مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2024

هل تموت القصة القصيرة؟

أجيالها ورصد لظواهرها في المملكة


أ‌. د. حسن حجاب الحازمي

مع مطلع الألفية، جرى في المملكة سباق محموم نحو فن الرواية، كانت مؤشراته قد ظهرت في التسعينيات من القرن العشرين، بتنامي حجم الإنتاج الروائي، ودخول عدد من كتاب القصة القصيرة إلى ميدان الرواية، مثل: عبده خال ويوسف المحيميد ورجاء عالم وأميمة الخميس وبدرية البشر، ودخول كتاب من خارج حقل القصة، مثل: غازي القصيبي وتركي الحمد. لكن القفزة الحقيقة لفن الرواية بدأت عام 2000م، وما زالت مستمرة. إذ زاد حجم المنتج الروائي حتى تجاوز ألفًا وخمسمائة رواية خلال هذه الفترة، بحسب الببليوجرافيا التي أعدها خـالد أحمد اليوسف (معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية: الرواية)، وهذا الرقم جعل بعض النقاد يسمونها بالطفرة الروائية. فتحوّل نظر الإعلام عن القصة القصيرة، ووجه بوصلته نحو الرواية. وبعد أن كانت القصة القصيرة خلال الثمانينيات والتسعينيات الميلادية في الواجهة تحتل صدر الملاحق الثقـافية في الصحف والمجلات، إبداعًا ودراسات نقدية، انزوت إعلاميًا في ركن صغير وحلّت الرواية وأخبارها والدراسات حولها، مكانها متربعة في الواجهة الإعلامية؛ وهو ما أدى إلى إطلاق مقولات عن انحسار فن القصة القصيرة في المملكة، وحتى عن موتها.
فهل فعلًا تراجع فن القصة القصيرة في المملكة؟ وهل فعلًا هذا النوع الأدبي في طريقة إلى الموت والاختفاء؟

تطور فني

بداية، إن غياب القصة القصيرة عن الواجهة الإعلامية في المملكة لا يعني غيابها عن الواقع الأدبي، فهي حاضرة بقوة ومستمرة بغزارة. وفي مقابل الأسماء التي توقفت عن كتابة القصة القصيرة أو تحولت إلى الرواية، ظهرت أسماء جديدة تفوق في عددها أولئك، واستمر عدد من الكتاب السابقين في مواصلة إنتاجهم، فزاد حجم المنتج من المجموعات القصصية بصورة موازية ومقاربة لحجم المنتج الروائي. واستمرت القصة القصيرة في تطورها الفني، سواء من خلال الكتّاب السابقين الذين طوروا أدواتهم الفنية، ورسّخوا تجربتهم بالاستمرار في الإنتاج والإصدار، أو من خلال الكتاب الجدد الذين استفادوا من تجارب الأجيال السابقة، ومن وسائل التواصل الحديثة التي وفرت لهم منافذ كثيرة على الإبداع العربي والعالمي، فقدموا تجارب ناضجة فنيًا، ومتطورة تقنيًا.

وعوَّضت القصة القصيرة غيابها الجزئي عن الصحافة وبعض المنابر الإعلامية بحضور أقوى على المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت، مثل: موقع “شبكة القصة العربية” الذي أسسه جبير المليحان عام 2000م، وموقع “نادي القصة السعودي” الذي أسسه خالد اليوسف عام 2012م، و “ملتقى القصة القصيرة الإلكتروني (التفاعلي)” الذي أسسه هاني الحجي عام 2015م، وتديره مريم الحسن، وغير ذلك من المواقع المهتمة بالقصة القصيرة. وشهدت هذه الفترة عدة ظواهر لافتة للنظر، منها: زيادة واضحة في عدد المجموعات القصصية الصادرة خلال هذه الفترة، وزيادة واضحة أيضًا في عدد الدراسات العلمية الأكاديمية، وعدد الكتب النقدية المخصصة للقصة القصيرة، وظهور عدد كبير من المجموعات القصصية المخصصة للقصة القصيرة جدًا، وجمع عدد من الكتّاب مجموعاتهم القصصية السابقة في مجلد واحد، وعودة بعض الكتّاب من مرحلة السبعينيات للظهور من جديد وإصدار مجموعات قصصية خلال هذه الفترة، وبروز ظاهرة المختارات القصصية التي يجمع فيها أحد الكتّاب المهتمين أو إحدى المؤسسات الثقافية الرسمية، مجموعة من القصص السعودية القصيرة لإصدارها في مجلّد واحد أو أكثر.

ويمكن بسط أهم الظواهر المتعلقة بالقصة القصيرة في المملكة بين عامي 2000م و2022م في النقاط الآتية:

أولًا: الزيادة الكمية الواضحة في حجم الإنتاج القصصي

تجاوز عدد المجموعات القصصية الصادرة خلال هذه الفترة 1000 مجموعة قصصية، بحسب إحصاءات خالد اليوسف السنوية، وهو عدد كبير جدًا مقارنة بالمراحل السابقة. فما بين عامي 1970م و1980م صدرت 25 مجموعة قصصية، وما بين عامي 1980م و1990م صدرت 107 مجموعات قصصية، وما بين عامي 1990م و2000م صدرت أكثر من 250 مجموعة قصصية.

وهذا العدد الكبير خلال هذه الفترة من 2000م إلى 2022م، الذي تجاوز ألف مجموعة قصصية، مؤشر واضح على رسوخ تجربة القصة القصيرة في تربة الإبداع في المملكة، وعلى حرص عدد من الأسماء الكبيرة على الاستمرار في الإنتاج والإصدار تأكيدًا لأصالة تجربتهم وعمقها ومنهم: محمد علوان ومحمد المنصور الشقحاء ومحمد علي قدس وخالد اليوسف وجبير المليحان وعبده خال، وعبدالعزيز الصقعبي وشريفة الشملان… وأيضًا حرص عدد كبير من الأسماء الجديدة التي ظهرت خلال هذه الفترة على إثبات وجودها، وتأكيد حضورها من خلال إصدارات تجاوزت العمل الواحد إلى أكثر من عمل.

وهو مؤشر قوي أيضًا على أن القصة القصيرة في المملكة لم تتراجع، بل تقدمت كثيرًا، وكبُرَ حجم إنتاجها وعدد كتّابها. فصدور أكثر من ألف مجموعة قصصية خلال عشرين سنة يضاعف أكثر من مرتين مجموع ما صدر من مجموعات قصصية خلال السنوات السبعين الماضية، ويؤكد تنامي تجربة القصة القصيرة واستمراريتها وتطورها.


ثانيًا: التطور الفني

يصعب الحكم على مقدار التطور الفني الحاصل على هذا الكم الكبير من الإنتاج. ولكن عددًا من الدراسات النقدية التي تناولت القصة القصيرة خلال هذه الفترة، تشير إلى هذا التطور الفني والتكنيكي في آليات الكتابة وتؤكده، ومنها: دراسة مها سعيد الأسمري (آليات التجريب في القصة السعودية المعاصرة، من 1420هـ إلى 1430هـ).


ثالثًا: ازدياد الدراسات النقدية حول القصة القصيرة

بلغ عدد الدراسات العلمية الأكاديمية 48 دراسة، بحسب ما سجله عبدالله الحيدري في كتابه (دليل الرسائل الجامعية في الأدب والنقد في المملكة العربية السعودية). في حين لم تتجاوز الدراسات العلمية حول القصة القصيرة ست رسائل قبل عام 2000م.

أمَّا الكتب النقدية، فقد رصد خالد اليوسف أكثر من 100 كتاب نقدي حول القصة القصيرة في المملكة من عام 2000م إلى 2020م. وهذا مؤشر قوي على زيادة الاهتمام بالقصة القصيرة خلال الألفية الثالثة.


رابعًا: تعدد الأجيال في الساحة الواحدة

شهدت الفترة الحالية تآزر الأجيال وتضافرها وحضورها في ساحة الإنتاج جنبًا إلى جنب.

 فمن جيل السبعينيات نجد محمد المنصور الشقحاء ومحمد علي قدس ومحمد علوان وجبير المليحان وحسين علي حسين وجار الله الحميد وخليل الفزيع وفهد الخليوي، وغيرهم ممّن واصلوا إنتاجهم وأصدروا مجموعات قصصية خلال هذه الفترة.

ومن جيل الثمانينيات والتسعينيات نجد عددًا كبيرًا من كتاب القصة القصيرة الذين واصلوا إنتاجهم وإصداراتهم خلال هذه الفترة، ومنهم: عبدالعزيز الصقبعي، وخالد اليوسف، وعبدالحفيظ الشمري، وخالد خضري، ويوسف المحيميد، وعبدالله الناصر،وعبدالله باخشوين، ومحمود تراوري، وفهد العتيق، وعمرو العامري، وحسن حجاب الحازمي، وبهية بوسبيت، وشريفة الشملان، وناصر الجاسم، وفهد المصبح، وعبدالله التعزي، وظافر الجبيري، وعبدالرحمن الدرعان، وبدرية البشر، وعواض العصيمي، ومحمد علي الشيخ، وعبدالله محمد حسين، وأميمة الخميس، وحكيمة الحربي، وفوزية العيوني، وعائشة الحكمي، وزكية نجم، وأحمد إبراهيم ويوسف، وخالد العوض، ومحمد منصور مدخلي، ووفاء الطيب، وعبدالله باقازي، وفالح الصغير، وغيرهم.

وظهرت إلى جوار هؤلاء وأولئك أسماء جديدة وكثيرة يصعب حصرها، ممن بدؤوا في إصدار مجموعاتهم القصصية مع مطلع الألفية الثالثة (يشير خالد اليوسف إلى أنه رصد أكثر من 400 اسم جديد من كتّاب القصة القصيرة خلال الألفية الثالثة). من هذا العدد الكبير يمكننا أن نذكر: إبراهيم مضواح الألمعي، وإبراهيم النملة، وأحمد وإبراهيم القاضي، وطاهر الزهراني، وحسن البطران، ومحمد الراشدي، ومحمد المزيني، ومحمد ربيع الغامدي، وهاني الحجي، ومشعل العبدلي، وعيسى مشعوف الألمعي، وعلي فايع الألمعي، والبراق الحازمي، وشيخة الحربي، ونورة الأحمري، ووفاء العمير، ونوف الحزامي، وجمانة علي، وغيرهم.


خامسًا: ظهور المجموعات القصصية الخاصة بالقصة القصيرة جدًا

يرصد خالد اليوسف 73 مجموعة قصصية صدرت خلال هذه الفترة، علمًا بأنه قبل عام 2000م لم تصدر إلا مجموعة قصصية واحدة مختصة بالقصة القصيرة جدًا، وهي مجموعة “فراغات” للقاص عبدالعزيز الصقعبي الذي كتب على غلافها “قصص قصيرة جدًا”، مع أن تجربة القصة القصيرة جدًا في المملكة بدأت في وقت مبكر. إذ إن جبير المليحان نشر في عام 1976م في ملحق المربد بصحيفة “اليوم” 11 نصًا قصيرًا تحت عنوان: “الطفل يريده: اللون الأبيض”، وهي تدخل في باب القصة القصيرة جدًا. وقد بدأت منذ مطلع الألفية الثالثة بالاستقلال، وظهرت المجموعات المخصصة للقصة القصيرة جدًا غير مختلطة بغيرها. وبرزت أسماء جديدة اختصت بهذا الفن وأخلصت له، ومنها: حسن البطران الذي أصدر ست مجموعات قصصية، وشيمة الشمري التي أصدرت أربع مجموعات قصصية، إضافة إلى عدد من الكتّاب والكاتبات الذين صدرت لهم مجموعتان مخصصتان للقصة القصيرة جدًا وحدها، ومنهم: جبير المليحان ومفرج المجفل ومريم الحسن ومحمد المزيني.

ختامًا، ومن خلال هذا العدد الكبير من الأسماء والإصدارات والحراك يتأكد لنا رسوخ تجربة القصة القصيرة في المملكة ونضجها وتطورها، ومشاركة كل الأجيال في بنائها حتى أصبحت بهذا الحجم وبهذا الحضور. فالقصة القصيرة السعودية لم تتراجع ولم تختفِ، بل هي حاضرة ومزدهرة ومتطورة، وغيابها أو تغييبها إعلاميًا لا يعني اختفاءها أو غيابها عن الواقع الأدبي.


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


0 تعليقات على “هل تموت القصة القصيرة؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *