(لا غوميرا) هي جزيرة صغيرة من جزر الكناري الإسبانية، يبلغ طولها 22 كيلومتراً فقط، وعرضها 25 كيلومتراً، ولكن ذلك لا يعنى أنه بالإمكان الوصول إلى جميع الأماكن فيها بسرعة وسهولة، إذ تتكوَّن تضاريسها الوعرة بشكل أساسي من هضاب وجبال شاهقة ووديان عميقة، وصولاً إلى المحيط الأطلسي، مع عدد لا يُحصى من الطرق والدروب المتعرِّجة التي ترسم المناظر الطبيعية الخلابة فيها.
وبسبب وعورة تضاريس (لا غوميرا)، وصعوبة التنقل بين قراها، فليس من المستغرب أن طوّر السكان المحليون منذ القدم، نوعاً خاصاً من التواصل يجنبهم مشقة التنقل، ويسهّل عليهم تبادل الرسائل المهمة فيما بينهم، فابتكروا لغة من نوع آخر، وهي لغة الصفير، التي أصبحت تُعرف بـ “سيلبو غوميرو”، التي تعني بالإسبانية “صفير غوميرو”.
لغة المسافات البعيدة
تعود أصول لغة “سيلبو غوميرو” إلى القرن الخامس عشر الميلادي، حيث تم ذكرها في روايات المستكشفين الذين مهَّدوا الطريق للغزو الإسباني للجزيرة، وكانت تسمح للسكان المحليين بالتواصل فيما بينهم بصوت قوي وثاقب، حيث يمكن لصوت الصفير الحاد أن يبلغ مسافات أبعد من الصياح، قد تصل إلى ثلاثة كيلومترات، عبر بعض الأخاديد وفي ظروف الرياح المواتية. فمن أعلى الجبال ومن أسفل الوديان كان السكان يتبادلون المعلومات ويطلبون إحضار المواشي ويحذرون من خطر وشيك، أو حتى يعلنون عن وفاة أحد أفراد الأسرة.
يتكوَّن نظام الاتصال في لغة صفير غوميرو من ستة أصوات مكثفة، بحيث تحل صفارتان مختلفتان مكان أحرف العلة الخمسة في اللغة الإسبانية، بينما تحل أربعة فقط مكان الحروف الساكنة الـ 22، حيث تقوم الصافرات بإطالة أو تقصير الأصوات لتقليد الكلمات. وهي، على الرغم من هذا النطاق المحدود من الأصوات، يمكنها التعبير عن حوالي 4000 مصطلح، اعتماداً على تسلسل ومدة ونبرة الصافرة، وعادة ما يتم الكشف عن المعنى الدقيق للرسالة من خلال سياقها. بالإضافة إلى ذلك يمكن التعرف أيضاً على الشخص الذي يطلق الصافرة من دون ضرورة رؤيته، إذ إن لكل شخص نغمته ونبرته الفريدة.
القرار الفريد.. واليونيسكو
إن لغة الصفير ليست في لا غوميرا وحدها، بل هي موجودة أيضاً في حوالي 70 مكاناً آخر حول العالم، ولكن ما يميِّز “صفير غوميرو” أنه وعلى الرغم من أن اللغات المماثلة قد اختفت تقريباً، لا سيما في مناطق أخرى من أوروبا، إلا أنها لا تزال حيَّة في لا غوميرا بفضل قرار اتخذ في 1999م من قبل المجلس الممثل لسكان الجزيرة البالغ عددهم حوالي 22 ألف نسمة، حيث جعلوها مادة دراسية إلزامية في التعليم الابتدائي. بهدف توسيع مدارك الطلاب، ومنحهم فرصة للتفكير بشكل مختلف، وتعليمهم لغة غوميرا التقليدية إلى جانب لغتهم الأم، إضافة إلى المحافظة على تراث أجدادهم وعلى لغة الصفير التي كانوا يصفونها بـ “شعر جزيرتهم”، ويَعُدونها، كما وصفها عنها انطونيو ماركيز نافارو، أحد الرعاة المحليين على الجزيرة، الذي يُعَدُّ الوصي الحارس والفخور بلغة الصفير في “لاغوميرا”، حيث وصفها بأنها: “مثل الشعر، لا تحتاج لأن تكون مفيدة حتى تكون مميزة وجميلة”. وبعد عشر سنوات في 2009م، وبسبب ذلك القرار الفريد، تم إدراج لغة “السيلبو غوميرو” على قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو.
وهكذا بقيت لغة الصفير في لا غوميرا، وعاشت لتتحدَّى الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الحديثة، لا سيما بين أوساط جيل الشباب الذين باتوا يتعلمونها في مدارسهم، ولم تعد مجرد بقايا ثقافية من ماضٍ محكوم عليه بالانقراض، بل أصبحت لغة للمستقبل أيضاً.
موضوع شائق ورائع وجميل