ما بين الإنسان والخبر علاقة وطيدة غير قابلة للفكاك، وسيظل التأثير المتبادل بينهما موضوعاً دائماً للنقاش والبحث والتطوّر. وبعدما كانت ميادين الأخبار وتبادلها تتركَّز منذ القِدم في اللقاءات الشخصية، والصحافة التقليدية، ظهرت ميادين جديدة من وسائل اتصال حادت بالخبر بعيداً عما كان عليه. فالتعقيد الذي بدأت تتسم به الحياة جعل من الخبر أكبر من مَتنٍ، أو نَصٍّ ينتمي إلى الأشكال التحريرية للصحافة. بدأ الخبر يتحوّل إلى شيء أوسع، أداة لا تنتمي إلى السرديات فقط لنحصره في المتون والنصوص، ولا تنتمي فقط إلى الصورة كعلامة متضخّمة في القرن الحادي والعشرين، أصبح خطاباً يشمل كل الأشكال التعبيرية. خطاب يتجاوز الممارسة المهنية الصانعة للخبر إلى الممارسة الاجتماعية المكوِّنة لكل فعل اجتماعي.
أسئلة قديمة وإجابات متجدِّدة
تعرّف النظرة الكلاسيكية الخبر دائماً كطارح للأسئلة الستة ومجيب عليها، أو على الأقل، مجيب على بعضها، وهي: (ماذا، مَنْ، متى، أين، كيف، لماذا). إلَّا أن الخبر لا يعبّر فقط عن الوقائع التي تحدث في الواقـع، لكنه يعبّر أيضــاً عنّـا، وعن منتجيــه وموزعيه ومستهلكيه.
لم يُعد الخبر أداة للاستفهام فقط، بل صار أداة تشكيل أيضاً. وليس كأداة تشكيل لوعينا بما يدور حولنا كل يوم، ولكنه أصبح يسهم أيضاً في تشكيل ممارستنا الاجتماعية. ولهذا نتبعه بسؤال آخر يُضاف إلى الأسئلة الستة التقليدية، وهو (هل) الذي يستخدم دائماً لا لمجرد المعرفة، ولكن لتأكيد المعرفة وحسم التردُّد.
وإن كانت طبيعة الخبر تقتضي احتواءه على الأسئلة الستة، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل السؤال (هل) الذي يحوز أهمية كبرى عند المؤسسات المُنتجة للأخبار؛ لأنه السؤال الذي يسبق البدء في العملية الإنتاجية للأخبار، فهو الذي يمهّد لولادة الخبر أو موته قبل أن يخرج إلى العلن. ومثلما تداوم المؤسسات الإعلامية على التساؤل بـ(هل) لتقديم خدمة محترمة لمستهلكي أخبارها، فإن المستهلكين أنفسهم أصبحوا في حاجة ماسة لطرح السؤال نفسه على المؤسسات الإعلامية المنتجة للأخبار.
هل هذا الخبر صحيح أم لا؟ هل يعبّر عن واقع حقيقي أم عن واقع افتراضي كما في مقولات جان بودريار التي اختبر بها زيف الخطابات الخبرية لبعض الحروب، حين افتـرض أنها لم تقع على النحو الواقعي إلا في وسائل الإعلام التي عرضتها كلعبة تلفزيونية.
هل يغيّرنا الخبر إلى الأحسن أو إلى الأسوأ؟ هل يفيدنا؟ هل يجعلنا أكثر فائدة لغيرنا؟ هل…؟! (هل) تُستخدم للنفي ولطلب التصديق وللتمنّي، وكلها استعمالات تليق بجودة الخبر لا سيما مع سهولة انتشار الأخبار الزائفة.
في مؤسسات الممارسة الصحفية نستخدم (هل) كثيراً قبل كتابة أي خبر، أثناءه، وبعده. مثلما يظل يستخدمها قارئ الخبر مع أي وسيلة إعلامية تستعرض له معروضها الخبري الجدير بمتابعته. لكن، مع التطور الشكلي والتأثيري للخبر، ستتَّسع مساحات (هل) أو من المرجو أن تتَّسع لتشمل الأفراد الذين أصبحوا يشاركون في الإنتاج الجماعي للأخبار. فالتفكير الطويل بـ(هل) دفع قديماً للسطح بنظرية ترتيب الأولويات التي تتساءل دائماً إن كان خبر ما جديراً بالاهتمام على حساب خبر آخر.
