علوم

الاحتباس الحراري

حقيقة أم خيال!!

أحد أكبر ألغاز علم المناخ اليوم يتمثَّل في أنه على الرغم من ضخ البشر مزيداً من غازات الاحتباس الحراري عبر الغلاف الجوي، إلا أن درجات الحرارة لم ترتفع كثيراً منذ أكثر من سنوات عشر، حيث تقدّر لجنة تغير المناخ بالأمم المتحدة أن مضاعفة مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) بالغلاف الجوي سترفع في النهاية حرارة الأرض بين 2 و 5.4 درجة مئوية. وهذا تقدير مدهش، لا سيما وأن “الاحتباس الحراري” الذي يتحدَّث عنه الجميع قد رفع حرارة العالم بمعدل 0.7 درجة مئوية وحسب حتى الآن.

يؤكد كثير من الباحثين اليوم أن طقس العقد المنصرم كان أكثر تطرفاً. ففي عام 2003 دهمت أوروبا موجة حارة فاقت أي صيف شهدته منذ 500 عام وأدت لوفاة الآلاف، وفي عام 2007 شهد بحر العرب إعصار جونو الحلزوني الاستوائي فكان أقوى إعصار سُجِّل على الإطلاق، وفي عام 2010 عانت روسيا من طقسٍ شديد الحرارة، وفي عامي 2010 و2011 نُكبت باكستان بفيضانات غير مسبوقة بسب العواصف المطيرة. أما في شمال الصحراء الكبرى فقد غطَّت الثلوج شوارع العاصمة الليبية طرابلس!

السؤال المهم هو: هل هذا مجرد اضطراب عارض، أم أننا بمواجهة طقس أكثر جموحاً بسبب تسارع معدلات الاحتباس الحراري العالمي؟

كانت هذه الظواهر تحدث في جميع أنحاء العالم، إلا أن تطرّفها في السنوات الأخيرة أطلق نُذر التوجس. إذ من الطبيعي أن تتحطَّم الأرقام القياسية في أيام معيَّنة بفارق كبير؛ لكن الغريب أن يرتفع متوسط درجة الحرارة في فصل بأكمله أكثر بكثير من المعتاد. وما يقلق أن الطقس لا يزداد دفئاً فحسب ولكنه يزداد جموحاً أيضاً. ولو أسقطنا هذا على المستقبل، بالتأكيد سيتجاوز قلقنا مجرد مسألة ارتفاع درجة الحرارة بكثير.

سنحاول في هذا المقال أن نلقي الضوء على الاحتباس الحراري (أو ما يسمى الدفيئة الأرضيَّة أو ظاهرة البيت الزجاجي)، فكلها عبارات شائعة تعني تدفئة طبقة الجو المحاذية للأرض.

ما هو الاحتباس الحراري؟
يحدث الاحتباس عندما تحتجز التربة حرارة الشمس ثم تعكسها للأعلى على شكل أشعة تحت الحمراء، فتنفذ إلى غازات الدفيئة التي تتميَّز بقدرتها على امتصاص أغلب هذه الأشعة، ومن أهمها غاز ثاني أوكسيد الكربون (CO2) وأوكسيد النيتروجين (N2O) والميثان (CH4) ومركبات الكلوروفلوروكربون (CFCs) وبخار الماء والأوزون (O3) عندما تسخن هذه الغازات تقوم بعكس الأشعة تحت الحمراء تجاه الأرض. وفي الليل تصد الغيوم الكثيفة الحرارة المنبعثة من سطح الأرض ولا تسربها للأجواء العليا أو الفضاء فترتفع درجة الحرارة الصغرى ليلاً. نُسبت هذه الظاهرة للبيت الزجاجي لأن الغازات تعمل مثل جدران البيت الزجاجي، حيث تدخل أشعة الشمس عبر زجاج البيت وتُسخّن الداخل، وتعمل الجدران على إبطاء نفاذ الحرارة للخارج فتمكث الحرارة هناك زمناً أطول.

