واحدة، ومع معظم تطبيقات البريد الإلكتروني المعدة للبحث عن الرسائل كل خمس دقائق يمكن أن يصل الأمر إلى 96 مقاطعة عن العمل في يوم عمل واحد من ثماني ساعات. بحيث تضيف كل رسالة بريد إلكتروني تصل إلينا مهمة عملية أخرى، مما يؤدي إلى شعورنا بالتعب الشديد آخر النهار وانخفاض قدراتنا الإبداعية والإنتاجية.

بيئة عملية منفصلة عاطفياً
من ناحية أخرى، قلّل البريد الإلكتروني من العلاقات الشخصية والتفاعل المباشر مع الزملاء والعملاء والمشرفين من خلال التواصل وجهاً لوجه، أو من خلال الرسائل المكتوبة بخط اليد. وقد أدى ذلك الانقطاع الاجتماعي إلى بيئة عمل باردة وغير شخصية، أو بتعبير أدق بيئة عمل منفصلة عاطفياً. ويمكننا هنا استذكار قول ألبرت أينشتاين عندما أعرب عن قلقه فيما يتعلق بهذا الموضوع عندما قال “أخشى اليوم الذي ستتجاوز فيه التكنولوجيا تفاعلنا البشري .. فإنّه سيكون للعالم يومئذٍ جيلٌ من البلهاء”.

وعلى الرغم من أن عزل التفاعل الإنساني المباشر الذي يوفره التواصل من خلال الرسائل الإلكترونيَّة قد يكون مريحاً كثيراً للبعض، إلا أنَّه يحجب معلومات مهمة من أي محادثة كلامية مباشرة.

فنحن نعتمد في التواصل وجهاً لوجه على معلومات غير لفظية مثل تعابير الوجه ولغة الجسد ونبرة الصوت لقراءة وتوقُّع تصرفات الآخرين. من دون هذه المفاتيح غير اللفظية المهمة، تلجأ مخيلتنا إلى إملاء الفراغ لمعرفة ما كان قصد مرسل الرسالة الفعلي، وما كان شعوره حول هذا التواصل. وقلما نملأ الفراغ بالنيَّات الإيجابية. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى سوء فهم والإضرار بالعلاقات واتخاذ قرارات عملية خاطئة. كما أن علينا التنبه إلى أن رسائل البريد الإلكتروني لها “نبرة”، حيث يتذكر الأشخاص النبرة العاطفية للرسالة الإلكترونية بوضوح أكبر ولفترة أطول من محتواها الفعلي. وتنتقل هذه النبرة من خلال اختيار الكلمات الافتتاحية والختامية وتركيب الجمل وطريقة تركيبها والتشكيل ورموز غرافيكية أخرى مثل رموز الإيموجي والرموز الانفعالية.

لا شك أن البريد الإلكتروني وسيلة عملية مهمَّة سهَّلت الأعمال وزادت من الإنتاجية في كثير من المواضع، ولكن لا شك أيضاً أننا استخدمناه إلى أقصى الحدود المنطقية. لذلك من المفيد التراجع خطوة إلى الوراء والحد من استخدامه، والتذكر أننا نحن كبشر مجبولون على التواصل بلغة الجسد والتعبير، وقبل أي شيء آخر: الصوت.

أضف تعليق

التعليقات

Mohammad Shamass

مَقالٌ رائعٌ وَ جَميلْ. بُرِكْتِ سَيِّدَتي ألفاضِلة وَبُركتْ أعْمالُكِ. أدامَك أللهُ لَنا عِزاً وَ فَخْراً وَ مَنبعاً للعِلمِ وَ ألثقافة. ُوَفَّقَكِ وَ رَعاكِ ألله وَ ثَبَّتَ خُطاكِ.

    محرر القافلة

    شكرا لك محمد على متابعتك وآرائك في المجلة. ونرجو أن تبقى القافلة فخرا لكم