مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2019

نشكّلُ مدنِنا ومن ثَمَّ تُشكِّلنا


مهى قمر الدين

عندما كان رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، ينظر في سبل إصلاح مبنى مجلس العموم الذي دمَّرته القنابل عام 1943م، قال: “إننا نقوم بتشكيل مبانينا، وبعد ذلك تقوم هي بتشكيلنا”. وبعد مرور أكثر من 70 عاماً على مقولته هذه، سيكون من دواعي سروره، بلا شك، أن يعرف أن علماء الأعصاب وعلماء النفس وجدوا كثيراً من الأدلة التي تدعم صحة ما قاله آنذاك.

ثَمَّة أدلة كثيرة اليوم تؤكد أنه يمكن للمباني والمساحات الحضرية أن تؤثِّر على مزاجنا ورفاهنا وحتى على صحتنا، وأن خلايا الدماغ في منطقة الحصين في أدمغتنا تتأثَّر بهندسة وترتيب المساحات التي نعيش فيها. لكن المهندسين المعماريين في المناطق الحضرية قلَّما يولون اهتماماً للآثار المعرفية المحتملة لإبداعاتهم على سكان المدينة. إذ يبقى دافعهم الأساسي هو تصميم ما هو عملي، ويأخذ بعين الاعتبار أموراً مختلفة، ونادراً ما يهتمون بتأثير المباني على سلوكيات من يعيشون في محيطها.
قبل وجود المباني، كانت العناصر المختلفة الموجودة في المواطن الطبيعية التي يختارها البشر تؤثر عليهم وتشكلهم بطريقة أو بأخرى. إذ كان أسلافنا البدائيون يختارون الموائل التي تؤمِّن مسلتزماتهم للبقاء، وتؤمِّن أيضاً كل ما يستطيعون أن يزدهروا ويتطوروا من خلاله. ووفقاً لعالم الجيولوجيا جاي أبليتون: “لطالما كان البشر يحكمون على جمال الأماكن الطبيعية استناداً إلى ظروفها المؤاتية لبقائهم أم لا، ومن ثم تم توسيع هذه الفكرة نفسها لتشمل المساحات المبنية، حيث باتت تفضيلات الأشخاص المعاصرين تشمل أيضاً قدرة تلك الأمكنة على منحهم المتعة والرفاه”. ومع ذلك، لم تكن يوماً العلاقة مع البيئات الخارجية والتصميمات المعمارية علاقة أحادية، بل لطالما كانت متبادلة، إذ إن تفاعل البشر مع عناصرها وتطورهم وازدهارهم من خلالها يسهم أيضاً في تشكيلهم على المستويات الفسيولوجية والنفسية والصحية.

أكدت النتائج أن الأشخاص يفضلون المساحات المعمارية التي تجمع بين التوازن والغموض، وبين التناسق والتعقيد. وقد عزا الباحثون ذلك إلى التعقيد المنظّم لأدمغة البشر وأجسامهم، حيث إن العمليات العصبية البشرية تُظهر خصائص الهندسة الكسورية وكذلك بيولوجيا الخلايا في مختلف أنحاء الجسم.

