في شهر أكتوبر من العام الماضي، خطف وباء الكورونا الفنان المغربي محمد المليحي عن عمر ناهز أربعاً وثمانين سنة، حفلت ستون منها بالعطاء المتواصل والانغماس في مختلف أوجه الحياة الثقافية في المغرب. ورغم كثرة أسفاره، وتعدُّد مواطن إبداعه، بقي لمدينة أصيلة مكانتها الخاصة في نفس المليحي. ومن بصماته عليها تَحوّل هذه المدينة إلى مركز استقطاب بفعل مهرجانها الثقافي الشهير.
ولد محمد المليحي عام 1936م في أصيلة، التي كانت آنذاك مدينة صيد هادئة تحت إدارة الجنرال فرانكو. ومع ذلك، كان يتعايش فيها حوالي عشرة آلاف شخص من السكان الأصليين من مختلف الديانات، إضافة إلى حامية عسكرية تتكوَّن من حوالي ستة آلاف جندي إسباني. وفي هذه المدينة الساحرة الصغيرة ذات التاريخ العريق، كانت عائلة المليحي قد استقرت قبل ثلاثة قرون.
توفيت الأم عندما كان محمد فتى لا يتجاوز عمره ثلاث عشرة سنة. وتشاء الصدف أن يكون صديق طفولته محمد بن عيسى الذي أصبح لاحقاً وزيراً للثقافة ومؤسساً لمهرجان أصيلة. وبينما كان الأب بعيداً منشغلاً بتجارته، كان محمد بعد خروجه من المدرسة القرآنية، يذرع أزقة أصيلة المفتوحة على البحر والمحاصرة بواسطته. يتأمل تلك الأمواج التي ستحضر بقوة في لوحاته وتصبح ملمحاً مميزاً لفنه التشكيلي. كان الطفل ينظر برهبة إلى دوائرها، واختراقاتها وارتطامها بالصخور واصطدامها بأسوار المدينة. وكان هذا المشهد الطبيعي أول مخاض بصري في تجربته الفنية.
استحوذ عليه شغف كسر قيد الأسرة في يوم من الأيام، كما فعل جده ووالده مع أسلافه. لكن الأب أدرك بفطنة التاجر جموح، ابنه فسارع إلى إلحاقه بمدرسة داخلية في فاس. إلا أن محمداً توقف في منتصف دراسته الثانوية. إذ رأى أنها مقارنة بحلمه مضيعة للوقت.
وبحجة الالتحاق بثانوية جيدة، سافر إلى تطوان ليتسجل في المدرسة التحضيرية للفنون الجميلة. وفي السنوات التي تلت الاستقلال، حصل على منحة دراسية لمواصلة الدراسة في مدرسة الفنون الجميلة في إشبيلية.
إشبيلية، مدريد، روما، نيويورك..
بعد إشبيلية انتقل إلى مدريد، وهناك صقل إتقانه لفنون الجرافيك والرسم والتصوير والنحت والنقش. لكن التأثير الأعمق، جاء من رحلة إلى روما عام 1957م، حيث تعلَّم النحت وفن الزن الياباني، ونسج علاقات قوية مع نخبة من المثقفين والفنانين الإيطاليين. واحتفظ الرسام المغربي الشاب بدهشتين فنيتين مؤثرتين من هذه السنوات الرومانية: أول معرض أوروبي كبير للفنان الأمريكي جاكسون بولوك، وآخر بعنوان مئة عام من فن الزن.
في عام 1962م، انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أتاح له دعم من “مؤسسة روكفلر” دراسة الفن الحديث والتصوير الفوتوغرافي في جامعة كولومبيا، وتكريس نفسه بالكامل للوحاته. وهناك ظهر ميله الواضح إلى فن التجريد المستوحى من أعمال الفنان الأمريكي جاكسون بولوك، كما ظهرت الألوان الجريئة والهندسة الدقيقة على شكل مربعات صغيرة وفقاً لفن التحكم الآلي المكتسب في إيطاليا، وموضوع الموجة الدالة على على الإيقاع الموسيقي والحركة، والإثارة والماء والهدوء. ولم يفارق هذا المفهوم الفني الذي يحمله معه من مدينته أصيلة أبداً، بل ظل يعُده عنصراً أساسياً في تكوين هويته الفنية. وبعد أن عمل لبعض الوقت أستاذاً مساعداً في “مدرسة مينيابوليس للفنون” قرَّر العودة إلى المغرب.
النهوض بأصيلة
عاد المليحي إلى المغرب عام 1964م، حيث عمل أولاً مدرّساً في المدرسة التحضيرية للفنون الجميلة بالدار البيضاء. وبموازاة التدريس الأكاديمي، راح المليحي يعمل على تطوير منهج تعليمي حديث قائم على دراسة التراث المغربي والممارسات الفنية الجديدة: الكولاج والرسم التجريدي والتصوير الفوتوغرافي.. إلخ. وفي عام 1969م، شكَّل فريقاً من الفنانين وأقام أول معرض في باحة جامع الفنا بمراكش. وهنا ظهرت نزعته الدفينة إلى إخراج الفن التشكيلي من ردهات وأروقة المعارض إلى الساحات وأزقة المدن.
لم ينعزل المليحي يوماً في مرسمه. بل حرص على خوض غمار أي نشاط ثقافي يستحق الاهتمام. فبين عامي 1971 و1977م، أسَّس وأخرج مع الشاعر مصطفى النيسابوري والكاتب الطاهر بن جلون أول إصدار ذي طبيعة فنية وثقافية في المغرب المستقل. كان الثلاثة من الناجين من تجربة مجلة “أنفَاس” القصيرة والدرامية. وبموازاة مع ذلك، أنشأ الفنان دار نشر فنية سمَّاها “شوف”، أثمرت مجموعة من الإصدارات بالأبيض والأسود حول مدينة أصيلة القديمة، مصحوبة بقصائد للطاهر بن جلون. وكذلك أول دراسة مكرَّسة عن الرسَّام المغربي الكبير أحمد الشرقاوي.
في النصف الثاني من السبعينيات، بلغ نشاط المليحي ذروته. فشارك في تنظيم أحداث فنية وثقافية، وقيادة بعض المعارك، مثل معركة الحياة الكريمة للفنانين. وبفضله أُدخل فن التصوير الفوتوغرافي في مناهج تعليم الفنون التشكيلية، وأسهم في تأسيس الجمعية المغربية للفنون التشكيلية، غير أن منجزه الأكبر في هذه المشاركات، كان في تأسيس “موسم أصيلة” بالتعاون مع صديقه محمد بن عيسى.
بدأ هذا الموسم كإطار ثقافي مبني على مفهوم “التعاون جنوب – جنوب”. ثم تعاقبت الفعاليات وتنوعت البرامج: حفلة موسيقية لميريام ماكيبا، ولقاءات مع رئيس السنغال ليوبولد سيدار سنغور وصلاح ستيتيه أو أدونيس وكثيرين غيرهم. وتمكَّن المليحي من إقناع أقرانه المغاربة باستثمار أسوار المدينة لتحقيق منجزات فنية يمكنها أن تكون لوحات أو منحوتات ضخمة. وفي مارس 1978م، استدعى أحد عشر فناناً لرسم لوحات جدارية على حيطان المدينة. كانت التجربة خصبة ومبهجة، وراحت تتكرَّر لاحقاً مع كل دورة من دورات “موسم أصيلة الثقافي”. وتمكَّن من الحصول على تمويل دولي لإنشاء مرسم كبير كان النواة الأولى لورشة لتجارب فنية تعليمية لصالح أبناء أصيلة. وهكذا تحوَّلت المدينة الصغيرة إلى منتجع ساحلي أنيق يتمتع بشخصية فنية قوية. وفي عام 1985م، عندما عُين محمد بن عيسى وزيراً للثقافة وأسس قسم الفنون، أوكل إدارته إلى المليحي. ونفّذ الإثنان كثيراً من المشروعات الثقافية والفنية المهمة والمؤثرة. وحول هذه التجربة الثرية قال المليحي: “منذ سبعينيات القرن الماضي، جمعت أنا ومحمد ابن عيسى موادنا المختلفة وخبراتنا المشتركة في المغرب والولايات المتحدة لإنشاء أنشطة ثقافية وفنية يمكن أن يكون لها تأثير اجتماعي وثقافي. وهكذا ولد مهرجان أصيلة الثقافي عام 1977م. هذا المهرجان الذي تحوَّل تدريجياً من نشاط ثقافي محلي إلى مهرجان عالمي منفتح على الثقافة الإنسانية والفنون العالمية”.
اترك تعليقاً