أعلن متحف «تايت» في لندن مؤخراً عن بدء التحضير لإقامة معرض استعادي شامل في ربيع العام المقبل لأعمال الرسام البريطاني دايفد هوكني الذي يُعد واحداً من ألمع الرسامين البريطانيين المعاصرين. ومن مفاخر المعرض المرتقب، حسبما جاء في نشرة المتحف، اللوحات المميزة التي رسمها هوكني في مدينة لوس أنجلس الأمريكية، والتي تمحورت في معظمها حول المسابح المنزلية وأسلوبه الفريد في معالجة مشهد الماء المتحرك فيها، وكانت وراء شهرته العالمية.
في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وصل الفنان البريطاني دايفد هوكني لأول مرة إلى مدينة لوس أنجلس الأمريكية آتياً من لندن، باحثاً عن الهدوء الملهم والشعور بالحرية. وبقليل من المال اختار مكان إقامته المؤقت في إحدى الشقق وبدأ بالرسم. إذ كان يرى أن هذا كل ما يحتاجه تقريباً في سبيل تجربة مختلفة.
ما الذي جذب هوكني إلى لوس أنجلس؟ الجواب بكل بساطة، هو الطقس الأخَّاذ والمكان المثير، عالم من أشجار النخيل وأحواض السباحة، إضافة إلى كون المدينة كانت تعيش حالة من التوهج الثقافي بعد وصول كثير من الفنانين المنفيين من أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية من أمثال توماس مان وإيغور سترافينسكي وألدوس هكسلي. كانت لوس أنجلس تشبه المكان الحُلم لأي فنان، وقد تشكَّل هذ الانطباع لدى هوكني بعدما كوَّن الصورة الجمالية الخاصة به عن المدينة، جمال المناخ والمتعة التي يشعر بها الناس تحت الشمس، وشكَّل هذا مصدر إلهام خاصاً به، وأسهم في اختياره للألوان النابضة بالحياة.
ولد ديفيد هوكني عام 1937م، ودرس في أكاديمية برادفورد للفنون قبل أن يلتحق بالأكاديمية الملكية للفنون في لندن. سافر إلى لوس أنجلس لأول مرة فور تخرجه عام 1964م، وخلال الأعوام التالية تأثر بالأضواء ونمط الحياة في المدينة. وبحسب شهادته فإن «الأضواء في لوس أنجلس مذهلة أكثر بكثير من إنجلترا». وهناك بدأ العمل على سلسلة (أحواض السباحة) بأسلوبه البسيط الذي يقترب كثيراً من الواقعية. وظهر من خلالها أنه يتمتع بالموهبة في القبض على الموضوع والجرأة في التقاط اللحظة، حيث وثَّق الصيف في تلال هوليود والمظلات، والنقوش الزاهية، وحتى حداثة الديكور والعمارة.
جاذبية السطح المتغير للماء
بمجرد وصوله إلى لوس أنجلس إذاً، اكتشف هوكني أن لدى الجميع حوض سباحة. وأحواض السباحة في العموم ليست شيئاً مميزاً، ولكن في لوس أنجلس كان حوض السباحة يُستخدم، بسبب الطقس، على مدار العام. كما أنه لم يكن دلالة على الرفاهية بالضرورة مثلما هو الحال في كثير من المناطق الأخرى.
لقد انجذب هوكني إلى سطح الماء المتغير على الدوام، ووجد فيه ملهماً يستطيع من خلاله تناول موضوعاته الفنية المتعلِّقة في بُعدين حساسين من أبعاد التجربة الإنسانية، ألا وهما الخيال والذاكرة. ساعدته في ذلك مجموعة الألوان التي كان يستخدمها، فالذهبي والأزرق والأصفر والأخضر ألوان تمنح الشعور بالتوهج والصفاء اللذين تحتاجهما النفس.
شكَّلت مجموعة «رش» (Splash) المؤلفة من ثلاث لوحات لأحواض سباحة يُثار فيها سطح الماء على شكل رشة كبيرة، أهم ما في سلسلة (أحواض السباحة) التي أنجزها بين عامي 1966 و 1967م. وفيها استلهم من معاصريه، البريطاني برنارد كوهين والفرنسي جان دوبوفيه تناولهما لسطح الماء. كما ترك مساحات واسعة من قماش الرسم خاماً، دون صبغ أو بقليل منه، في محاولة منه لمحاذاة الخيال والذاكرة بالحالة الأصل للنفس الإنسانية، الحالة التي تسبق الشعور والتجربة.
تشترك تلك اللوحات في تصوير مشهد درامي، ولكنه في الوقت نفسه مشهد صامت ومهيب وخالٍ من الأشخاص، على عكس لوحاته السابقة التي كانت تصور أحواض سباحة تحوي شخصاً، في الغالب ذكراً يدير ظهره. أما في مجموعة «رش»، فالدراما حاضرة في حركة الماء المفاجئة وقصيرة الأجل.. وبهذه الطريقة يجعل هوكني من حضور الشخص السابح حضوراً مختلفاً ومتناقضاً، يتراوح في الوقت نفسه بين الحضور والغياب، وبين السكون والحركة.
إخفاء الحضور البشري وإظهار أثره
كان هوكني دائماً مهووساً بالزمن، وبالاختلاف بين الزمن على أرض الواقع وبين الزمن كما نعيشه. ولكنه في هذه اللوحات تقدَّم في الزمن خطوة إلى الأمام، وتلاعب بالحضور البشري في اللوحة، مُخفياً هذا الحضور ومُبقياً على أثره. وفي هذا يقول عن اللوحة الثالثة من المجموعة التي استغرقت منه أسبوعين كاملين: «عندما تأخذ صورة لرشة ماء فأنت تجمّد لحظة لتصبح شيئاً آخر. أدرك أن الرشة لا يمكن أبداً أن تُرى بهذه الطريقة في الحياة الواقعية، حيث تحدث بسرعة شديدة. وأعجبني هذا، لذلك رسمتُها بطريقة متأنية جداً». يصوِّر هوكني في اللوحة اللحظة المهمة للماء المتطاير قبل أن يعود السطحُ المتحرك إلى هدوئه وصفائه من جديد. وبالطبع ينقل هذه الصورة عبر مجموعة الألوان الجريئة والفاتحة التي تناسب المشهد الطبيعي والذهني لحوض السباحة بشكل خاص وللمنطقة الجغرافية بشكل عام. فالضوء القوي الذي تتميز به كاليفورنيا المشمسة عموماً ولوس أنجلس بالتحديد، هو ما جذب الفنان إلى المنطقة. واستطاع اللون الفيروزي ودرجات الأزرق الفاتح التي تنتهي بالأبيض وباقي الألوان المشرقة، التعبير عن الموضوع بنجاح.
لقد أسهم هوكني في التعريف بلوس أنجلس، وأصبحت لوحاته من أهم أعمال تيار «البوب آرت». وخلال فترة قصيرة زادت شهرته كفنان له أسلوبه المختلف. فهذا الفنان معجب بالانطباعي هنري ماتيس وبيكاسو وحتى هوكوساي الرسام الياباني، ومتأثر بالحيوية الانطباعية في اختيار اللون. كان يفضّل الرسم على أسطح القماش، وباستخدام متفاوت للألوان المائية والزيتية. معظم تلك الأعمال تناولت موضوع لوس أنجلس الفاتن، الطقس والسباحة والمناظر الطبيعية. يقول هوكني: «الألوان تحركني. في إنجلترا يفتنك الأخضر في كل مكان والأحمر لون حافلات لندن، لكن هنا الضوء والسماء الزرقاء يفتناني جداً».
عمل هوكني على مجموعة من اللوحات التي تصوِّر الطبيعة في كاليفورنيا، بدقة في نقل تفاصيل البيئة وتعدد الفصول. وتحمل واحدة من أهم لوحاته عنوان «الطريق إلى الأستديو»، وتبدو مثل مهرجان للألوان، يتضح من خلالها تأثره بالانطباعية. فأعماله تمثل الشغف الذي كان يعيشه، والمتعة في اكتشاف الطريقة التي ينظر بها إلى العالم، حتى أصبح واحداً من أشهر الفنانين البريطانيين وأكثرهم تأثيراً في القرن العشرين.
في عام 1978م، قرَّر هوكني شراء منزل على أحد تلال هوليوود، أنشأ فيه الأستوديو الفني الخاص به وأصبح جزءاً من المشهد الفني في المدينة، حيث أسهم في تأسيس متحف الفن المعاصر في لوس أنجلس، وأصبح من رواد حركة «البوب آرت» الفنية برفقة آندي وارهول. وكان نمط الحياة الاجتماعي الذي يعيشه يتيح له الاختلاط بنجوم السينما والموسيقيين، فقام برسم مجموعة من اللوحات بإلهام من الباليه والموسيقى. ولفترة، سُحر هوكني بالكاميرا، وعمل على مجموعة من الأعمال الفنية بكاميرا البينتاكس والبولارويد. في الغالب كان يفضِّل التصوير السردي والكولاج. فقد كان يحب تجربة الأساليب الفنية المختلفة بدءاً بآلات الفاكسيميلي وبرامج التصميم، وانتهاءً بالأجهزة اللوحية مؤخراً.
كان تأثير كاليفورنيا على دايفد هوكني عظيماً. ففي الفترة التي عاد فيها إلى مسقط رأسه في يوركشاير عام 2007م، راح يرسم بسطوة اللون البنفسجي، وأنجز مجموعة من اللوحات بأحجام ضخمة استلهمها من الطبيعة الخصبة في الريف الإنجليزي. لكنه عاد مجدداً إلى لوس أنجلس، إذ يبدو أن هذه المدينة تشكِّل ملاذاً له، يرى فيها أنه فنان منتج أكثر وأسعد. فعمل مؤخراً على مجموعة من «البورتريهات» لأشخاص من كل الأعمار يجلسون ببساطة على كرسي خشبي بخلفية زرقاء. فالفنان البريطاني بات مرتبطاً حتى النخاع بكاليفورنيا، يدلّ على ذلك قوله: «لقد عشت وقتاً طويلاً هنا، إني أرى في لوس أنجلس المكان الأكثر جنوناً وإبداعاً».