وعلى الرغم من أن غاز ثاني أكسيد الكربون يشكّل الكمية الأكبر الملوَّثة للجو إلا أن كميات قليلة من الغازات الأخرى أشد تأثيراً في الاحتباس الحراري. فمثلاً تأثير غازات (CFCs) و(SF6) أشد بـ 1300 و23900 مرة على التوالي من كمية مماثلة لـ (CO2). ويمكن إجمال غازات الاحتباس في:

1. (CO2)، المسبب الأساسي لظاهرة الاحتباس الحراري، حيث تركيزه الحــالي 380 جزءاً بالمليــون، (كان تركيزه قبل الثــورة الصناعيـة 275 جزءاً بالمليون، ازداد بنحو %30). ونسبة امتصاصــه للأشعـة تحت الحمراء %55.

2. الميثان، ومصدره مناجم الفحم وعند إنتاج الغاز الطبيعي وعند التخلص من القمامة. تركيزه الآن ضعف ما كان عليه قبل الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر. ونسبة امتصاصه للأشعة تحت الحمراء %15.

3. الكلوروفلوركاربون، الذي يزداد سنوياًّ بمقدار %4. ونسبة امتصاصه للأشعة تحت الحمراء %24.

4. (N2O)، أصبح تركيزه أعلى بنحو %18 عن قبل الثورة الصناعية. ويتكوَّن بفعل المخصبات الزراعية ومنتجات النايلون، ونسبة امتصاصه للأشعة تحت الحمراء %6.

سبّبَ حرق الوقود وتدمير الغابات المدارية منذ بداية الثورة الصناعية – نحو سنة 1750 – تزايد كمية (CO2) وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري (تُعدُّ الولايات المتحدة أكبر مصدر لانبعاثات (CO2))، وقد ارتفع تركيزه بشدة في الفترة بين عامي 1960 و2010، وترتّب على هذه الزيادة تفاعله مع الماء منتجاً الأمطار الحامضية المؤدية لهلاك النباتات. وأسهمت غازات (CFCs) والميثان و (N2O) بمضاعفة تأثيره على المناخ وتعاظم ظاهرة البيت الزجاجي وزيادة متوسط حرارة سطح التربة ما بين (5.1-6.5) درجاتٍ مئوية.

وامتد تأثير الاحتباس الحراري إلى طبقة الأوزون (O3)، ويُعد أحد أهم أسباب ثقب هذه الطبقة. حيث تبدأ العملية بتصاعد غازات الدفيئة الأرضية حتى تبلغ طبقة الأوزون، وعند اصطدامها بها تؤثر سلباً في اَلية عمل جزيئاته بعد انقسامها وتمنعها من إعادة التوحد فتبدأ كمية الأوزون بالتناقص ويزداد تسرب الأشعة فوق البنفسجية للأرض مؤدية لزيادة حرارة الغلاف الجوي واليابسة، فتعجّل هذه الزيادة بالتالي من صعود غازات الدفيئة الأرضية عالياً لتصل إلى مدى أعلى وأعمق داخل طبقة الأوزون.. وهكذا.

درجات الحرارة وتقلبات المناخ
يؤكد التاريخ الطويل لمناخ الأرض تأثير الحرارة على تقلباته. فمثلاً عندما انخفضت درجة الحرارة في القرن السادس عشر نصف درجة مئوية اجتاحت موجة جليدية أوروبا أهلكت المحاصيل الزراعية وتسببت في مجاعة كبرى. ولو حصل العكس، ستطول الفصول الدافئة وستتوفر المحاصيل الزراعية، لكن الجانب الكارثي هنا هو تَضاعُف أعداد الحشرات المعمرة، فتُهلك ما حرثه البشر وتقضي على المصدر الرئيس لغذائنا. فارتفاع الحرارة درجة واحدة سيُسبّب زيادة نسبة رطوبة الغلاف الجوي بمقدار %7، وهكذا نجد أن عشرة من أصل خمسة عشر من أشد فيضانات ولاية (نيو هامبشاير) الأمريكية حدثت في الـ 15 سنة الماضية، والأمطار الغزيرة الجارفة التي كانت تحدث عادة كل 200 عام أصبحت تحدث الآن كل 25 سنة. وإذا لم تُخفَض الانبعاثات الغازية ستصبح هذه الأحداث أكثر شيوعاً وسيزداد احتمال حدوث موجات حَر أربعة أضعاف مقارنة بما كان عليه في عصر ما قبل الثورة الصناعية.

