الروائيون ثلاثة: من يقرأ أكثر مما يكتب فعمله في المقدِّمة، ومن يكتب قدر ما يقرأ فأعماله متذبذبة المستوى، ومن يكتب أكثر مما يقرأ فأعماله لا يعوّل عليها. والقراءة ليست وقفاً على مطالعة الكتب، وإنما تتسع لتشمل تأمل العالم وقراءة المشهد الإنساني والكوني بكل تفاصيله الممكنة وهو ما يجعل من القراءة مقوّماً أقوى لبلوغ النص مكانته الفنية.
من هذه المنطقة يأتي جبير المليحان في روايته الأولى “أبناء الأدهم” بوصفها مدونة سردية ليست الأولى في سياق تجربته السردية المكتنزة بمجموعاته القصصية ودوره الأبرز في متابعة القصة العربية عبر موقعها الأشهر الذي أصبح بمنزلة الأكاديمية التفاعلية للقصة العربية.
د. مصطفى الضبع
شكلياً، لم يغادر جبير المليحان (المخلص للقصة بأشكالها المختلفة وخاصة القصيرة منها) نظام القصة عبر ملاحظة أولية تتجلَّى في مجموعة العناوين الدالة على اعتماده تقنية الانفصال – الاتصال، حيث يتوزع النص بين القصة القصيرة والمتتالية القصصية والرواية. ما يزيد على الثلاثين عتبة داخلية تفتح أبوابها لقراءة عالم النص وتضع في يد متلقيها عدداً من الخيوط التي تتشعَّب لتشكِّل في النهاية شبكة علاقات النص بكل ما تتضمنه من تفاصيل، تعتمد في معظمها على جملة ناقصة، مفردة واحدة تكون بمنزلة المبتدأ لنص يكون الخبر لمبتدئه، يستهلها السارد بعنوان دال يبدو خارج النص لكنه داخل السرد “أصل الحكاية”:
قيل:
إن شاباً اسمه أجا …..
وقيل، وقيل … ومع كل هذا، نؤكد أن الحكاية حدثت كما يأتي: “(الرواية ص 9)”
يمنح السارد هنا نفسه حق امتلاك المعرفة. معرفة الحكاية في أصلها (تماماً كالسارد القديم في الحكايات العربية القديمة حين يلقي بذهن متلقيه خارج حدود المكان والزمان: كان يا ما كان في بلاد كذا، أو كان يا ما كان في سالف العصر والأوان، مما يجعله الوحيد القادر على إدارة الحكاية بلا منافس يمكنه أن يتحقق من أحداثه أو يلتقي واحدة من شخصياته، وحين يعطي السارد نفسه حق المعرفة يمنحنا القدرة على التثبت من حكايته والقبول بها دون غيرها.
إنَّ كل نص روائي هو أسطورة، أو حامل لجيناتها، هذا ما تؤكده العناصر السردية المتنوعة: اللغة والمجازات والسرد فوق الواقعي والشخصيات التي تتحرَّك في فضائها الخاص، والأحداث ذات الطبيعة الخاصة التي تتحرَّك وفق خيال صاحبها، تتشارك جميعها لتقديم أسطورة خاصة ليست هي الواقع وإن شابهته، وليست هي الحياة التي يعيشها الأشخاص خارج النص، وإنما هي نوع من الأسطورة المطروحة على وعي المتلقي ليست مقصودة لذاتها بقدر ماهي مقصودة لغيرها. في الحكاية ذات الطابع الأسطوري أو تلك التي تحمل خصائص الأسطورة لا يقدمها ساردها ليقول لنا عليكم أن تعيشوا الحالة فقط ليجعلنا باحثين عما وراءها، عن نسق يشبهها يمكننا أن نعيشه أو نتابع بعض تفاصيله.
وعبر مسارين يصنع النص أسطورته الخاصة:
– قصة الجبلين وانعكاساتها على الحياة الراهنة.
– الإنسان في مجابهته عوامل الفناء من أجل البقاء. والرواية نفسها تمثل نوعاً من المقاومة، مقاومة الفناء، فناء الإنسان في الحكاية وفناء الحكاية في تفاصيل الحياة، والسارد يراهن على امتلاكه ناصية الحكي وأصل القول مستشهداً بنصه الذي هو شاهد عليه، ومانحاً بعض شخوصه الحق في العمل وفق قوانينه هو، حين يمنح بعضهم حق الحكاية وتقديم نفسه كاشفاً عن ديمقراطيته، على الرغم من مساحات السيطرة التي يمنحها لنفسه ويعضدها ما يبثه من شواهد شديدة الدلالة يدرك تماماً مدى تأثيرها على متلقيها، من بينها قصة الحب التي يسوقها في سياق نص معني بالبحث عن الأصول، لا لمجرد حفظها، ولكن رهاناً على وعي لا بدّ له من الإدراك، إدراك الأشياء إدراكاً حقيقياً تمنحه القدرة على مقاومة عوامل الفناء عبر تحقيق هويته.
هوّيات متعاضدة
ينتمي النص الروائي إلى ثقافة تملي عليه كثيراً من شروط تحققه، وتمنحه ملامح انتمائه لثقافة يتبادل معها فعل التحقق. فالنص علامة على تحقق فعل الثقافة، كما أنه يُعد دالاً على قدرتها على إنتاج جمالياته الدالة عبر مجموعة من العلامات التي تعمل على تشكيل هويته، تلك الهوية الفاعلة في تحقيق وجود النص نفسه واستمرار فعله.
وتمثِّل الهوية النصية امتداداً لتحقق مجموعة من الهويات المتعاضدة:
– هوية النص الروائي بوصفه تعبيراً عن الهوية المكانية لثقافة ينتمي إليها.
– هوية الشخوص الروائية بوصفها تفكيكاً لهوية ثقافة الانتماء.
– هوية اللغة بوصفها تعبيراً عن كيان ثقافي له خصوصيته.
إنها مجموعة من الهويات المعتمدة بالأساس على الهوية المكانية، تلك التي تقف بوصفها حاضناً لكل ما يتحقَّق في فضاء النص. فلا هوية لأشخاص دون مرجعية مكانية، ولا هوية للغة دون مساحة مؤطرة بحدود جغرافية فاصلة وحاسمة تكون بمنزلة حدود حركة اللغة العابرة للحدود عبر الأشخاص الذين يتجاوزون حدود اللغة الجغرافية، حاملين الإشارة إلى الموطن الجغرافي للغة فور النطق بها. وهو ما يجعل من الهوية المكانية مجال تحقق للهويات جميعها في إطار النص الروائي.
تؤكِّد الرواية هويتها عبر مساحات الفن المتحقِّقة فيها، وتؤكد هوية شخوصها في محاولتهم الوقوف في مجابهة الزمن، وتراهن الرواية على تأكيد هذه الهوية عبر انتقالها إلى المتلقي الذي يجد نفسه متحركاً بين قطبين:
– ماضيه، الذي يعمل السارد على أن يعيده إليه.
– حاضره، بوصفه لحظته المعيشة. فالسارد حين يعيدنا إلى الماضي فإنه لا يعني بالمرة أن نرتكن إليه، أن ننتقل إليه مغادرين حاضرنا، وإنما هو يعني مساحة الوعي الممتدة بين الماضي والحاضر، تلك التي تفسح المجال لقراءة العالم بين نقطتين محدَّدتين تحققان نوعاً من حماية المتلقي من التيه في الزمن والتاريخ ومقولاته.
ثراء معجمه
يتشكَّل النسيج اللغوي للرواية من معجم يتسم بالثراء على مستوى أنظمة السرد والوصف والحوار، حيث ترتفع لغة السرد إلى لغة الحلم والأسطورة مقربة إياها إلى لغة الشعر. وتقل مساحة الحوار مفسحة المجال للتأمل الناتج عن الوصف والسرد (للحوار إيقاعه الذي لا يمنح متلقيه القدر الكافي من التأمل). غير أننا حين نتابع هذا النسيج، فنحن إزاء مجموعة متداخلة من الأنساق اللغوية التي تبرز مجموعة من الأصوات التي تفرض نفسها في السياق الكلي: صوت الحلم، صوت الأسطورة، صوت التاريخ، صوت المكان، صوت الشخصيات.. وتتشارك كلها لتنتج لغة اليقين السردي من حيث هو النص في كليته، بوصفه قادراً على تشكيل وعي متلقيه عبر هذا المزيج من اللغات المتعدِّدة القادرة على إدارة لغة النص، وطرح عالمه على المتلقي في مستوياته المختلفة.
ويراهن السارد على وعي المتلقي بعالمه، وعيه بثقافته، وعيه بما يجب عليه أن يدركه، وبما يجب أن يثق في قدرات ذاته لتغييره.
إنها رواية لا تقدّم كاتبها إلى ساحة السرد روائياً، وإنما تقدم للمتلقي نصاً يدفعه إلى تنمية وعيـه إدراكاً لعالم مكتنز بما يجب عليه إدراكه ليحيا حياة تليق به.
ليس أدل على مساحات القراءة والتأمل واستشراف الواقع من تجربة الكاتب الذي يقرأ أكثر مما يكتب. فقد كتب جبير المليحان أولى قصصه “تحقق حلم” (1969) (في ثاني متوسط) ونشرت في الملحق الأدبي بجريدة “اليوم” (1972). ومنذ تاريخ نشر القصة الأولى حتى صدور الرواية الأولى (2017)، تواترت أعمال المليحان القصصية على نحو يؤكد الانتصار للقراءة والتأمل بالمعنى المشار إليه، وعلى نحو يؤكد حيوية الحضور السردي في تجربته:
– الهدية (مجموعة قصص أطفال)- أرامكو السعودية – الدمام 2004.
– الوجه الذي من ماء ـ نادي حائل الأدبي، دار الانتشار العربي- بيروت 2008.
– قصص صغيرة- مطبوعات نادي الجوف الأدبي، دار المفردات- الرياض 2009.
– ( ج ي م )- دار أثر ـ الدمام 2012.
– رواية (أبناء الأدهم) دار جداول – بيروت – نوفمبر 2016.
ويؤكد المليحان حيوية تجربته المنفتحة على القصة العربية، إذ لا يمكننا فوت تأسيسه لموقع القصة العربية خلال هذه المساحة في مطلع الألفية الثالثة (2000 )، مدللاً على حسن قراءته للمشهد الحضاري وتصرفه وفق معطياته. فقد كان من الأهمية بمكان إدراك قيمة الفضاء الافتراضي للنشر والتواصل والتعريف بالمساحات غير المكتشفة في القصة العربية. وقد تطوَّر المشروع من بدايته حتى الآن على نحو يؤكد نجاح التجربة وتحولها إلى مؤسسة افتراضية.