العِمارة المتعلقة بعلم الأعصاب
وقياس تفاعلات البشر مع البيئات المبنية

يوجد اليوم فرع جديد من فروع المعرفة معروف باسم “العِمارة المتعلقة بعلم الأعصاب” أو (neuroarchitecture)، ويهدف إلى توفير إطار عمل تجريبي لإيجاد بيئات مبنية يمكنها تحسين سلوك وصحة ورفاه البشر، حيث يتقاطع فيه علم الأعصاب وعلم النفس وفن العِمارة. وقد ساعد هذا المجال المعرفي الجديد، من خلال عديد من الدراسات النفسية، على جمع البيانات التي تقيس تأثير البيئات المبنية على فسيولوجية البشر الذين يعيشون في محيطها، وذلك من خلال قياس معدَّل ضربات القلب، وكذلك بيانات نشاط الدماغ، باستخدام مخطط كهربائية الدماغ (EEG)، والتصوير بواسطة الرنين المغناطيسي الوظيفي، وبات بالإمكان تكوين صورة أوضح وأشمل وأدق لاستجابة الإنسان للبيئات المبنية. ويقول كولن إلارد، الأستاذ في علم النفس التجريبي في جامعة واترلو في كندا، الذي ركَّز أبحاثه على دراسة التأثير النفسي للتصاميم المعمارية إن: “من شأن ذلك (القدرة على قياس التفاعلات البشرية مع البيئات المبنية) أن تضيف طبقة مهمة من المعلومات كان من الصعب الحصول عليها من قبل”.
ومن خلال دراسة معمَّقة لتلك البيانات، وجد إلارد أن الناس يتأثرون بشدة بواجهات الأبنية من حولهم. فإذا كانت الواجهة معقَّدة ومزخرفة ومثيرة للاهتمام فهي تؤثر في الأشخاص بطريقة إيجابية، وعكس ذلك إذا كانت بسيطة ومملة. فعلى سبيل المثال، عندما درس إلارد تفاعلات مجموعة من الأشخاص يسيرون في حي من أحياء مانهاتن في مدينة نيويورك حيث كانت هناك واجهات متتالية من الأبنية المماثلة والرتيبة، أظهر هؤلاء الأشخاص تراجعاً في حالاتهم المزاجية وانخفض لديهم مستوى الإثارة، وذلك وفقاً لقراءات أجهزة إلكترونية وضعها إلارد على معصم كل واحد منهم، وكذلك حسب استطلاعات الرأي التي أجراها عليهم على الفور. وعندما كان هؤلاء في ذلك الموقع زادوا من سرعة مشيهم، وكأنهم أرادوا الخروج من تلك المنطقة بأسرع وقت، ولكن حدث بعد ذلك أن ازدادت حيويتهم وأصبحوا ودودين بشكل أكبر عندما وصلوا إلى منطقة مليئة بالمطاعم والمتاجر المضيئة والمنسقة بطريقة جميلة.

الجمع بين التوازن والغموض
وبين التناسق والتعقيد

مع كل ما ذُكر، أكدت النتائج أن الأشخاص يفضلون المساحات المعمارية التي تجمع بين التوازن والغموض، وبين التناسق والتعقيد. وقد عزا الباحثون ذلك إلى التعقيد المنظم لأدمغة البشر وأجسامهم، حيث إن العمليات العصبية البشرية تُظهر خصائص الهندسة الكسورية وكذلك بيولوجيا الخلايا في مختلف أنحاء الجسم، مما يدفع البشر إلى تفضيل ما يتماشى مع تركيبتهم البيولوجية. وعلى الرغم أنه من السهل التنقل في المخططات المدنية المنظمة مثل شبكات الشوارع العريضة في مدن مختلفة، إلا أن الأشخاص يفضلون الشوارع المتعرجة التي تغيب عن نظرهم في نقاط محدَّدة مما يؤدي بهم إلى تلميح محيِّر لما وراء ذلك. باختصار، يحب البشر البيئات التي تثير فضولهم ولكنها تشبعه أيضاً. كما أنه من الأفضل أن تكون المساحات المعمارية المحيطة “مقروءة”، بشكل يسهّل مسحها وتشكيل خريطة معرفية لها ورسم تقدير ذهني لحدود مسافاتها.  

لطالما كان البشر يحكمون على جَمَال الأماكن الطبيعية استناداً إلى ما إذا كانت ظروفها مؤاتية لبقائهم أم لا، ومن ثم تم توسيع هذه الفكرة نفسها لتشمل المساحات المبنية، حيث باتت تفضيلات الأشخاص المعاصرين تشمل أيضاً قدرة تلك الأمكنة على منحهم المتعة والرفاه.

العلب الإسمنتية الخانقة
في الماضي، تطوَّرت المباني بطريقة أكثر عضوية، وذلك باستخدام مواد طبيعية مثل الخشب والحجر والطين، ونمت الأماكن ببطء واتبعت الطرق محيط الأرض. كما كانت التصاميم المعمارية لعصورٍ طويلة مستوحاة من الطبيعة نفسها ومن النباتات والحيوانات. وقد أكد عديد من الدراسات النفسية انجذاب الناس إلى تكوينات الطبيعة، وعلى قدرة المساحات الخضراء والمياه على خفض التوتر والإجهاد لدى البشر. ولكن الآن، طغت المنشآت الإسمنتية الحديثة على كل مدن العالم في مقابل غياب العناصر الطبيعية، لا سيما في المدن العربية المكتظة، حيث بات معظم الناس يعيشون في علب إسمنتية مغلقة في أبنية متلاصقة في كثير من الأحيان. وكانت النتيجة أن الناس أصبحوا يتعرضون إلى الإجهاد النفسي والعصبـي نتيجـة الازدحـام الذي بات من أبرز المشكلات التي تواجهها المدن العربية اليوم.