وفي العقود الأخيرة زاد فعلاً معدل حرارة منطقة النيبال درجة مئوية واحدة، فأدى هذا لتراجع الغطاء الجليدي فوق مملكة بوتان بمعدل 30-40 متراً في السنة وذاب جليد جبال الهيملايا مكوناً 20 بحيرة جليدية في النيبال و24 في بوتان، بشكل قد يهدِّد بفيضانات مدمِّرة في السنين المقبلة. ويُعدّ ذوبان الجليد أخطر عواقب الاحتباس الحراري لأنه سيؤدي لارتفاع مستوى البحر وغرق الجزر المنخفضة والمدن الساحلية. ويتوقع العلماء أن يُحدِث الاحتباس أيضاً موجات جفاف وتصحر مساحات كبيرة من الأرض وزيادة عدد وشدة العواصف والأعاصير وانتشار الأمراض المعدية في العالم، وحدوث كوارث زراعية وزيادة حرائق الغابات.

كان معدل تسارع ازدياد الحرارة قبل (7-15) ألف عام 0.005°م وخلال العَقد الواحد واليوم يتزايد بمعدل ° 0.2-0.6م لنفس الفترة. وتُقدِّر أكثر التوقعات تفاؤلاً أن تزيد حرارة الأرض 2°م بنهاية القرن الحالي. الأمر الذي لم تختبره الأرض منذ 3 ملايين عام، هذه الزيادة ستؤدي لانقراض كثير من الكائنات بسبب سرعة تغير البيئة مقارنة ببطء قدرة الكائنات على التأقلم معها. وما تحقق فعلاً في يومنا هذا بسبب الاحتباس الحراري هو التالي:

لم تسخن الأرض؟
تحكم المناخ العالمي بمنظومة معقَّدة من المتغيرات التي تؤثر على ديناميكية الجو وحرارة الأرض. فالذي يكبح ارتفاع درجة حرارة الأرض وجود الجليد في القطبين، وعلى قمم الجبال، ورطوبة التربة ومياه المحيطات. فالمياه تمتص معظم حرارة الشمس ولولاها لأصبحت اليابسة جحمياً يهلك كل أشكال الحياة. كما يلعب الجو دوراً رئيساً في تنظيم حرارة الأرض، حيث يبلغ معدلها +15°م وبدونه تنخفض إلى -15°م. وارتفاع حرارة سطح الأرض والجو سيرفع من وتيرة تبخر مياه البحار والمحيطات والترب، وهذا سيفاقم من ظاهرة الاحتباس الحراري لأن بخار الماء يحتفظ بالحرارة ثم يعكسها للأرض.

ويرى بيير فيدال، مصمم النماذج المناخية بجامعة ريدينج في المملكة المتحدة أنَّ الغابات تمتص قدراً كبيراً من حرارة الشمس، لكنها تبقى باردة وتحافظ على برودة الأرض عن طريق امتصاص المياه والسماح بتبخرها من أوراقها. لكن عندما تجف التربة ستغلق النباتات مسامها وتتوقَّف عن النتح. وعندما لا تُستهلك حرارة الشمس في تبخر الماء فستتوجه بالكامل إلى الأرض والهواء فترفع الحرارة بشكل كبير. وأصبحت هذه الظاهرة أكثر شيوعاً بسبب تذبذب هطول أمطار الشتاء وامتداد فترة المواسم الزراعية.

أما الاحتمال الآخر لسخونة الأرض هو بطء هبوب الرياح النفاثة، وهي رياح سريعة هائلة الحجم تندفع في طبقات الجو العليا من المناطق الاستوائية نحو القطبين بسبب فرق الحرارة بينهما فتحرّك أنظمة الطقس في كل العالم. وحركة هذه الرياح هي التي تقرِّر أن يكون الطقس متطرفاً أو بارداً قارساً أو حاراً جداً. ونتيجة لارتفاع درجة الحرارة، بدأ جليد القطب الشمالي الذي يعكس ضوء الشمس بالذوبان ليكشف عن البحر الذي يمتص حرارة الشمس ويخزنها بشكل يبطئ ويكبح الرياح النفَّاثة التي تطلقها الفوارق الحرارية. ويُعد القطب الشمالي أكثر تأثراً بالاحتباس من القطب الجنوبي، ولهذا فنصف كوكبنا الشمالي مرشح لمزيد من فوضى الطقس نتيجة زيادة دفء الأرض وعلينا التهيؤ لفصول شتاء وربيع شديدة الجفاف ولفصول صيف مهلكة القيظ.

