مقام المسجد في الأرض، أيَّ أرض، وغايته تصبو إلى السماء، كلَّ السماء. ويختزل مظهر المسجد صورة الإسلام في عين غير المسلم. إنه مكان العبادة المميّز، لكن قد يبدو غريباً حتى على المسلم، رؤية مبنىً حُوِّلَ إلى مسجد، في حين أنه لم يكن سابقاً غير مخزن أو مصنع، كما تُستغرب رؤيةُ الهلال معلقاً على برج مبنى لا يشبه المآذن عادةً، إلا بسعي المصلين إليه لإقامة الصلاة أيام الجمع والأعياد.
فنتيجة تأثر المساجد ومعمارها بالبيئات التي بُنيت فيها، ظهرت بتصاميم مختلفة، محافظةً على جوهرها، إذ إن تصميم المساجد في أقاصي آسيا يختلف عنه في أقاصي المغرب، كما أن مظهر مساجد إسطنبول ليس هو نفسه الذي يبدو عليه مسجدٌ في دمشق أو قرطبة.
إنها الحقيقة التي بدأت تتشكَّل نتيجة لعوامل عدة، ليس في الغرب فحسب، بل في كافة أرجاء الأرض وعبر التاريخ، حيث يوجد المسلمون وتوجد معهم المساجد التي أثّر معمارها في مختلف البيئات التي وصل إليها الإسلام أو هاجر إليها مسلمون وأقاموا فيها، لا سيما في أيام قوة الدولة الإسلامية.
فقد تأثر تصميم بعض المباني بمعمار المسجد من الخارج حتى بدا شيء من الشبه بينهما. كما تطوَّر معمار المساجد نتيجة لعوامل مختلفة، فاقتبس من البيئة ومن المعمار الأوروبي القديم والحديث الكثير، وأصبح بعضها يشبه المباني الأوروبية، ثم أخذت هذه المساجد بتصاميمها الحديثة رحلة عودتها إلى الأصل.
ثمة من يرى أن الأمر لا علاقة له بالجغرافيا، في عالم طوى الحدود بين الشرق والغرب. فالتطوُّر التاريخي المنطقي، أدى بالمعماريين في الغرب ونظرائهم الشرقيين، إلى ابتكار تصميمات جديدة، مستغلين التقنيات الحديثة وإمكاناتها الهائلة، مما سهّل البناء بجميع أبعاده قبل أن يتحوَّل مسجداً ذا معمار فريد.
المساجد في أصقاع الأرض
لم يَعُد انتشار المساجد مقتصراً على بلاد المسلمين، وليس من قبيل المبالغة القول إنه تكاد لا تخلو دولة ولا مدينة في العالم من مسجد. ولا يقتصر الأمر على المصليات والزوايا الصغيرة المنزوية، بل يتعلَّق الأمر بمساجد تقع وسط المدن الرئيسة، ولها مآذن وقباب ضخمة، تجتذب مئات المصلين.
ومن هنا ظهرت فكرة تطوير الشكل التقليدي للمساجد، ليتمازج مع المعمار الأوروبي والغربي، فيصبح أكثر تواؤماً والمجتمعَ المحيط، وأقدر على التماهي مع مختلف فئاته، ليسهم ذلك باختفاء الملصقات المعادية للمساجد ويتلاشى معها الخوف من (أسلمة الغرب) ويلجم (الإسلاموفوبيا).
فمن البديهيّ أن تظهر مطالبة بانسجام كل بناءٍ مع مكان وزمان إنشائـــه، ومراعـاة الأبعــاد الاجتماعيــة والسياسية والثقافية، وفوق كل ذلك بالتأكيـــد أن يستوفــي الشروط القانونيـة التي تتعلق بأنظمة البناء.
من محاسن الإسلام مرونته، إذ لم يفرض شروطاً خاصةً أو تصميماً محدداً لبناء المساجد، بقدر ما وضع ضوابط عامة تحدِّد هويتها الجوهرية أهمها الطهارة واتجاه القبلة
لكنَّ أصواتاً في أكثر من مدينة أوروبية وغربية تعالت مطالبةً بعدم تقليد مساجد دمشق الأموية، أو قرطبة الأندلسية، أو القاهرة الفاطمية، أو إسطنبول العثمانية، ورفض البناء على منوالها في عاصمة غربية في القرن الحادي والعشرين، لأن تصاميم المساجد في تلك البقاع بناتُ بيئتها، وستعدّ جسماً غريباً عن السكان الأصليين إذا نُقلت كما هي دون تعديل، كما سيترسخ على الجانب الآخر لدى المسلمين شعورٌ بأن هذه المدن أصبحت بديلاً عن وطنهم الأصلي، وأنهم حين يدخلون هذه المساجد ينفصلون عن المجتمع الغربي، مما يكرِّس لديهم التقوقع على الذات والشعور بعدم الانتماء إليه.
مرونة الإسلام في بناء المساجد
من محاسن الإسلام مرونته، إذ لم يفرض شروطاً خاصةً أو تصميماً محدداً لبناء المساجد، بقدر ما وضع ضوابط عامة تحدِّد هويتها الجوهرية أهمها الطهارة واتجاه القبلة. وقد بقي المسلمون المهاجرون إلى الغرب لعقود طويلة راضين وقانعين بالصلاة في الأقبية، وفي المباني التي كانت مخازن أو مصانع مهجورة، معتقدين أن بقاءهم في بلاد الغرب مؤقت، ولم يحسبوا أن عودتهم ستطول، إلى أن وجدوا أنفسهم أمام حقيقة لا بدّ من الاعتراف بها، مفادها أن هذا الوطن المؤقت تحوَّل إلى وطن بديل ودائم، وأنهم سيعيشون وأولادهم وأحفادهم في هذه البلاد. لذلك، قرَّروا أن تصبح لهم مساجد في الأماكن اللائقة ببيوت الله، وأن ترتفع المآذن في أوطانهم الجديدة التي يتمتعون فيها بكل حقوق المواطنة وواجباتها، الأمر الذي استاء منه غربيون اعتادوا وجود المسلمين على هامش المجتمع. وهذا ما أدى وعوامل أخرى إلى تطور أسلوب العيش وأنماط السلوك لدى المسلمين، من البيت إلى الحياة العامة، ومنها المسجد في سبيل الاندماج في المجتمع الجديد.
تأثيرات الشرق على حياة الغرب اليومية
ترسَّخت قديماً لدى بعض الغربيين مشاعر كراهية الإسلام والمسلمين، لأسباب قومية أكثر منها دينية، كما كان الحال أثناء الحصار العثماني الأول لفيينا في القرن السادس عشر الميلادي.
ولكن برزت ظاهرة أخرى مناقضة تماماً لظاهرة الكراهية، حتى قبل أن تنتهي هذه المواجهات المسلحة، في جولتها السادسة بين الجيوش الأوروبية والعثمانيين بين (1737 – 1739م)، ألا وهي الولع بالشرق ونمط حياته. واقترن هذا الإعجاب بتقليد العادات الشرقية ومنها حُب تناول القهوة، فتأسست المقاهي ومنها مقهى (شجرة القهوة العربية) عام 1730م في مدينة لايبزغ، الذي ما زال قائماً حتى اليوم، ويحمل فوق بوابته مجسماً لشجرة البُنّ (القهوة) وللرجل الشرقي الذي يحبها، في ممارسة تشبه إلى حدٍّ بعيد غزو المقاهي الأمريكية للعالم في العقود الأخيرة.
لقد ارتسمت صورة خيالية نابعة من عالم ألف ليلة وليلة للمسلمين وللشرق عموماً، واقترنت بالموسيقى الشرقية، وتدخين التبغ وغير ذلك.. لكن المثير للدهشة أن المسجد أصبح يمثل بالنسبة لكثير من الأوروبيين طرازاً معمارياً ساحراً، بعيداً عن أي دلالات دينية. ولذلك، فإن السير وليام شامبرز، على سبيل المثال، أنشأ مبنى على شكل مسجد داخل الحدائق النباتية الملكية في كيو، جنوب غرب لندن عام 1762م، لكنه لم يُخصَّص للصلاة، بل لإثراء الحدائق بمبان من ثقافات عديدة. فهناك إلى جانب المسجد معبدٌ يوناني، وآثار رومانية، ومبنى على طراز قصر الحمراء الأندلسي.
ثم أقيم في الفتـرة من عام 1779 إلى 1795م مبنى آخر في حديقة قصر شفتسينجن، بهدف إظهار التسامح بين الأديان والثقافات. وقد حرص المهندس المعماري على دمج المعمار الغربي لمرحلة الباروك في قبة المبنى، مع المعمار الإسلامي في المئذنة والهلال فوقها.
مصانع على هيئة مساجد!
قد يكون مقبولاً أن تقام مبانٍ على شكل مسجد في حديقة ملكية، إظهاراً للتنوع الثقافي، لكن الخيال الأوروبي جنح بعض الشيء حين أقيم مبنى ثالثٌ على شكل مسجد في مدينة بوتسدام عام 1842م، لإخفاء ماكينة تعمل بالبخار، ولتستخدم المئذنة كمدخنة، ولم يكن يستخدم للصلاة على أي حال.
ومن المؤكد أن بناء مصنع لإنتاج التبغ على شكل مسجد، يجسِّد الانبهار بمعمار المسجد، وإن كان ينم عن جهل بدلالته الدينية، وهو ما حدث في مدينة دريسدن عام 1907م، وحملت ماركة السجائر المنتجة هناك، اسم (سالم)، في إشارة إلى تحية الإسلام (السلام عليكم)، في خلط واضح للثقافيّ بالدينيّ، وبين خيالات الغربيين عن الشرق، وبين الواقع.
انقلاب الانبهار خوفاً!
مقابل الولع بالعمارة الإسلامية، نجد في الآونة الأخيرة، خوفاً عند بعض الأوروبيين من كل ما يمكن أن يكون له علاقة بهذا الطراز. وقد ظهر هذا الخوف جلياً عندما قرّر بعض الفنانين تجديد الأشكال المستخدمة داخل الزجاج المعشق في الكنائس الكاثوليكية بالذات، واختاروا نقوشاً بلا صور أشخاص، فإذا بعاصفة استنكار قوية تتهمهم بالمؤامرة لإدخال الطراز الإسلامي إلى الكنائس.
مساجد أوروبية حديثة..
هل تشبه المساجد؟
صدرت في السنوات الأخيرة كتبٌ تشيد بالثورة المعمارية التي قادها معماريون مسلمون من تركيا والبوسنة وآخرون غير مسلمين من دول أوروبية، وقبلهم جميعاً المعمارية العراقية الأصل زها حديد، لأنهم استطاعوا “التخلص من أسر الماضي” –حسب ما ورد في هذه الكتب-، وابتكروا طرزاً معمارية تتناسب مع روح الألفية الثالثة، ومع المحيط الأوروبي، ليرتاد هذه المساجد الجيل الثالث أو الرابع من أبناء المهاجرين، الذين يعتزون بهويتهم الأوروبية بقدر اعتزازهم بالهوية الإسلامية.
ويرى مؤلفو هذه الكتب أن المساجد القائمة في المدن الأوروبية، ليست ملكاً للمسلمين وحدهم، بل هي مبانٍ ذات طابع عام، تسهم في صياغة هوية المكان، لذلك يجب أن تراعي رغباتهم، لكي يشعروا بأنها تعبِّر عنهم أيضاً، وتمثِّل لبنة من مكونات المجتمع الأوروبي الحديث.
الطريف في الأمر أن كثيراً من المسلمين المقيمين في الغرب يتركون هؤلاء المعماريين يطلقون العنان لخيالاتهم، لكنهم في النهاية يفضِّلون العمارة التقليدية، كما حصل مع مسجد ستراسبورغ الذي لم يستفد من تصميم زها حديد، ونفذ مشروعٌ صممه المعماري الإيطالي باولو بورتيجيزي، مصمم مسجد روما، ويحتوي المسجد على قبة، يرى البعض أنها مستوحاة من مصلى قبة الصخرة التابع للمسجد الأقصى، مما يوضِّح أن التصميمات التي يهيم بها النُقَّاد الأوروبيون، ليست بالضرورة مطمح غالبية المسلمين.
ومن التصميمات التي يرون أنها استطاعت تحقيق التمازج والمعاصرة، تصميم مسجد سانكاكلار، الذي بناه إمري أرولات في 2012م، وحصد جوائز عديدة. ورأت رنا بشير في مقالها في موقع رصيف 22 أن (هذا النهج هو ما يحتاج إليه العصر الحالي؛ لغة معمارية يمكن أن يألفها الجيل الجديد، ومحاولة لإعادة تشكيل العلاقة بين المسلمين ومساحات الصلاة)، وتتفق بذلك مع ما يطالب به نُقَّاد غربيون من تجديد.
أما أجمل مساجد أوروبا، فهو مسجد مدينة رييكا الكرواتية، الذي افتتح عام 2013م، ويضم دار حضانة ومدرسة ابتدائية ومكتبة وعيـادة طبية، ويبلغ ارتفاع مئذنته 23 متراً، علما أنه ثالث مسجد في كرواتيــا، بعد مسجــد العاصمة زغرب، ومدينة جونيا الشرقيــة، لكن معماريين مسلمين ينتقدونــه بشدة، ويرون أنه تقليــد أعمى لمعماريين غربيين، سبق أن فكروا بتقسيم القبة لدوافع أيديولوجية.
وفي برشتينا عاصمة كوسوفو التي تضم مساجد عثمانية، أجريت مسابقة لبناء مسجد على الطراز المعماري الحديث. ومرة أخرى، قرَّر المعماريون اختيار تصميمات مختلفة تماماً عما اعتاد عليه المسلمون، فتخلوا مثلاً عن المئذنة والقبة، مما جعل البعض يتساءل: هل سيشعر من يراه من الخارج أنه في طريقه إلى مسجد أم أنه يبدو مثل أي مبنى إداري؟
مقارنة مع دور العبادة في ديانات أخرى
تشير مصادر غربية تناولت بناء المسجد على النمط الأوروبي، إلى أن المسيحيـة مثلاً تنظر إلى الكنيسـة باعتبارها مكانـاً يتمتع بالقداسة وعلى تصميمها أن يخضع للكثير من الاعتبارات والشروط، أما الإسلام فلا يقدّس تصميم المسجد، ولذلك فإنه يتمتع بمرونة كبيرة، تتيح تدخل مسلمين وغير مسلمين في معماره. ولا يخفي البعضُ الاعترافَ بأن الهدف في النهاية أن يكون معمار المسجد انعكاساً لفهم جديد للدين الإسلامي نفسه، بحيث يصبح إسلاماً أوروبيــاً، لا يتعــارض مع دساتيره، ويستوعب مفاهيم الديموقراطية والليبرالية.
ومرَّ اليهود بتجربة مشابهة للمسلمين في بناء معابدهم، التي حرصوا في البداية على ربطها بمنبع ديانتهم، فأنشأوها على النمط الشرقي من قبابٍ وأعمدة تشبه مآذن المساجد، كما يظهر في معابد برلين وبودابست.
وفي هذا الإطار، قدَّم المعماري الشهير سالمون كورن، دراسة قيمة بعنوان “بين الخوف والتخويف – العمارة الإسلامية رؤية متكاملة”، وقد نشر موقع (قنطرة) ترجمتها باللغة العربية.
يقول كورن إن معارضة الغربيين بناءَ المساجد تتغذى من قلقٍ ثقافي وديني، ولذلك تسعى جهاتٌ في النمسا مثلاً إلى استصدار قوانين تحرس شخصية المكان المعمارية بهدف منع بناء المساجد. وفي إيطاليا تجري الاستفتاءات الشعبية قبل إعطاء تصاريح بنائها، وإذا لم تتوفَّر حجج موضوعية، يلجأون إلى لوائح البناء، ليجدوا فيها مبرَّراً للرفض. وينسب كورن إلى كلاوديوس كارفياس القول إن عمارة فيينا تستلهم كثيراً من كنوز الشرق، فكنيسة كارل المبنية عام 1683م تبدو كمسجد تركي، لكن البناء جاء بعد الانتصار على القوات التركية، حينما لم يعد المسلمون يشكِّلون تهديداً للمدينة.
وقد أراد اليهود في الماضي أن يردوا على الانتقادات بأنهم انسلخوا عن أصولهم، فبنوا معابدهم على الطراز الشرقي، ولكن بعض الأوروبيين استنكروا وجود مبانٍ غريبة عليهم في مدنهم. فقرَّر اليهود مطلع القرن العشرين ترك الطراز الشرقي، وأخذوا يبنون معابدهم على النمط الغربي، حتى يؤكدوا اندماجهم في أوطانهم الجديدة. لكن ذلك لم يشفع لهم، وتعرَّضوا للتنكيل على يد الحكم النازي. ويوضِّح كورن، هنا، أنَّ خوف الأوروبيين نابع من شعورهم بأن الإسلام يظهر بصورة الواثق من نفسه، الفخور بهويته الدينية، أمام تفكك الغرب. وإذا كان الأمر قد انتهى باليهود إلى الذوبان في المجتمع الغربي، فهل سيقبل المسلمون التخلي عن التصميم التقليدي للمساجد؟ أم سيفرضون شروطهم، لإثراء المجتمع الغربي بقيم ومبادئ الإسلام، وبمساجده التي تظل محافظة على جوهر هويتها؟ هذا ما ستكشفه السنوات والعقود المقبلة.
اترك تعليقاً