التفكير الجديد بـ(هل) يدعو إلى تبني نظرية في تحليل الخطاب الخبري، يكون قوامها مساءلة الخطابات الخبرية عن بنياتها البلاغية، إن كانت تدفع المجتمع نحو التقدم أم تجره إلى التقهقر، وإن كانت خطاباتها الخبرية تنم عن احترام هويات المتلقين وإنسانيتهم وتحقيق شروط عدالتهم وعدالة قضاياهم أم لا؟! ولهذا، فإن الأجدى لفائدة الخبر كشكل تواصلي، والأنفع لنا كمتعاملين مع الخبر بشكل يومي، أن نستمــر في طرح السؤال: كيف تعبّر عنا الأخبار، وكيف تعيد تشكيلنا قبل تشكيل حياتنا؟
تأثير خبري أم تقني؟
ستضطّرنا التطوّرات التي طالت علاقتنا بالتقنية والتسارع الناتج عنها، إلى معرفة التأثير الخبري على تفكيرنا المعاصـر. كيـف كنـا نفكّر وكيف أصبحنا نفكّر. وكيف سيكون تفكيرنا لو واصلنا السير على الدرب نفسه.
لم يعد الخبر مرآة للواقع، ولا فقط مرآة للاقتصاد السياسي الذي تستند إليه وسائل الإعلام لأن تطور وسائل الإعلام بفضل تقنيات الاتصال الحديثة وسّع من سلطات المتلقين، فجعلهم يدخلون في منافسة مع وسائل الإعلام ومع اقتصادها السياسي الذي تعتمد عليه.
يصبح الخبر مع وسائل التواصل الاجتماعي نصاً مفتوحاً، بمعنى أن أي قارئ خبر ما بإمكانه أن يتحوَّل إلى كاتب خبر. الوضع هنا لا يشبه التشارك في إنتاج واستهلاك النص الأدبي، لكن التشارك هو في مسؤولية التأكد من الخبر. فالخبر في مواقع التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر” و”واتساب” يعد في كثير من الأحيان لقيطاً لا وليداً. قد تتعدَّد المصادر عند الإنتاج الجماعي للأخبار، وهذا أمرٌ جيّد للتعبير عن وجهات النظر للحقائق، ولكن ما فائدة المصادر المتعدِّدة حين يتعذّر اختبار صدقيتها؟!
التحوّل في استهلاك الأخبار نحو المشاركة في إنتاجها لا يقلِّل فقط من ربحية وسائل الإعلام أو جاذبيتها وجماهيريتها، لكنه يؤثر أيضاً على الحياة التي كان يعيشها قارئ الخبر من قبل
التحوّل في استهلاك الأخبار نحو المشاركة في إنتاجها لا يقلِّل فقط من ربحية وسائل الإعلام أو جاذبيتها وجماهيريتها، لكنه يؤثر أيضاً على الحياة التي كان يعيشها قارئ الخبر من قبل. التحوّل من التلقّي إلى الإنتاج لن يترك الشعور بالمتعة والإنجاز الشخصي يتواصل بسلامة، من دون الشعور بـ”المتاعب” التي ظلت تلاحق الصحافة. فالتعجّل في إنتاج أخبار لا يتيح التأكّد التام من مصادرها ولا من صدقيتها؛ وإن كان نشره يحقق رغبة إنسانية شخصية، فإن آثاره لا تعود بالضرر فقط على الغير، لكنها ستؤثر على منتجه أيضاً ولو بعد حين، لأن التوسع في النشر المتعجّل الذي أصبح سمة للمشاركة الجماعية في إنتاج الأخبار سوف يغري أشخاصاً آخرين بممارسة الدور نفسه، لتتواصل عجلة الأخبار غير المؤكدة، وتتوسع دائرة إنتاجها، مثلما تتوسع دائرة تأثيرها السالب على بقية المجتمع.
لا ريب في أن وسائل الاتصال الحديثة، وخصوصاً وسائط التواصل الاجتماعي التي ظهرت بعدها، زادت من نسبة التعرّض للتداول الإخباري اليومي لدى المتعاملين بها. لم تَعُد الأخبار تعرض نفسها عند الطلب، وإنما تتوالى في كل حين. وهذا ما يجعل المتعرّض لها باستمرار مرتبطاً بشكلها ومحتواها، وبشكل آخر بطريقة تفكيرها. وحين ننشغل بالأخبار العاجلة فإننا في الحقيقة لا نستمع لآخر الأخبار، لكننا ننصت إلى اختيارات الآخرين من هذه الأخبار.
مغبّات التفكير الخبري
تميل صناعة الأخبار في وسائط التواصل الاجتماعي إلى تداول شكل خبري متحرّر من أي أطر ممارسة أو قواعد مهنية. ويبدو أن انتشار هذا الشكل الخبري في طريقه إلى إنتاج نوع من التفكير المرتبط به. تفكير خبري، يمكن نسبته إلى الأخبار لانشغاله بها وانشغاله بالسرعة التي يتطلّبها الخبر، لكنه يفتقر إلى المهنية التي تجعل منه تفكيراً إيجابياً داعماً للحقائق وللتعبير عنها.
من مظاهر التفكير الخبري ومغبّاته أيضاً: التركيز الدائم على الحالة الراهنة، الأخبار السيئة والمادية، السبق والمنافسة، الشهرة، المتعة، والتعويض. إن فرط التعرّض للأخبار العاجلة يخلق مستوى مساوياً للأحداث المتسارعة يتمثّل في الاهتمام المتزايد بالعاجل، حيث تذهب الأولوية إلى الحدث الوقتي، بغض النظر عن مدى أهميته لأن يكون حدثاً جديراً بالإخبار ومن ثَم جديراً بالاهتمام.
وبازدياد التعرّض للأخبار العاجلة تزداد حساسية العقل تجاه العاجل. ولو أن البعض يتراءى له من الوهلة الأولى أن التفكير الذي يتجه نحو الاهتمام بالعاجل يتجاوب مع تزايد الأهمية المعلَّقة على الوقت، إلاَّ أن هذا الظن الحسن يصطدم بأكبر مغبّات التفكير الخبري المتمثّل في الاهتمام الحصري بما يصلح فقط لأن يكون خبراً، حين يصبح التعجّل مطلباً مُلحاً ومعبّراً عن تفاعل غريزة الخوف مع الإحساس بدفع الخطر، حيث لا يزال الخبر السيئ دوماً هو الخبر الجيد.
نلحظ مغبة ذلك التفكير الخبري في اتجاه البعض مثلاً لتصوير الضحايا والمنكوبين في الكوارث الشخصية أو العامة، بدلاً من التفكير السريع بمساعدتهم. إنه تفكير يقرر أن واجب الوقت هو في نقل خبر المنكوب إلى الآخرين لا مساعدته في نكبته. تفكير يُبقي الضحايا طويلاً في الذاكرة بدلاً من أن يعيشوا سالمين في الحاضر.
مجانية الشك وغلاء المصداقية
من مغبّات التفكير الخبري: التعرّض بصورة أكبر لخطورة الاجتزاء. فلكل خبر محدودية في الوقت والحيّز، تضطر صانعه إلى اجتزائه من واقعه، واجتزائه لتقديمه للآخرين. قد يكون المهووس خبرياً من غير المحترفين أقل عمقاً، نظراً لمحفّز الاجتزاء الذي صار يتعرّض له باستمرار لنقل الوقائع، فالخبر لا ينقل الوقائع كما هي في الواقع، فلا مفر من تمثيلها وتأطيرها. كل هذا يغيّب العمق عن المهووس بالخبر، ويدفعه إلى مجانبة التفكير التحليلي المعتمد على التأنّي والعمق والشمول. إدمان الأخبار لغير طالبها وإدمان الإخبار لغير المتخصص فيها لن يعجّل بتعطيل ملكة التفكير التحليلي والناقد لديهم فحسب، بل يقود إلى تسطيح عام في مجال الوصول إلى الوعي والمعارف والحقائق.
تميل صناعة الأخبار في وسائط التواصل الاجتماعي إلى تداول شكل خبري متحرّر من أي أطر ممارسة أو قواعد مهنة. ويبدو أن انتشار هذا الشكل الخبري في طريقه لإنتاج نوع من التفكير المرتبط به
تُربّي عقلية التفكير الخبري على التعجّل مرتبطاً مع عوامل أخرى محفّزة، لعل أهمها وأكثرها تأثيراً هو قلة تكلفة الخبر في الوسائط الحديثة خصوصاً الإنترنت. وقد تصل التكلفة إلى حدود صفرية فيصبح الخبر مجانياً، ومغرياً لاستهلاكه أكثر من غيره.
مع تطور وانتشار الإنترنت، يصبح الاطّلاع على الخبر مجانياً، لكنه يكلف ثمناً غالياً في تحري الدقة والموثوقية. ولربما قاد هذا إلى منحى جيد مستقبلاً، فإما أن يتطور المواطنون الصحفيون ليقتربوا من الصحفيين المحترفين، أو أن الطريق سيقودنا إلى حياة أكثر قلقاً وشكاً في المصادر والمحتويات والاتجاهات. وربما يولّد كل ذلك حرصاً على الصدقية التي تظل مطلباً مهماً ولو استدعى الحصول عليها إنفاق الغالي من الأموال والثمين من الأوقات، لأن متابعة أخبار مزيَّفة سوف تزيد من هول الزيف الذي يشعر به كثيرون تجاه حياتهم أو حيوات غيرهم.
قد يساعدنا التفكير الخبري على الاهتمام بالأولويات بافتراض قراءة الخبر كشكل من أشكال الوعي بالمهم العاجل، إلا أن ذلك يتطلّب مساءلة دائمة لأجندة الأخبار وارتباطها بمصالحنا، وما إن كانت تعبّر عن أولوياتنا أم عن أولويات غيرنا.
اترك تعليقاً