مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

مجاز اليد في الشعر


عزت القمحاوي

لأنها أداة الفعل، صارت اليد في المجاز عنوانًا لكل أفعال الخير والشر؛ “يد الله فوق أيديكم” بمعنى التأييد والعون الإلهي. و”الأيادي البيضاء” كناية عن أيادي العطاء والجود، وفي هذا تكون اليد العليا خير من السفلى. وتشير “اليد العليا” كذلك إلى مجاز القوة والسيطرة، والأفضل أن نقول “اليد الطولى” لمنع الالتباس مع يد القوة والتفوق في أمر من الأمور. ونستخدم تعبير “الضرب بيد من حديد” مجازًا للحزم، واليد الخفية في تحريك شر أو جريمة، وفي “متناول اليد” للإشارة إلى شيء ممكن ونستطيع أن نحصل عليه.


وفي الشعر العربي تتجسَّد كل هذه المجازات. ففي معلقته، يمتدح أمير شعراء الجاهلية امرؤ القيس العطاء والأصابع اللينة الجميلة والكريمة بقوله:

وتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنَّهُ      أساريعُ ظبْيٍ أوْ مساويكُ إسْحِلِ

فاليد في هذا البيت تعطي، وهي رخصة لينة غير خشنة، ودقيقة كأنها دود منطقة ظبي، أو كأعواد الإسحل التي تُصنع منها المساويك. قد يأبى بعضنا تصوير الأصابع بالدود، ولا بدَّ أنه جميل على عهدة الفارس الضليل.

وللهوى يدٌ، عند أبي فراس الحمداني، في صورة أعجبت أم كلثوم فتغنت بها:

إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى        وَأَذلَلتُ دَمعًا مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ

ولم تخلّد يد العطاء في الشعر كما خُلّدت يد سيف الدولة ممدوحة، ويد كافور الإخشيدي مذمومة في مدونة أكبر شعراء العربية: المتنبي. إذ تظهر يد سيف الدولة عند المتنبي ممسكة بالسيف، أو بالدراهم التي يعم على الشاعر فضلها:

لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا    وَعادَةُ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنُ في العِدا

ويختتم المتنبي قصيدته بصراحة غريبة، معترفًا بأن حب سيف الدولة مستقر في قلبه بسبب ذلك العطاء الذي يغمره:

تَرَكتُ السُرى خَلفي لِمَن قَلَّ مالُهُ    وَأَنعَلتُ أَفراسي بِنُعماكَ عَسجَدًا

وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً      وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيدًا تَقَيَّدا

وعلى العكس من ذلك، نراه يهجو كافور الإخشيدي في قصيدته الهجائية “عيد بأية حال عدت يا عيد”، ويذكِّره بأنه لم يجد لديه جود اليد أو حتى جود اللسان، ويقول إن النفس غير الكريمة نتنة من قبل الموت، حتى إن نتنها يعلق بيده عند قبض روحها:

جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ     مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ

ما يَقبِضُ المَوتُ نَفسًا مِن نُفوسِهِمُ     إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ

وفي الشعر المعاصر

تتواصل مسيرة اليد الممدوحة والمذمومة في الشعر العربي إلى اليوم وغدٍ. في مؤتمر الموسيقى الأول بالقاهرة عام 1933م، ألقى أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة مدح فيها الملك فؤاد الأول، الذي كان قد افتتح نادي الموسيقى الشرقي قبل ذلك (في عام 1929م) ومطلعها:

خَطَّت يَداكَ الرَوضَةَ الغَنّاءَ      وَفَرَغتَ مِن صَرحِ الفُنونِ بِناءَ

ونرى الخيال ماديًا محسوسًا في لمسة اليد عند نزار قباني:

يدك التي حطت على كتفي

كحمامة.. نزلت لكي تشرب

عندي تســاوي ألف مملكة

يا ليتهـــــــا تبقى ولا تذهب

ولليد التي تجذب قوس الموسيقى نصيبها من المديح. ففي قصيدته “ربابة”، يُفصِّل الأمير بدر بن عبدالمحسن اليد تفصيلًا دقيقًا:

يا جاذب القوس..

قطعت كل العروق.. إلا وتر

وكل الجبال.. إلا الحجر

وكل الطعوس.. إلا الأثر..

وجرحتني.. جرح الربابة

يا فتى الجود..

وبين السبابة.. والإبهام

احبس القلب ثم أطلقه

صوتٍ أحسه وأعشقه

وكثّف محمود درويش لحظة اقترابه من الموت في “جدارية”، التي ارتفع بها شعره إلى آفاق عليا من الترميز لمعاني الوجود والشفافية التي جعلت السماء قريبة:

هذا هو اسمك

قالتِ امرأة

وغابتْ في الممرِ اللولبي

أرى السماء هناك في متناولِ الأيدي


في الأمثال

هناك عشرات من الأمثال الشعبية العربية التي تتعلق باليد في لهجاتنا المختلفة، وتـكشف ليس فقط عن أهمية هذا العضو في الجسم، بل يمكن من خلالها قراءة شكل المجتمع في معتقداته وطرقه في الاحتيال على العيش والسلامة، منها على سبيل المثال:

“اليد اللي ما تقدر تعضها بوسها” ، لتلافي مواجهة خصم غير مقدور عليه.

 “الإيد البطالة (العاطلة) نجسة، لنبذ البطالة والحث على العمل.

 “زي اللي بيقلع عينه بإيده” ، للدلالة على من يجلب الأذى لنفسه. وهو يذكرنا بالمثل العربي الفصيح: “يداك أوكتا وفوك نفخ”.

عصفور في اليد أحسن من عشرة على الشجرة ، للخوف من المغامرة، ووجوب القناعة بما هو متوفر.

إيد على إيد رحمة، للتعاون.

يد من فضة ويد من ذهب، لوصف الشخص المنتج بشكل جيد.

من بيده ماء ليس كمن بيده نار؛ أي لا يشعر بالمصيبة أو المشكلة إلا صاحبها.

اليد الواحدة لا تصفق، لوجوب التعاون مع آخرين في إنجاز عملٍ ما.


مقالات ذات صلة

اليد هي الأداة التنفيذية لكل ما يصنعه الإنسان. بها نأكل ونشرب ونلعب، ونزرع ونصنع، ونصافح ونحارب ونكتب، ونرسم ونبني ونهدم.

لأن اليد أول ما يراه الآخرون منا بعد الوجه، كانت محل تجميل منذ قديم الزمان، سواء أكان بالحلي أم بالخضاب وحسن تشذيب الأظفار وتقليمها.

نشأت صناعة القفازات مبكرًا جدًا من الوعي بوجوب حماية اليدين من المؤثرات الخارجية، ولجأ الإنسان إلى استخدامها لأسباب مختلفة.


0 تعليقات على “مجاز اليد في الشعر”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *