في عددها الصادر في شهر شعبان 1410هـ الموافق فبراير/مارس 1990م تناولت القافلة موضوع الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المستقبلية وأفق تطوُّره في مقال من أربع صفحات بقلم الأستاذ تيسير صبحي رئيس رابطة الفيزيائين الأردنيين. واللافت في هذا المقال هو ما يتكشَّف عنه من اهتمام القافلة منذ ذلك الوقت المبكِّر باستقراء تداعيات الذكاء الاصطناعي على اللغة العربية من فوائد وتحديات. وهنا بعض ما جاء فيه:
عندما تقرأ عنوان هذا المقال قد تسأل نفسك: ما هو الذكاء الاصطناعي؟ في ضوء ما تشير إليه أدبيات الموضوع نستطيع القول إن الذكاء الاصطناعي يتبدَّى في محاولة كتابة برامج وإعدادها، بحيث تهدف إلى اكتساب الحاسوب سلوكاً يماثل أو يناظر السلوك البشري؛ بمعنى أن يقوم بأنشطة ذهنية ويعمل على تسيير “الربوطيات” التي تقوم بأنشطة جسدية تشبه إلى حد بعيد أنشطة الإنسان.
وتذكر دائماً أن الحاسوب لا يمتلك ذكاءً، ولكنه يكتسب الذكاء الاصطناعي من خلال ثلاثة عناصر وظيفية رئيسة، هي: القدرة على التحليل، والقدرة على التأليف، والاستدلال المنطقي.
وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحله الأولى، فإن العلماء يتوقَّعون أن يشهد العقد المقبل جيلاً جديداً من الأجهزة والأدوات القائمة على أساس الذكاء الاصطناعي، ومن بينها: آلات الترجمة الفورية، والآلات الناطقة، وآلات القراءة المحوسبة، وآلات الكتابة والتخزين التي تعمل بالإملاء والتوجيهات اللفظية. بالإضافة إلى جملة من آلات التلخيص والفهرسة وإعادة الصياغة. كما يجب ألا ننسى في هذا الصدد “الروبوطيات” الذكية التي تعمل في المراكز النووية والمناجم والمحطات الفضائية والمستشفيات والمصانع، وغير ذلك من مجالات.
ويحمل الجيل الخامس من الحواسيب الذكية تباشير كثيرة للدول النامية والدول المتخلفة على حدٍّ سواء، وإننا نلاحظ أنه ينطوي على تحدٍّ كبير للدول العربية وبخاصة فيما يتعلَّق باستيعاب الأبعاد اللغوية. ويفرض علينا هذا التحدي أن نركِّز جهودنا وندفعها بزخم أكبر نحو بحوث ومشروعات الذكاء الاصطناعي حتى نستطيع مواكبة التطوُّر والتقدُّم في هذا المجال، وإلّا فإن عدم مواجهتنا لهذا التحدي سيساعد في استمرارية تخطِّي ركب العلم والتقنية لأمتنا العربية.
والسؤال الثاني الذي قد يطرح نفسه هو: ما هي المؤشرات على تقدُّم الذكاء الاصطناعي وتطوُّره؟
برز المؤشر الأول عندما تم الانتقال في عالَم الحواسيب من المعالجة المتلاحقة إلى المعالجة المتوازية؛ ففي الأجيال الأولى للحواسيب كان مستخدِم الحاسوب يقوم بإدخال مدخلات من نمط واحد معيّن، ويجري إدخالها بواسطة أجهزة ووسائط إدخال إلى وحدة المعالجة المركزية “سي بي يو”، وهناك تجري معالجة المدخلات بالكيفية المطلوبة وتكون النتيجة مخرجات تخرج إلى مستخدم الحاسوب من خلال وسائط الإخراج المختلفة (شاشة الحاسوب، آلة، قرص مرن، شريط ممغنط…) وتلاحظ أيها القارئ أن هذه العملية تمَّت بصورة متتابعة لنوع واحد من المدخلات. أما في الذكاء الاصطناعي فإن عملية المعالجة تتم بصورة متوازية؛ حيث يتم إدخال مجموعة مدخلات – قد يكون بينها نوع من الترابط والصلة وقد لا يكون – إلى وحدة المعالجة المركزية المتوازية أو المركبة التي تحتوي على عناصر الذاكرة، وتقوم هذه الوحدة بعمليات التأليف والاستبدال المنطقي والتحليل للوصول إلى مخرجات قد يكون بينها نوع من الترابط أو تكون بمثابة اختيارات وبدائل.
أما المؤشر الثاني فهو يبرز في مرحلة الانتقال من خلال العناوين، إلى البحث من خلال المضمون؛ بمعنى أن الذكاء الاصطناعي مكننا من التوصل إلى عملية محاكاة لملكة الإنسان الذهنية في البحث.
ولا يفوتنا في هذا الصدد أن نذكر أن انتقال الحاسوب من مرحلة معالجة القاطع والمحدَّد وفق خوارزمية محدَّدة إلى مرحلة معالجة ما يسمى بالاحتمالي والحدسي من المدخلات. فعندما نتعامل مع الحاسوب نقوم بتلقيمه مدخلات محددة يعمل الحاسوب على معالجتها وفق خوارزمية محدَّدة، وبنتيجة المعالجة نحصل على مخرجات محدَّدة. وإذا نظرت إلى هذه الآلية بعمق وأناة تجد أنها تختلف اختلافاً جوهرياً عن آلية معالجة المشكلات في الدماغ البشري. من هنا نجد أن البحوث والدراسات المتصلة بالذكاء الاصطناعي تسعى إلى محاكاة بعض وظائف الدماغ البشري، وبصورة خاصة ما يتعلَّق منها بأساليب وطرائق حل المشكلات، إضافة إلى عمليات الإدراك والاستدلال والتحليل والاستنتاج. وفي ضوء ما تقدَّم نجد أن عملية محاكاة الدماغ عملية صعبة ومعقَّدة.
وبفضل هذه البحوث والتجارب انتقل العالم المتقدِّم من مرحلة الاستناد إلى قواعد البيانات المرجعية في المعالجة الحسابية إلى النظم الخبيرة التي تتجسَّد فيها حكمة بني البشر ومعارفهم وخبراتهم وطرائقهم في مواجهة المشكلات وطرح الحلول والبدائل. وقد يكون الانتقال من لغات البرمجة الصناعية إلى لغات البرمجة الطبيعية عاملاً مساعداً في تطوير النظم الخبيرة وتوسيع آفاقها. كما يتوقَّع العلماء والمتخصِّصون أن تزداد فاعلية النظم الخبيرة بفضل الانتقال إلى وسائط التخزين الممغنطة إلى وسائط التخزين الضوئية.
الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة
نلاحظ مما تقدَّم أن الذكاء الاصطناعي ينطوي على إمكانات كثيرة، ويمتاز بعدَّة ميزات، وتُعدُّ المعالجة المركزية المتوازية مهمة من مهمات الذكاء الاصطناعي، كما أنها ضرورة ومهمة للقيام بالمعالجة الآلية للغة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المعالجة المركزية الآلية المتوازية تحتاج إلى طاقة حسابية هائلة لتنفيذها في وقت قصير نسبياً.
وإذا أردنا استخدام الحاسوب الذكي في معالجة اللغة العربية فإننا نجد أنفسنا أمام تحدٍّ كبير، خاصة وأن لغتنا تمتاز بتماسك منظوماتها وتداخلها، ومع ذلك فإن الذكاء الاصطناعي يمكّننا من الحصول على أربعة أنواع من المعالجة، هي: المعالجة الصوتية، والمعالجة الصرفية، والمعالجة النحوية، والمعالجة الدلالية. وحتى يتحقَّق لنا الهدف يجب أن تتوفر لدينا حواسيب فائقة السرعة، بالإضافة إلى جهود الباحثين والمتخصِّصين القادرين على دراسة أنسب النماذج الحسابية لمعالجة اللغة العربية. وإذا استطعنا بلوغ ذلك، نكون قد قطعنا شوطاً طويلاً على طريق الذكاء الاصطناعي.
وفي عالم الحاسوب، نحن بحاجة ماسة إلى عملية محاكاة لملكة الإنسان الذهنية حتى نستطيع معالجة لغتنا العربية معالجة ذكية يمكننا من خلالها استخلاص المفاهيم والاستدلال على العلاقات التي تربط ظاهر النصوص بمدلولاتها.
ولكن، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن معالجة النصوص العربية بواسطة الحواسيب الآلية الذكية يجب أن تسبقه عملية توصيف وتقييس قراءة تلك النصوص وفهمها؛ بمعنى أن هناك مهمات حضارية ينبغي على الشعوب العربية القيام بها بشكل متوازٍ ومكثَّف، حتى نستطيع استخدام الحواسيب الذكية في مجالات اللغة العربية وآفاقها الرحبة.
وبفضل بحوث الذكاء الاصطناعي وتقنياته استطعنا الانتقال من مرحلة التعامل مع الفيزيائي إلى مرحلة التعامل مع المنطقي، وقد انعكس هذا الانتقال بصورة إيجابية على الكيفية التي تتعامل بها الشعوب مع لغاتها الحيَّة، وهذا يعني أنه يجب أن ينعكس بصورة إيجابية على كيفية تعاملنا مع لغتنا العربية.
وقد يسَّرت عملية انتقال لغات البرمجة من التعامل مع الأرقام فقط إلى التعامل مع الرموز والعلاقات المنطقية فرصة استخدام الحواسيب الذكية في اللغات الحية. وكما أشرنا سابقاً، لا بد من اتخاذ سلسلة خطوات وعمليات تمهيدية، من بينها: إيلاء اهتمام أكبر بالبُنى المنطقية للغة العربية؛ بمعنى صياغة الجُمل في تراكيب منطقية تتلاءم مع متطلبات التحليل الدلالي الآلي، وهذا ينطبق أيضاً على اللغات الحيَّة كافة. أضف إلى ذلك أننا يجب أن نبذل جهداً مكثفاً على صعيدي المعجم العربي وأساليب تمثيل اللغة العربية حتى تتلاءم مع متطلبات المعالجة الآلية.
إن الحديث في هذا الموضوع طويل ومتشعب الأبعاد، وما هذه المقالة إلّا إيماءة موجزة حول موضوع في غاية الأهمية، وأرجو أن يسهم فيه عدد من الكتَّاب والباحثين والدارسين حتى نتمكن من سبر أغوار أبعاد الموضوع وجوانبه المختلفة. وبالنسبة لنا في العالم العربي فإننا ما زلنا متخلفين عن الركب العالمي في مجال تطبيقات الحاسوب المختلفة، وخاصة ما يتعلق منها بالنواحي الإدارية، وذات الطابع اللغوي. ومع ذلك فإننا أكثر تقدُّماً في مجال التطبيقات العلمية للحاسوب، ولكننا ما زلنا بحاجة إلى جهد أكبر لإدخال الحاسوب في النواحي ذات الطابع اللغوي، مثل: الآداب، والفنون، والمنطق، وعلم الأجناس البشرية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والنقد، والتاريخ، والتعليم بصورة عامة؛ حيث تلعب اللغة دور القاسم المشترك بينها جميعاً. وبما أنها كذلك، فلا بد من العمل بجد ونشاط ومثابرة من أجل إخضاع اللغة العربية للسيطرة الآلية بواسطة الحاسوب.
وإذا كنا لا نزال متخلفين عن الركب العالمي في هذا المجال، فلا بد لنا من البحث عن سُبل الخلاص من هذا التخلف. وقد يكمن الحل في تنسيق الجهود العربية على صعيدي المكوّنات المادية (العتاد) للحواسيب والبرمجيات، والانخراط أكثر في البحوث والدراسات والتجارب الدولية الهادفة إلى تصنيع الجيل الخامس من الحواسيب وإنشاء المؤسسات الإقليمية العربية الخاصة بالمعلومات وتقنياتها.
اترك تعليقاً