الاحتمال الآخر هو ظاهرتا ” لانينا “و “إل نينو “، وهما نموذجان من التيارات البحرية في المحيط الهادي يمتد تأثيرهما الضخم إلى كل مناطق العالم؛ فالنينو يدفئ كوكبنا ولانينا يُرطّب المناخ العالمي. وتزايد تأثير لانينا قد يُسفر عن خفض درجة الحرارة عالمياًّ بمعدل جزء من الدرجة المئوية. أما تذبذب “إل نينو” فهو يَحكم تدفق المياه الدافئة على سطح المحيط الهادئ. وأدى تقلُّب هذا التذبذب لخلل فادح في الطقس كفيضانات أستراليا وباكستان التي حدثت بسبب مياه سطحية دافئة حَمّلتْ الهواء على غير المعتاد بكميات هائلة من الرطوبة، وتسبّب بين عامي 1992-2002 بكوارث أثَّرت على المزارعين و الصيادين في كثير من دول العالم. ولهذا يُعد النينو عالمياً سبباً في ارتفاع أسعار الغذاء لتأثيره المدمِّر على الزراعة. وقد تُسبب الحرارة المتزايدة مزيداً من جموح إل نينو وغيرها من عوامل الطقس لتضرب الفوضى أطنابها في مناخ المستقبل.

الأشعة الكونية
أجرى فريق من العلماء الألمان بحوثاً أظهرت أن للأشعة الكونية دوراً مؤثراً على مناخ العالم. وتبيّن أنَّها تولّد في الطبقات السفلى للغلاف الجوي كُتلاً من الشحنات الجزيئية التي تخلق أشكالاً نووية مكثَّفة تتحوَّل إلى غيوم كثيفة يقوم بعضها بتسخين كوكب الأرض والبعض الآخر يُبرِّده؛ وتوصلوا لأدلة قوية تفيد بأنَّ هذه الغيوم تلعب دوراً مهماً في التغير المناخي حسب تأثيرها على طبقات الجو الأيونية بشكل أكّد نظرية إسهام الأشعة الكونية بالتأثير على قدرة الغيوم على حجب الأشعة. فهذه الغيوم تمنع اختراق بعض إشعاعات الموجات القصيرة الوافدة للأرض، كما تمتص إشعاعات الموجات الطويلة الصادرة عن الأرض فيؤدي هذا لتبريد وتسخين الغلاف الجوي على التوالي، لكن حتى الآن لم يُعرف بالضبط آلية تأثير هذه الغيوم. وما زالت النظرية تفتقر لدليل يؤكد صحتها.

ويرى البعض أنَّ ارتفاع الحرارة ليس سيئاً، فالفترات الدافئة التي مرَّت بها الأرض كانت ذات تأثير إيجابي على حياة البشر، بعكس العصور الجليدية الصغرى المهلكة بصقيعها المفاجئ وتسببها في انتشار الأوبئة والأمراض. هذا صحيح إلى حدٍّ ما، ففي الزراعة يُعد غاز (CO2) ضرورياً بالتأكيد للنبات إلا أنه لا زراعة بلا ماء، وتغير المناخ سيسبِّب فيضانات أو جفافاً. ويمكن أن تصبح الأراضي الشمالية كسيبيريا مُهيّأة زراعياًّ بسبب الاحترار العالمي، إلا أن تربتها فقيرة ورديئة وكمية أشعة الشمس هناك شحيحة. وستسبِّب زيادة الاحترار كوارث بالبلدان الحارة أصلاً مثل المناطق الاستوائية أو شبة الصحراوية، وستدمِّر محاصيلها الزراعية أيضاً. وفيما يتعلَّق بصحة الناس فسيؤدي الشتاء الدافئ إلى خفض معدل الوفيات بين الضعفاء والمسنين، لكنهم سيكونون عرضةَ للموت بسبب الحرارة الإضافية صيفاً، فضحايا موجات الحر تفوق بخمس مرات ضحايا البرودة الزائدة. كما سيشجع المناخ الدافئ انتقال الحشرات الخطيرة كبعوض الملاريا إلى مناطق جديد بالنسبة لها. وسيسبِّب فقدان لون الثلج الأبيض العاكس لأشعة الشمس وزيادة معدل تسرب غاز الميثان من التندرا الجرداء من الجليد في القطب الشمالي مضارَّ جسمية. واستيعاب مزيد من (CO2) في مياه المحيطات سيزيد من حموضتها الأمر الذي قد يزعزع استقرار السلسلة الغذائية… والقائمة تطول.

ليست ظاهرة فريدة
لكن هذه ليست أول مرة يتغيّر فيها المناخ، فقد مرَّت الأرض خلال الـ 700 ألف سنة الماضية بدورات جليدية استمر بعضها لفترة 10 آلاف سنة، كما حلّت عصور أدفأ من الآن رغم عدم وجود انبعاثات غازات كربونية. لكن الشيء المؤكد هو أنَّ (CO2) والميثان شاركا في معظم التغيرات المناخية التي حدثت للأرض سابقاً، وتزامنت الفترات الدافئة مع زيادتهما و الفترات الباردة مع نقصانهما. ففي العصرين الطباشيري والإيوسين مثلاً ارتفعت نسبة (CO2) قليلاً لكن الحياة ازدهرت خلالهما لتوازن كربون الجو مع كربون المحيطات والكربون الناتج عن تجوية الصخور، إلا أنَّ الأمر تطلّب ملايين السنين حتى تكيفت غازات الجو مع الحياة بشكل عام، وكيمياء المحيطات بشكل خاص. لكن اليوم قفزت معدلات (CO2) إلى مستويات عالية بسرعة غير طبيعية، مما سبب إرباكاً مناخياًّ وانقراضات حيوية أحياناً. فهل يا ترى سنتكبَّد نتائج كارثية وانقراضات جماعية كالسابق؟

وما زاد الطين بلّة أنَّ البشر غيّروا معالم البيئة العالمية بشراسة، فأزالوا مساحات كبيرة من غابات أوروبا وآسيا والأمريكيتين، وأخضعوا %83 من مساحة اليابسة، وهيمنوا على %36 من مساحاتها المنتجة ونصف المياه العذبة للعالم. هذه السيادة على كوكبنا خلّفت آثارها المروعة على التنوع الحيوي، فقد تدهورت %60 من النظم البيئية ووصل معدل الانقراض لألف ضعف عمّا حدث طبيعياًّ في السابق خلال فترات جيولوجية طويلة. وعلى الرغم من هذا فالبعض يؤمن بألّا خطر يهدِّد الأحياء، لكن البحوث أكدت بحلول عام 2050 ستكون -18 %35 من الحياة النباتية والحيوانية على شفير الانقراض.

و يؤكد هذا تاريخ الأرض، فالتغيرات المناخية العنيفة في الحقبة الجيولوجية المبكرة Palaeozoic (قبل 250 مليون سنة) وعصر الإيوسين Eocene (قبل 55 مليون سنة) والدورات الجليدية خلال المليون سنة الأخيرة خلّفت آثاراً مدمِّرة على الأحياء وارتبطت بقوة بانقراضات جماعية. هذا بالتأكيد يدحض براءة دور تغيّر المناخ من تدمير الحياة الطبيعية.

كل ما عرضناه من غزارة تساقط الثلوج والأمطار والجفاف والأعاصير هي أحداث طقس وليست مناخاً. فالتغير المناخي هو تغير طويل الأمد وهو الأهم لكونه وصفاً لتقلبات الجو لحُقب زمنية طويلة، وكل المؤشرات أكّدت أن الاحترار ما زال جاثماّ على الأرض بدليل أن الفترة بين عامي (2000-2008) كانت الأشد حرارة. لكن الاحترار العالمي بعدها توقف فجأةً وأخذت الأرض تتجه نحو البرودة! الغريب أنَّه حتى يومنا هذا لم يتوقَّع أي نموذج حاسوبي مناخي توجه الأرض للبرودة، بل على النقيض تماماً كل النماذج تنبأت بالعكس. ربما لأنَّ مؤسسي هذه النماذج أَسَرَتْهم مظاهر الاحتباس الحراري فجنّدوا برامجهم، لتأكيد هذه الظاهرة وأغفلوا بعض آليات المناخ غير المتوقعة. هذا التناقض يؤكد أن توقعات نماذج المناخ المستقبلية لا يمكن التعويل عليها. ونحن نشهد الآن هذه الظواهر المتطرفة بعدما بلغ الاحتباس الحراري زيادة 0.7°م فقط، وإذا لم نفعل شيئاً وتركنا حرارة المناخ تزداد 5 أو 6 درجات فسنرى كوكبنا مختلفاً تماماً.

أين تذهب حرارة الأرض؟
في السنوات الأخيرة بدأ الاحترار العالمي بالتباطؤ، الأمر الذي دفع الباحثين للبحث عن تفسير أين تذهب حرارة الأرض؟ يقول إدوارد هوكنز، عالم المناخ بجامعة ريدنج،إن أكثر الأماكن ترجيحاً هي المحيطات التي تمتص معظم الحرارة، والاحتمال الثاني هو أنَّ رماد الانفجارات البركانية والتلوث الصناعي قد عكسا كميات أكبر من طاقة الشمس إلى الفضاء، والاحتمال الأخير هو الهدوء الطويل في نشاطات الشمس منذ بداية الألفية الحالية. فيما يرى باحثون آخرون أنَّ التزايد المستمر لانبعاثات غازات الاحترار وانخفاض حساسية المناخ سيؤجلان فقط الاحترار العالمي، ويتوقعون انفجار قنبلة الاحترار في سنة 2050. لكنهم حتى الآن لم يستطيعوا تقديم ما يثبت هذا، وبقيت المسألة بلا حسم.

الأمر الذي يدعو للاستغراب هو أنَّ حرارة سطح الأرض في منتصف السبعينيات بدأت بالارتفاع، بينما حرارة طبقات الغلاف الجوي السفلى لم تتغير بنفس النسبة. ربما هذا يعزِّز احتمال أنَّ ارتفاع درجة حرارة المناخ العالمي ليس بسبب التغيرات التي سببها الإنسان لأن تأثيرها كان سيرفع حرارة الغلاف الجوي كلّه من الأسفل للأعلى، إلا أنَّ الأدلة على هذا ما زالت ضعيفة.

أمام هذا التضارب تباينت آراء العلماء، فرجّح بعضٌ أن يكون سبب الاحترار هو زيادة التلوث الجوي لأسباب طبيعية كالملوثات العضوية والبراكين وحرائق الغابات، والأسباب الصناعية أن الإنسان بإزالته للغابات وحرق النفط والفحم والغاز الطبيعي والغازات السامة المنبعثة من المصانع.

وعارض فريق ثانٍ هذا الرأي، ورأى أن لا شيء يؤكد ربط ارتفاع الحرارة بظاهرة الاحتباس الحراري، فالأرض تخضع لدورات ارتفاع وانخفاض حرارية، ومناخها يشهد فترات ساخنة وأخرى باردة طبيعياًّ. كالعصر الجليدي الأصغر المذكور آنفاً، وارتفاع حرارة الأرض الذي بدأ في سنة 1900 واستمر حتى منتصف الأربعينيات وانخفض بين منتصفي الأربعينيات والسبعينيات، ثم أخذ بالارتفاع مرة أخرى. وفي الثمانينيات ظهرت فكرة ربط الاحتباس الحراري بارتفاع حرارة الأرض. ولكن كثيراً من العلماء أقرّوا بعجزهم عن تقديم تفسير كامل، لأن مناخ الأرض نظام مركَّب يخضع لمؤثرات شديدة التعقيد ومحاكاتها تفوق قدرة أسرع وأذكى الحواسيب مما يُصعّب (أو يستحيل) معه التنبؤ بالتغيرات المناخية طويلة الأمد بدقة.

و يرى فريق ثالث أنَّ السبب الرئيس لارتفاع حرارة الأرض هو تزايد الرياح الشمسية والمجال المغناطيسي الشمسي اللذان خفَّضا كمية الأشعة الكونية عالية الطاقة التي تولّد باصطدامها بالهواء جزيئات جديدة لأنواع معيَّنة من السحب تساعد على تبريد الأرض. وعندما سينخفض النشاط الشمسي المؤقت ستعود درجة حرارة الأرض إلى طبيعتها، ويرون ألَّا طائل وراء وسائل تخفيض نِسب انبعاث (CO2)؛ لأن هذ لن يغيِّر شيئاً ما دام النشاط الشمسي مستمرّاً وأنَّنا مهما عملنا فلن يكون ذا تأثير على النظام الكوني الهائل الذي يتضمَّن نظام المناخ الأرضي. هذا التفسير أراح كثيراً من الشركات الملوَّثة التي تحتج دائماً بهذا التعليل العلمي لتتهرب من مسؤوليتها في التأثير على المناخ العالمي، فخلال الفترة من عامي 1965-2000 أظهرت الشمس ميلاً طفيفاً للبرودة بينما استمرت حرارة الأرض بالارتفاع. وهذا ما أكده المخطط البياني لمعهد جودارد التابع لناسا (أعلاه)، (البرتقالي) التغيُّر السنوي العالمي لدرجة حرارة الأرض، و(الأحمر) متوسط قيمها لكل 11 سنة. وبيّن كذلك قوة الإشعاع الشمسي الكلي (الأزرق الفاتح) ومتوسط قيمها لكل 11 سنة (الأزرق الغامق). لكن المدعين بأن الشمس هي السبب يزيفون هذا المخطط بحذف العقود الأخيرة منه.

ويؤيد حبيب الله عبد الصمدوف، رئيس مركز بطرسبورغ للبحوث الفلكية، عدم ارتباط ارتفاع حرارة الأرض بتزايد كمية (CO2) في الجو، ويقول: “رغم ارتفاع نسبة (CO2) بالجو فالحرارة منذ عام 2008 بدأت بالانخفاض بشكل أكده توسع مساحة الجليد في المنطقة القطبية الشمالية. والتغيرات المناخية التي شهدتها الأرض خلال مئات ألوف السنين تعود إلى تباين المعدل السنوي للإشعاع الشمسي الذي يحدث كل مئتي سنة وليس لارتفاع نسبة (CO2) في الجو. فخلال الـ 7500 سنة الأخيرة شهدت الأرض 18 حقبة جليدية قصيرة، ارتبطت كلها بتقلبات قوة سطوع الشمس. أما العصور الجليدية الطويلة فسببها حركات طبيعية لكوكبنا تتكرَّر كل 100,000 سنة، كتغيُّر حركة مدار الأرض وزاوية انحراف محورها بشكل يقلّص كمية الإشعــاع الشمسي الوارد إليها فتتغيَّر عندها كميات بخار الماء و (CO2) بالجو الذي يطلقه تغيُّر درجة الحرارة”.

ويضيف حبيب الله: “وبحلول عام 2040 سينخفض سطوع الشمس لحده الأدنى؛ وبعد 50 أو 60 عاماً سيهبط معدل درجة الحرارة 1°م فقط، وهذا ليس مقداراً تافهاً بل مؤثراً جداًّ، ولن يشعر سكان المناطق الاستوائية بهذا، لكن الوضع سيكون كارثياً في شمال الأرض وجنوبها. وسيتكرَّر ما شهدته أوروبا عندما حلّت حقبة “موندر” الجليدية في الفترة بين عامي 1645 و1715 فتغطّت أنهارها بطبقة سميكة من الجليد وفقدت كل من فلندا والسويد نحو نصف سكانها جوعاً أو بالهجرة. هذا الانخفاض أخطر من الاحتباس الحراري، إذ ستؤدي موجة البرد هذه إلى تركّز الزراعة جنوباً، وستنقُص موارد الغذاء والطاقة، ولن تكون المباني الإسمنتية صالحة للسكن إطلاقاً”.

أضف تعليق

التعليقات