وفي دراسة نشرت في مجلة “ساينتفك أمريكان” (Scientific American) بعنوان: “الكثافة السكانية والأمراض الاجتماعية” أجراها الباحث جون كالهون حول تأثير الـكـثـافـة السكانية على السلوك البشري في الفضاءات الحضرية، جاء أنه عندما تـزداد أعـداد السكان ويضطر الناس إلى العيش بعضهم قرب بعض متزاحمين، فإنهم يعيشون في ما يسميه “زمن التوتر”، إذ يشعرون بنوع من التهديد الوجودي المترافق مع الإرهاق والتوتر المتنامي، إلى جانب بروز مظاهر الفوضى والانحرافات السلوكية المصاحبة لها.
ولا شك في أنه مع سرعة الحياة في القرن الواحد والعشرين، فشل عديد من المساحات اليومية في دعم الرفاه وتعزيز القدرة على الإبداع الذي غالباً ما يكون في المدن التي تحافظ على مقوماتها الثقافية، لا سيما على امتدادها التاريخي الذي يعزِّز فرادتها ويبرز إرثها الحضاري. ونجد أن هذه الأمور غابت عن عديد من المدن العربية الحديثة، حيث كان لعديد من المدن العربية في القرون الوسطى مثل بغداد وفاس والقاهرة والقيروان وغيرها، طابع عمراني وهوية عمرانية تعكس فلسفة الـوجـود والإنـسـان ورؤيـتـه لقيم الجمال والآخـر والخـالق، كما كان هناك تنظيم مركب لقطاعات التجارة والصناعة والزراعة وغيرها، وكان كل ذلك في انسجام تام مع مناخ الجغرفيا العربية الذي كان ملهماً لكثير من الإبداعات. في تلك المدن، كان المسجد الجامع يقع في قلب المدينة، ولم يكن يرمز إلى العبادة والنسك فقط، ولكنه كان أيضاً يرمز إلى مركزية سلطة العلم والمعرفة في قلب المدينة، ومن ثم كانت تتوزع حوله المدينة وتنتشر في تنظيم متناغم ذي نظام داخلي مضمر ينتهي باسوار تشكِّل درع المدينة وحصنها في وجه الغزاة. أما اليوم، فقد بات في كثير من المدن العربية تخطيط لا يؤشر إلى أية هوية محدَّدة.

التحدي الظاهر في الخضرة ومسارات الرغبة
ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، غالباً ما يقوم الأشخاص بابتكار أشياء تفرض تغييرات ولو صغيرة على محيطهم المبني، مثل أحواض الأزهار التي نجدها تطل علينا من على شرفات الأبنية في محاولة من سكانها لإيجاد مساحات خضراء تساعدهم على إضفاء بعض الجمال والراحة على محيطهم، وكأنهم يؤكدون مع الكاتب تشارلز مونتغومري في كتابه “المدينة السعيدة” على أن تلك المساحات الخضراء هي: “جزء أساسي من الموئل البشري الصحي”. وهناك تحدٍّ آخر يفرضه سكان المدن وهو “مسارات الرغبة”، التي تعرف أيضاً بـ”المسارات الاجتماعية”، وهي مسارات تصنعها، مع مرور الوقت، رغبات وأقدام المشاة في المساحات الحضرية في تعارض واضح مع التصميم القائم. فهي طرق يتبعها سكان المدن بإرادتهم الحرَّة حول الأبنيــة ووسـط المساحات العامة لاختصار المسافات وفي الأماكن التي لا توجد فيها أرصفة وكأنها طريقـة لسكان المدينة لإرسال رسائل إلى مخططي المدينة مع ملاحظات حرة يسجلونها بأقدامهم. وقد لا تخلو مدينة من مدن العالم من مسارات الرغبة هذه، حتى إنه يمكن أن تكون راسخة جداً، بحيث تكون مرئية على خرائط غوغل.
وبسب كل ذلك، لا يجب أن يكون تصميم المدن باعتبارها مجالاً حياتياً للاجتماع الإنساني أمراً مرتجلاً أو عشوائياً ولكنه عمل يحتاج، كما يقول المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي: “لدراسة مستقبل الأيام… لأننا مع بناء المدن نبني الطبائع، نبني الشخصية، ونبني الأخلاق”. أو كما قال ونستون تشرشل لأن المدن ستقوم بدورها هي بتشكيلنا. 


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


3 تعليقات على “نشكل مدننا ومن ثم تشكلنا”

  • مقال رائع وثريد من المعلومات القيمه حول مفهوم العمارة العصبيه والتي يجب ان يدركها كل مهندس ومصمم في هذا المجال

  • المقال جدا جميل ووجوب على الدول الخاصه العربيه العمل على تزيين المساحات حتى القصيره بالخضره ولو كان اصطناعيا فهو يعكس شخصيا على الفرد بشكل واضح ايجابيا ويصبح منظر بهيج


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *