مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2021

ثورة “الذكاء الاصطناعي”..
محكومة بامتلاك المهارات ومراعاة الأخلاقيّات

فريق القافلة

يتغيّر العالَم من حولنا، وتتغيّر الأدوات التي نعمل بها، لكنّ جودة الحياة تبقى الهدف الأسمى للإنسان وللثورة الصناعية الرابعة، الثورة التي تبشّر العالم بتحوّلاتٍ عصرية ورقمية هائلة، وتأثيرٍ تحويلي سيطول نمط حياة الإنسان، والقطاعات الحيوية كافّة، فضلاً عن إسهامها في تعزيز التنمية المستدامة، والمدن الذكية، وجعل وسائل الاتصال والنقل فائقة السرعة، والحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية البيئة، وزيادة الإنتاجية، وخفض التكاليف.

لا شكّ أنّ كل ثورة تأتي محمّلةً بالتحوّلات والتحدّيات، لكن لا بدّ من امتلاك المهارات التكنولوجية اللازمة، لمواكبة هذه التغيّرات، فالتعليم والتدريب هما المحور المركزي لاستراتيجيّات العمل المستقبلية الخاصّة بالثورة الصناعية الرابعة، كما أنّ الوعي بالتكنولوجيا وإعداد جيلٍ علمي مؤهّلٍ للتعامل معها، والقدرة على التكيّف، عوامل تشكّل المهارات الأكثر قيمة وأهمّية بالنسبة للأفراد.

“القافلة” فتحت ملف (الذكاء الاصطناعي) أو ما يُعرف بـ (الثورة الصناعية الرابعة)، واستكتبت أربعة متخصِّصين ليتحدثوا عن قضية هذا العدد من وجهة نظرهم، حيث تناول المدير التنفيذي لمجموعة ستاليون للذكاء الاصطناعي، الدكتور سامر عبيدات، موضوع مواطني الذكاء الاصطناعي، وكيف سيكون مستقبل البشر حين يستنسخ كل واحد منهم نظيره الرقمي. أما مسؤول برامج (الإسكوا) في منظّمة الأمم المتّحدة، البروفيسور فؤاد مراد، فبدا متفائلاً من هذه الثورة، معتبراً أن “الذكاء الاصطناعي موجود هنا ليبقى هذه المرة”. غير أن التكنولوجيا الجديدة لا تأتي إلّا وتُحدِث تغييراً في النظام الاجتماعي والاقتصادي، وقد تسبِّب ما يُعرف بـ “البطالة التكنولوجية”، ذلك ما تناوله مهندس أنظمة التحكّم حسن الحاجي. ليختتم الباحث في أخلاقيّات الذكاء الاصطناعي ماهر الحسنية، الحديث بالدعوة إلى عملٍ متكامل في هذه الصناعة، والبحث عن نطاق للتقدّم يشمل الجانبين التقني والإنساني.

التوأم البشري الرقمي…
مستقبل الذكاء الاصطناعي
استنساخُ عقولنا رقمياً وتخزينها!

الدكتور سامر عبيدات
المدير التنفيذي لمجموعة ستاليون للذكاء الاصطناعي

كمواطن ذكاء اصطناعي (Artificial Intelligence Citizen) في العام 2035م، يكفي أن أفوّض توأمي الرقمي الذكي اصطناعياً (Digital AI Twin) لحضور الاجتماعات الطارئة كلّها، والقيام بالمهام الروتينية نيابةً عنّي، وبالتالي سيصبح بمقدوري التمتّع مع عائلتي بعطلةِ نهاية أسبوعٍ هانئة، من دون التفكير بوجود أمور مهمّة في العمل قد تفوتني.

جمهورية الذكاء الاصطناعي
هذا هو عالَمنا في المستقبل القريب، عالَم المجتمع المعزّز بالذكاء الاصطناعي. أشخاص ومؤسّسات وحكومات تعرف كيفية العمل والتنقّل في عالمٍ رقميّ ذكي، وأنماط حياةٍ مختلفة تماماً عمّا نعيشه اليوم.

هؤلاء من أطلقتُ عليهم مصطلح “مواطنو الذكاء الاصطناعي”، وهو المفهوم الذي تحدّثت عنه بإسهاب في كتابي الجديد “مواطن الذكاء الاصطناعي” (The Artificial Intelligence Citizen).

من المتوقّع أن يقود الذكاء الاصطناعي معدّلات الإنتاجية، والناتج الإجمالي للاقتصاد العالَمي نحو النموّ بما يُقدّر بـ 15.7 تريليون دولار بحلول العام 2030م، وهو رقم يزيد على الناتج الحالي للصين والهند معاً.

سيقود الذكاء الاصطناعي هذا النموّ عبر قيامه بالمهام والوظائف التي يقوم بها البشر حالياً، ولكن بشكلٍ أسرع وأرخص وأكثر دقّة، وسوف يجعل عمليات التنبّؤ أقل تكلفةً وأكثر تحديداً، فضلاً عن التعرّف على الأنماط والسلوكيّات في البيانات الضخمة (Big Data)، وتخصيص الخدمات والمُنتجات، وخدمة أعدادٍ كبيرة من العملاء والمواطنين بكفاءةٍ وجودة عالية، وعلى مدار الساعة.

ولكن إذا كانت تكلفة تمكين هذا الاقتصاد الضخم، هي المنافسة غير العادلة مع أنظمة ذكية تقوم بوظائفنا وأعمالنا بكفاءةٍ وإنتاجية عالية، والقلق كلّه يكمن في أن نجد أنفسنا بلا عمل في المستقبل القريب.

سأحاول أن أستعرض هنا بشيءٍ من التوازن الوَجهَين المُحتَملين لفهم التحوّلات التي ستشهدها مجتمعاتنا وأسواق عملنا.

السيناريو الأول: مستقبل مُظلم!
تقود اليوم الشركات العملاقة أبحاث تطوير الذكاء الاصطناعي، ولديها التقنيّات اللازمة لتطوير جيلٍ جديدٍ من البشر الرقميّين (Digital AI Humans) المتفوّقين على العُمّال والمُحترفين من البشر، لجهة القدرة على تنفيذ المهام كافّة، فضلاً عن تمتّعهم بخاصّية التعلّم الذاتي، ويتقاضون رواتب تقترب من الصّفر!

تشير التقديرات إلى أنّ حوالي 800 مليون شخص سيفقدون وظائفهم خلال الأعوام المقبلة، بل يتوقّع بعض العلماء أن يحلّ الذكاء الاصطناعي مكان البشر في %99 من الوظائف في غضون العقدين المقبِلين.

كيف ستكون النتيجة برأيكم؟ البطالة واسعة الانتشار، وهي أحد أهمّ المخرجات المتوقّعة للثورة الصناعية الرابعة.

لكن وعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا تعدُ بإنتاج عالمٍ أفضل، إلّا أنّ المستقبل يهدّد كثيراً من العُمّال المهرة بفقدان وظائفهم، وسيطول التهديد الدول النامية، وخصوصاً في المنطقة العربية وإفريقيا. في حين يتوقّع الخبراء أن يحصل العُمّال والمُحترفون المتضرّرون في الدول المتقدّمة على دخلٍ أساسي “تعويضي”، إذ ستتمكّن دولهم المتطوّرة من تغطية هذه التكاليف عبرَ فرض الضرائب على أرباح الشركات المُنتجة لهذه التكنولوجيات الذكية.

السيناريو الثاني: مستقبل مشرق
لحسن الحظ، هذه ليست الصورة الكاملة للمستقبل، وإنّما هي النسخة البائسة فقط التي يحلو للبعض إبرازها. يوجد جانب مشرق يمكننا البناء عليه عبر استغلال هذه التكنولوجيا التي تطوّرها الشركات الكبرى لتوفير التكاليف ورفع الإنتاجية، ولكن بدلاً من “استبدال” البشر يمكننا التفكير في “تعزيز” واقعهم. إذ بمقدورنا اليوم أن نتطوّر جنباً إلى جنب مع الذكاء المعزّز لنصبح نسخاً أفضل من أنفسنا. ماذا لو استخدمنا هذه التقنية للتحرّر من القيود المفروضة على أجسادنا بدلاً من أن تصبح وسيلة لاستبدال جيلٍ جديدٍ من البشر الرقميّين بنا؟

توأمنا الرقمي الذكي.. هل يشبهنا؟
يمكننا اليوم أن نستنسخ رقمياً أيّ إنسانٍ لبناء توأم رقمي ذكي اصطناعياً، يشبهه تماماً في الشكل والصوت والشخصية وطريقة الكلام، فضلاً عن تعابير الوجه والمعارف والخبرات. ومن الممكن تقنياً لهذا التوأم الرقمي أن يعزّز قدرة الإنسان على تجاوز حدود الزمان والمكان، ليتواصل بالنيابة عنه مع آلاف أو ملايين الأشخاص بلغاتٍ عدّة وفي أماكن مختلفة في الوقت نفسه. هذا ما أقوم به اليوم مع فريقٍ من العلماء والمهندسين البارزين في مشروع “جيميناي” (Project Geminai) لبحث وتطوير إمكانات استنساخ العقل البشري رقمياً، بهدف بناء توأم رقمي يمثّل صاحبه البشري في العالَم الافتراضي.

هذا ليس خيالاً علمياً، فكلّ ما يقوم به الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، يمثّل تحميلاً لما في عقولهم من أفكار ومعارف وذكريات، لكنّها مبعثرة. يمكننا معالجة هذه البيانات لتشكيل الشخصية الرقمية، وعمل نسخة أو توأم رقمي لأيّ شخصٍ بهدف تعزيز قدراته في العالَم الافتراضي، ودوره في اقتصادات المستقبل. فبدلاً من أن يفقد الإنسان وظيفته بسبب نظام ذكاء اصطناعي تجاري، سيتمكّن من استخدام نسخته الرقمية الذكية لأداء وظيفته، وتعزيز دوره في سوق العمل المستقبلي.

من خلال عمل البشر جنباً إلى جنب، بمقدورنا أن نخلق مجتمعاً رقمياً معزّزاً (Digital Augmented Society) تلتقي فيه أفضل المهارات البشرية مع أفضل ما يوفّره الذكاء الاصطناعي من إمكاناتٍ جديدة، لتنتج اقتصاداً ذكياً معزّزاً.

استنساخُ العقول رقمياً!
تشمل تطبيقات التوأم الرقمي الذكي القيام بالمهام البشرية المتكرّرة، والتواصل مع ملايين الأشخاص في وقتٍ واحد، والردّ على رسائل البريد تلقائياً، وإجراء عرض تقديمي تفاعلي في مناسباتٍ عدّة، وفي أماكن مختلفة ولغاتٍ متباينةٍ في الوقت نفسه. سيتمكن أيّ شخصٍ من إنشاء توائم رقمية تقوم بوظائف مختلفة، إذ من الممكن أن يمتلك الإنسان نسخاً رقمية محترفة تقوم بمهامٍ عدّة وبشكلٍ احترافي، وتكون قادرة على كسب المال نيابة عن صاحبها البشري.

هناك إمكانية إنشاء توأم رقمي لعلماء وشخصيّات بارزة لا تزال على قيد الحياة أو رحلت عن عالمنا الحالي، مثل آينشتاين والخوارزمي. تخيّل أن يصبح بمقدورك التحدّث عبر سكايب بشكلٍ تفاعلي مع قائد مُلهم أو عالِمٍ مشهور أو مخترع من الحاضر أو الماضي وفي أيّ وقتٍ ومكان.

تخيّل أن يصبح بمقدورك أن تستنسخ نفسك رقمياً كي يتسنّى لأحفادك وأبنائهم التعرّف عليك والتحدّث معك. ماذا لو استنسخنا عقولنا رقمياً وحافظنا عليها مُخزّنةً في قواعد بيانات غير مركزية حتى يصبح الذكاء الاصطناعي عامّاً (Artificial General Intelligence “AGI”) أو خارقاً (Artificial Super Intelligence “ASI”)؟

ذكاءٌ خارق.. إلى الأبد
يتوقّع العلماء اندماج الذكاء الاصطناعي العام AGI (وهو يضاهي مستوى الذكاء البشري) خلال العشر إلى العشرين سنة المقبلة.. والذكاء الاصطناعي الخارق ASI (يتجاوز كل الذكاء البشري ويتطوّر ويرتقي بنفسه بمعدلٍ غامض) خلال الخمسين أو المئة سنة المقبلة. سيكون هذا النوع الجديد من الذكاء على الأغلب مُدركاً وواعياً وقادراً على إنتاج حلول لاستنساخ الأنسجة البشرية والعيش إلى الأبد.

فهل أنتم مستعدّون؟


“شباب الذكاء الاصطناعي العرب”…
ينتصرون للتنمية المحلّية

البروفيسور فؤاد مراد
مسؤول برامج تكنولوجيا من أجل التنمية في منظّمة الأمم المتّحدة الإسكوا في بيروت

احتلّ عدد هائل من المنشورات العناوين حول العالَم، فضلاً عن التقارير والمحاضرات ومن ضمنها المؤتمرات الافتراضية، بدءاً من المنتدى الاقتصادي العالَمي، وصولاً إلى النشرات المحلّية في المؤسسات أو المدارس، وباللّغة المُختارة. البيانات أو الرسائل المُسهبة حول الأدمغة الاصطناعية التي تستولي على الوظائف، والروبوتات التي تتوسّع مجالاتها في إطار الثورة الصناعية الرابعة، أصبحت إعلانات تجارية على التلفزة. للاطّلاع على نشرة تقرير تقليدي، يُحتَفَى به عادةً ضمن معايير أداء الموظّفين، ويمكن مطالعة التقرير الذي صدر عن أعمال لجنة الأمم المتّحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” في العام 2019م، أي قبل انتشار الجائحة.

وأظن أنّ ما سيرد في هذا المقال قد يكون محلّ جدلٍ لدى بعض القرّاء، لكن يمكن التيقُّن من أفكاره عبر “genie” على شبكة الإنترنت، كما يمكن توسيع نطاق البحث والقراءة حول الموضوع للاطلاع على كثير من الأفكار المختلفة التي قد تحفّز القرّاء على استكشاف موضوعات ذات صلة بحياتهم اليومية، في العمل أو المنزل.

مؤشّرات مبالغة
تُثار ضجّة كبيرة حول آراء “الخبراء” المُتخصّصين والمبدعين للذكاء الاصطناعي، وفوائده “الموعودة” (blue sky) في كلّ مجال، والموجّهة للناس عموماً. إنّ الأقوال الشائعة مبتذلة، بمعارفها الضحلة، إلى درجة إساءة استخدام هذا “الذكاء” وإلصاقه بمعظم الأمور المتعلّقة بأجهزة إلكترونية، أو حواسيب وحساسات أينما وجدت، مع برامج الألعاب، وأدوات، ومنتجات، وتجهيزات، وسيارات، وهواتف، وملابس، وأحذية، وغيرها. ويُستخدَم “بلوك-تشين” لإضفاء مظهر على أيّ تطبيق، وإسباغ صفة الأمان السيبراني عليه، بغضّ النظر عن حقيقة البرنامج الذي استُمدت منه المعلومات.

إنّ مثل هذا التضخيم والتعميم يعود حتماً بنتائج عكسية. فنحن نعلم أنّ الذكاء الاصطناعي موجود منذ أكثر من 60 عاماً، وشهد مراحل صعودٍ وهبوط غير مرّة، لأسبابٍ منها التوقّعات غير المبنية على أساس.

الذكاء الاصطناعي وُجد ليبقى:
هذه المرّة!
يبدو أن وعد الحقيقة سيحلّ مكان الأقوال الركيكة. هناك متحمسون لأنّ الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، ستُحدِث آثاراً ملموسة، إذ ثمّة زعزعة (disruption) ذات مغزى يتجاوز ردود الفعل المأخوذة بالموضوع أو “المُنبهرة” به. الذكاء الاصطناعي موجود هنا ليبقى هذه المرة، خلافاً لمقدّماته السابقة في سبعينيّات القرن العشرين وثمانينياته. إنّ الدلائل الداعمة لتفاؤل أولئك المتحمسين مبنيّة على منجزات تكنولوجية وحقائق عملية من العقد الماضي:

1. النموّ الاستثنائي المتزامن في القدرات الرقمية، وسرعة المواصلات، وتمدّد الشبكة الإلكترونية، وانتشار الإنترنت، وكثافة التخزين، و”تحجيم” (miniaturization) الإلكترونيّات، والتكلفة المتاحة، كل ذلك في إطارٍ خاصّ بـ “التكنولوجيات البازغة”.
2. إنّ الامتيازات التي يتمتّع بها الذكاء الاصطناعي، مثل البيانات الضخمة (Big Data)، وإنترنت الأشياء (Internet of Things) اعتُمِدَت بحماسة أداة أساسية في التسويق في نماذج الأعمال الخاصّة بالشركات الكبرى المتعدّدة الجنسيّات لمنصّات التواصل الاجتماعي.
3. لحسن الحظّ، فإنّ مصادر البيانات التي تقود خوارزميات التطبيقات “الذكية”، مرتهنة في مضمونها وتعتمد على مكوّنات محلّية (بيانات، ولغة، وسلوك، وثقافة، وبنية تحتية)، وهذا يعني، بخلاف الثورات الصناعية الثلاث السابقة، أنّه لا يمكن للمستخدمين العرب شراء الحلول في نظام “العلب السوداء” (black boxes scheme)، فالبيئة المحلّية أمر ضروري من خلال جهود التنمية وربما الحاجة إلى البرامج البحثية أيضاً.
4. الحاجة إلى مضمون محلّي قد يُجبر جامعاتنا في نهاية المطاف، والقطاع الصناعي، والحكومات، لإدماج الباحثين، والمُهندسين، والمُبرمجين، وخبراء التكنولوجيا، والمجتمعات المحلّية، من أجل فتح الأبواب وتسخير فوائد التكنولوجيا لمواجهة التحدّيات التي تعترض البلدان العربية.
5. ثمّة حقيقة تمثّل فرصة، فنحن نحتاج إلى تبديد الغموض حول الذكاء الاصطناعي، والتعلّم الآلي (machine learning)، والمدن الذكية، وعلوم البيانات. هذه جميعاً تعتمد اعتماداً كثيفاً على الرياضيات، والنمذجة النظرية، والإحصاء. لذا، فإنّ الوصمة التاريخية القائلة بأنّ خريجي الجامعات العربية أقوياء في النظريّات، لكن مهاراتهم غير ذات شأنٍ في مجال التصميم وصناعة المنتجات والحِرف، تصبح نعمة، وميزة تنافسية في سوق المهارات العالَمية.
6. إنّ جيل المعارف التقنية الشاب في العالَم العربي، بغض النظرّ عن دوافعه، أكانت للّعب والترفيه أم للعمل، هو جيلٌ مُدمج بتقنيات رقمية، وتطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات. كما أنّ المجتمع العربي يمتاز بمعدّلات الشباب العالية، والجيل الشاب فيه يشكّل غالبية المجتمع.
7. سيكون للذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات تطبيقات ذات أثر واضح في العالَم العربي، ما دامت السوق المحلّية ضخمة وتتطلّب حلولاً كثيرة. وخصوصاً أنّ تحدّيات التنمية المُستدامة في المجتمعات المحلّية هائلة و”مزمنة”. ففي قطاعات مختلفة، تواجه البلدان العربية مع بعض التفاوت بين المناطق، تحدّيات وجودية، في قطاعات الماء والطاقة والبيئة والأمن والتوظيف والغذاء والصحّة والتعليم. إنّ طبيعة التحدّيات وحجم الضغوطات، يتيحان أسواقاً مثالية للحلول “الذكية”، التي يمكنها أن تسخّر المهارات الشابة المحلية، والتكنولوجيات المتوافرة والمُتاحة، من أجل وضع حلول مُجدية وفعّالة للتحديات في بيئة أعمال مريحة.

إمكانات الذكاء الاصطناعي: القدرات الواقعية والعملية
للذكاء الاصطناعي القدرة العملية والفعلية على تحقيق ما يلي:
1. الكشف عن صحّة الأشياء، واقع وتصرّفات الناس والحيوانات من خلال حساسات عملية وبأسعار معقولة.
2. تعزيز الأداء في الوقت المفيد عبر استخدام المعلومات وخوارزميّات التعلّم.
3. إمكانية الاطّلاع على كمّية هائلة من البيانات المُخزّنة في بنوك معلومات عالَمية بسرعة تُقارب سرعة الضوء.
4. تشغيل خوارزميّات معقّدة على حقول حواسيب جبّارة تقدّم بسلاسة الخدمات المطلوبة عالَمياً.
وبذلك يُطلَق العنان لمخيّلة المخطّطين وحماسة المُشغّلين، للقياس التلقائي، والتحليل والتوقُّع المفيد في إدارتهم وأعمالهم، في الطاقة والنقل والمياه والخدمات والأمن والصناعة والتجارة، فضلاً عن الزراعة والسياحة والتسويق والتمويل والصحّة والتعليم والأبحاث والتطوير.
الأمثلة كثيرة حول التطبيقات الفعلية المنتشرة دولياً، وإقليمياً، ومحلياً. والقاسم المشترك لمعظم الحالات، هو السعي في تحسينات الإنتاجية والتحليل للبيانات الضخمة والتوقّع، وهي أمور تفوق قدرة البشر لجهة الحجم والسرعة.

العوامل المُمكنة
تتطلّب الفرص الأكثر فعالية في الدول العربية عوامل التمكين التالية:
1. معالجة وتحليل اللّغة العربية (نصّاً وصوتاً).
2. تحليل الصور والأفلام رقمياً وأدوات التعريف.
3. علوم البيانات.
4. مهارات النمذجة الرياضية
5. حُزَمة التعلّم الآلي.
6. إمكانية الوصول للبيانات المفتوحة.
7. الحفاظ على الخصوصية وأخلاقيّات البيانات.

الفرص المحلية
يمكن لهذه العناصر الضرورية أن تسهم إسهاماً مهماً في تسريع تنفيذ الأهداف التي وضعتها الأمم المتّحدة للتنمية المستدامة، ومتابعة قياس تقدّم هذه الأهداف في البلدان العربية. تجدون أدناه بعض العيّنات المقترحة، والأرجح وجود عيّنات أفضل منها مع تفاصيل من مسارات الحياة الواقعية، التي لا يمكن تفصيلها في مقالة الأفكار هذه: (القضاء على الفقر، والقضاء التامّ على الجوع، والصحّة الجيّدة والرفاه، والتعليم الجيّد، والمساواة بين الجنسين، والمياه النظيفة والنظافة الصحّية، وطاقة نظيفة وبأسعار معقولة، والعمل اللائق ونموّ الاقتصاد، والصناعة والابتكار والهياكل الأساسية، والحدّ من أوجه عدم المساواة، ومدن ومجتمعات محلّية مستدامة، والاستهلاك والإنتاج المسؤولان، والعمل المناخي، والحياة تحت الماء، والحياة في البرّ، والسلام والعدل والمؤسّسات القوية، وعقد الشراكات لتحقيق الأهداف بدلاً من التظاهر بالحالات الوهمية).

أفكار للخاتمة
الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والتعلُّم الآلي، وإنترنت الأشياء، والمدن الذكية، وعلوم الروبوت، والتكنولوجيات البازغة الأخرى، أثبتت عالَمياً أنّها تسرّع تحقيق أهداف التنمية في المجتمعات المحلّية. لنختصر التحليل والمشاورات، ولنقفز إلى الثورات مزوّدين بالمهارات والاستثمارات والتطبيقات على المستوى المحلّي، مع مراعاة هذا السياق المحلّي الذي يتصدّى للتحدّيات المجتمعية. هذه التكنولوجيات لا تعرف الحدود، ولذا يمكننا أن نرفع فوائدها إلى الحدّ الأقصى، ونقلّص مخاطرها أو آثارها السلبية.


تداعيات الثورة الصناعية الرابعة…
بطالة تكنولوجية وقرصنة!

المهندس حسن الحاجي
مهندس أنظمة تحكّم

منذ أن نشأ الإنسان على هذه البسيطة، والأنظمة الاجتماعية البشرية من عادات وتقاليد وأنماط حياة، في حالة تغيّرٍ ديناميكي مستمرّ. هناك تغيّرات داروينية بطيئة ومتراكمة، وهناك قفزات ثورية مرّت عبر منعطفاتٍ ضخمة غيّرت وجه التاريخ البشري، وأخذت الإنسان إلى اتّجاهاتٍ لا عودة بعدها، وأبرز تلك التغيّرات ابتكار أو اكتشاف تكنولوجيا متعدّدة الأغراض، مثل الكتابة والآلة الطابعة وآلة البخار والكهرباء والحاسب الآلي وشبكة الإنترنت، وهذه الآلات التكنولوجية ليست محايدة، ولا تقوم بوظيفتها المرسومة لها فقط، وإنّما تدخل في تفاصيل حياة الإنسان وتُعيد ترتيبها، كما تُبدّل من أنظمته الاجتماعية، وتفرض عليه سلوكيّات اقتصادية وسيكولوجية واجتماعية مختلفة. فالمصباح الكهربائي مثلاً لم تقتصر وظيفته على الإنارة، وإنّما فتح أبواباً في ميادين أخرى، وغيّر من شكل المدن وتصميمها، وأعاد تشكيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

منعطف تاريخي
إذا كان للمصباح الكهربائي وهو أحد مخرجات الثورة الصناعية الثانية، هذا التأثير الكبير في تغيير حياة الناس، فما بالك بتأثير الثورة الصناعية الرابعة ومخرجاتها، كالذكاء الاصطناعي، والطائرات المُسيّرة، والأجهزة الذكية، فهي ستوسّع مدارك الإنسان وتمدّد عقله نحو آفاق بعيدة. تشكّل الآلات امتداداً لأعضاء الإنسان، فالمطرقة هي امتدادٌ لعضلة اليد، والدرّاجة هي امتداد للأرجل، والذكاء الاصطناعي هو امتداد للدماغ، لذلك يتنبّأ العلماء والمفكّرون، أن تُحدث هذه التقنية المستجدّة تغييراً عميقاً في جميع مفاصل الحياة، ولن تترك جانباً من حياة الإنسان إلّا وتعيد إنتاجه وتعريفه.

نحن نقف الآن على أعتاب منعطف تاريخي حادّ لم يسبق له مثيل، ومن المتوقّع أن يُحدث زلزالاً دراماتيكياً ضخماً، يطول نمط حياة الإنسان وطريقة تفكيره ونظرته الكونية، وبشكلٍ أكبر مما أحدثته التكنولوجيات السابقة. نشهد الآن ولادة عصر الثورة الصناعية الرابعة، وهي تتميّز بِسِماتٍ مهمّةٍ تمدّ الإنسان بقوى مختلفة لم يعهدها.

في الثورة الصناعية الرابعة سوف يمدّد الإنسان قواه العقلية ويضاعفها بشكلٍ يصعب تصوّره، وخصوصاً مع دخول الكمبيوترات الكمّية نطاق التطبيق، ودخول أجهزة استشعار صغيرة ليس فقط في الآلات الميكانيكية والأجهزة الكهربائية، بل وحتى داخل جسم الإنسان، من روبوتات نانوية تسبح في الدم، وأجهزة صغيرة تُمكّن الإنسان من الرؤية على مسافاتٍ أبعد، وسماع أصواتٍ أكثر دقّة، وربما قد يتمّ استبدال بعض أعضاء جسم الإنسان بأخرى إلكترونية بايونية bionic organs لإعطاء الجسم قوةً إضافية.

يقول كيفن كيلي أحد روّاد التكنولوجيا الحديثة ومحرّر المجلّة التقنية (Wired Magazine): “خطّة العمل لعشرة آلاف شركة ناشئة سهل جداً، خذ أيّ شيء وأضف إليه ذكاءً اصطناعياً”.

أسئلة المستقبل التكنولوجي
استطاع الإنسان أن يُسخّر الكون ويُطوّع الطبيعة لخدمته، لكن ماذا لو جاء من هو أذكى وأكثر مرونة منه، واستطاع التواصل بجميع اللّغات المنطوقة والمكتوبة؟ ماذا لو تمكّن الذكاء الاصطناعي من الوصول إلى الذكاء الخارق Super Intelligence؟

ماذا سيفعل الإنسان بهذه القوّة العقلية الضخمة، وكيف سيسخّرها لتحقيق أهدافه، وما هي الضوابط الأخلاقية التي سيتّبعها لترشيد هذه القوّة؟ ماذا يعني أن تكون إنساناً في ظلّ وجود كائن أذكى وأقوى ذاكرة وأدقّ تفكيراً وأكثر مرونة وأطول ديمومة وأسرع تعلّماً؟

هل سيكون الذكاء الاصطناعي آخر اختراعٍ بشري يهدّد وجود الإنسان، كما يتوقّع عالِم الفيزياء الشهير ستيفن هوكنغ، والمخترع المبدع إيلون ماسك، والفيلسوف نك بوستروم؟ أم أنّ الذكاء الاصطناعي سوف يقضي على “الشرور الخمسة” التي طاردت الإنسان في مسيرته التاريخية وفتكت به، ويضع لها حلّاً نهائياً كي يعيش بسلام، فيتخلّص من المجاعة والفقر والأمراض والجهل والحروب؟

“البطالة التكنولوجية”
تلعب الابتكارات التكنولوجية دوراً كبيراً في دفع عجلة النموّ الاقتصادي، بحسب البروفيسور في علم الاقتصاد روبرت غوردن. فلا تأتي تكنولوجيا جديدة إلّا وتُحدِث تغييراً في النظام الاجتماعي والاقتصادي، وتزيد من الرخاء وتعيد توزيع الثروات، لكن – أحياناً – بشكلٍ غير متساوٍ، فتخلق نظاماً طبقياً اجتماعياً جديداً، يوجد فيه خاسرون ورابحون. كما أنّ التكنولوجيا متعدّدة الأغراض، لها أثر كبير في زعزعة سوق العمل وطريقة أداء الأعمال، فتقضي على شركاتٍ ووظائف قديمة، وتفتح آفاقاً لبزوغ شركاتٍ رائدة، ووظائف جديدة، تتطلّب في المقابل تعلّم مجموعة مهاراتٍ مختلفة، لذلك وخلال فترة التحوّل تلك، يكون هناك ما يُعرف بـ “البطالة التكنولوجية” كما يسمّيها الخبير الاقتصادي جون مينارد كينز.

وعلى الرغم من وجود وظائف شاغرة، إلّا أنّه لا توجد كفاءات تقوم بمتطلّبات تلك الوظائف، حتى يتمّ تدريب المؤهّلين على إتقان المهام الوظيفية، وهذا الأمر أحدث اضطراباتٍ اجتماعية واقتصادية خلال الثورات الصناعية الثلاث الأولى، لكنّها كانت محدودة، وسرعان ما تمّ سدّ الفجوة بين الوظائف الشاغرة والمهارات المطلوبة، وتراجع التوجّس من الآلات، إذ وفّرت التكنولوجيا وظائف أكثر من تلك التي قضت عليها.

ومع دخول الثورة الصناعية الرابعة سوق العمل، يتجدّد الخوف من فقدان الوظائف، إذ يتوقّع حدوث فجوة جديدة في سوق العمل وبطالة تكنولوجية ربما تكون كبيرة جداً، لأنّ الوظائف المستجدّة هذه المرّة، تتطلّب مهاراتٍ عالية وذكاءً فوق المعدل العامّ.

الشباب محركّ الثورة الرابعة
تستحوذ فئة الشباب عموماً على المشاركة الفعّالة في الثورة الصناعية الرابعة، فالدول التي يغلب على طبيعة سكانها متوسّط أعمار منخفض، وتمتلك القوة الاقتصادية لتنفيذ مشروعات رقمية، ستواكب المستجدّات التكنولوجية المتسارعة، وتلعب دوراً نشطاً في صناعة وتوجيه وإنتاج وتصدير تلك التكنولوجيا. فالشباب اليافع عادةً ما يمتاز بسرعة التعلّم، لذلك ينبغي لنا استثمار هذه الميزة التي نمتلكها وتحسب لنا في المملكة العربية السعودية، إذ تغلب فئة الشباب بين السكّان، ولدينا مخزون كبير من البيانات في مجال الصناعة البترولية والبتروكيماوية والتعدين، وهذه تعدّ بترول الثورة الصناعية الرابعة وأبرز مقوّماتها، وهذا ما يؤهّل المملكة لصناعة الفرق، وجني ثمار الثورة الجديدة. من هنا قامت بعض المشروعات العملاقة في المملكة على استثمار مُخرجات الثورة الصناعية الرابعة وقطف ثمارها، كما هو الحال في مشروع “نيوم” الذي سيوظّف 100 ألف روبوت، فضلاً عن مشروع البحر الأحمر، الذي سيعتمد بالكامل على الطاقة المتجدّدة، وهي مشروعات تمثّل جزءاً من رؤية 2030 في التحوّل الاقتصادي للمملكة.

قرصنة الوعي والحسابات!
تحمل الثورة الصناعية الرابعة في طيّاتها فرصاً عظيمة لتحسين وضع الإنسان من نواحٍ عدّة، إلّا أنّها تطرح تحدّيات كبرى لم يعهدها الإنسان من قبل، ومنها السلامة والأمان، فالثورة التكنولوجية تعطي فرصاً محتملة لأنواع من القرصنة، لا تنحصر في الهجوم على الشركات والحكومات فقط، بل حتى على الأفراد، (قرصنة الممتلكات كالحساب البنكي والبريد الإلكتروني والوثائق والمستندات الشخصية)، والأخطر من ذلك هو قرصنة دماغ الإنسان عبر سرقة انتباهه، وتوجيه مشاعره والتحكّم في قراراته. هذا الأمر يضع مستخدمي تقنية الثورة الصناعية الرابعة أمام تحدّيات كبرى لمواكبة المستجدّات من جهة، ورفع مستوى الوعي واكتساب مهارات تقنية باستمرار من جهة ثانية.


التقدّم في الثورة الصناعية الرابعة…
الفرص والتحدّيات

ماهر الحسنية
باحث في أخلاقيّات الذكاء الاصطناعي

الوتيرة السريعة التي تتقدّم بها التكنولوجيا (وخصوصاً الذكاء الاصطناعي والروبوتات)، لتدخل البشرية إلى عصر الثورة الصناعية الرابعة، جعلت المتحمّسين لهذا العالَم يُبرزون الإمكانات الهائلة التي توفّرها هذه التقنيّات: تتيح هذه الابتكارات للناس عموماً، مثل الطابعة ثلاثية الأبعاد، طباعة المنتجات في منازلهم بدلاً من شرائها، وتمنح للناس التحكّم في وسائل الإنتاج. يجلب تعدين العناصر الأرضية النادرة من الكويكبات، وفرةً من تلك العناصر التي تعدّ جزءاً لا يتجزّأ من بناء الرقائق الإلكترونية. اللّحوم المُصنّعة في المختبر، تجعل إنتاج اللحوم أسهل وصديقاً للبيئة، وأكثر صحّةً وأقلّ تكلفة من اللحوم الحقيقية.

جذور الأتمتة إغريقية
إنّ الحديث عن الروبوتات والأتمتة، قد دغدغ خيال البشر منذ زمنٍ طويل يعود إلى العصور الإغريقية القديمة. تضمّنت الأساطير اليونانية عديداً من “الأوتوماتا” أو الحياة الاصطناعية. وتوضح أدريان مايور ذلك في كتابها “الآلهة والروبوتات: الأساطير والآلات والأحلام القديمة للتكنولوجيا”، حيث كلّف زيوس هيفايستوس بإنشاء تالوس (روبوت) كهدية لابنه “مينوس” لحماية جزيرة كريت.

كما أسّس هيفايستوس مجموعة عملٍ من الموظفين والمساعدين الآليين الذهبيّين لمساعدته في ورشته، وفي البوابات الآلية، وعربات ذاتية الحركة، وفي وقت لاحق طلب من زيوس إنشاء Pandora (روبوت أنثى) لتكون بمثابة عقاب للبشر. كما تمّ تصوير الحياة الاصطناعية في الأعمال الفنّية في الصين والهند القديمة (مايو 2018م).

ومن الأساطير إلى الحياة الواقعية، سمح الذكاء الاصطناعي (AI) للأتمتة بدخول قطاعات لم تكن ممكنة من قبل، بعيداً عن بيئات المصانع النموذجية، وفي القطاعات التي كان يديرها الإنسان بشكلٍ كامل، ما أدّى إلى تغيّر في المجالات وفي النطاق التي يعمل فيها العالَم.

الذكاء الاصطناعي شريك الأطبّاء
لقد خاض الذكاء الاصطناعي أيضاً في المجال الطبي، إذ أصبحت الروبوتات موجودة في العمليّات الجراحية، وتقنيّات الشيخوخة، وتحرير الجينات من خلال “كريسبر”، فضلاً عن حلّ مشكلات الرعاية الصحّية، ودفع حدود السنّ والتقدّم بالعمر إلى عوالِم غير معروفة، ويُحتمل أن يجعل هذا القرن أشخاصاً في سنّ المئة يبدون وكأنّهم في الأربعين من دون أيّ مشكلات صحّية.

ما كان في السابق في أيدي العلماء أصبح الآن في أيدي طلّاب الجامعات ورجال الأعمال وأيّ شخصٍ يتمتّع بالذكاء، كي يتعلّم كيفية البرمجة باستخدام كمبيوتر محمول والوصول إلى أساسيّات الإنترنت. لقد أتاح هذا التغيير في محرّكات الابتكار كثيراً من الفرص للأشخاص حول العالَم، ولم يعد محصوراً بمراكز خاصة أو مدن معيّنة أو شركات معيّنة. يمكن اليوم دفع هذا الابتكار التكنولوجي قدماً، كما يمكن أن يُدار من أيّ مدينةٍ وأيّ منزل يمتلك معدّات التواصل الأساسية، دافعاً إلى الأمام وتيرة التطوّر التكنولوجي. إنّ هذا الأمر يوفّر فرصاً هائلة لبلداننا العربية لتكون في طليعة التقدّم التكنولوجي، وإنشاء الشركات الناشئة، وتعزيز مكانتنا على خريطة العالَم، من خلال دعم البرامج الاستثمارية وتحديث برامجنا التربوية ودفع الشباب باتجاه تعلّم البرمجيات.

هكذا ومع كل تقدّم، هناك على الجانب الآخر ما يمثّل تهديداً وفرصة. ولفهم عملية التقدّم هذه، سأشير إلى مقال الفيلسوف هربرت ماركوزا حول التقدّم ونظرية فرويد عن الغرائز، التي عرّف فيها التقدّم بأنّه كمّي ونوعي. النوع الأول، يُعرِّف التقدُّم الكمّي بأنّه تنمية الثروة المجتمعية من خلال نمو المعرفة والقدرات البشرية – في وقتٍ واحد – حتى نهاية الهيمنة على الإنسان والبيئة الطبيعية عالمياً.

هذا هو التقدّم التقني الذي يستخدم الموارد الطبيعية لزيادة وسائل الإنتاج والاحتياجات والرغبات البشرية (الاحتياجات البشرية هي الأساسيات اللازمة للعيش، بينما تمتدّ الرغبات البشرية إلى ما هو أبعد من الأساسيات، مثل الرغبة في الحصول على أحدث هاتف محمول)، وفي الوقت نفسه تزيد من رغبات الإنسان بحدّ ذاتها. التقدّم التقني يتحقّق من خلال زيادة الثروة الاجتماعية عبر ابتكار منتجات جديدة وخدمات تسهّل حياة البشر، ولكن هذا التقدُّم التقني لا يفرض طريقة لتوزيع هذه الثروة الاجتماعية، ولا يضع معايير تحدّد (أو تخبرنا) لصالح من يتمّ توظيف المعرفة والقدرات البشرية، ولا يعالج المشكلات التي تطرحها هذه التقنيّات الجديدة.

يوفّر التقدّم التقني تعريفاً “خالياً من المعايير” لمفهوم التقدّم، وهو يركّز على الإنتاجية، وبالتالي ينتج دائماً خدمات جديدة من دون أي اعتبار للتداعيات المترتّبة عنه. هذه الزيادة في الإنتاجية، تولّد مزيداً من القيم المُجدية للبشر، من الطعام والملبس والترفيه والمأوى وصولاً إلى الأسلحة. من هنا يصبح السؤال بالنسبة لماركوزا حول شرعية الإنتاجية في تلبية احتياجات البشر.

عالمٌ فارغ من دون التقدّم
كتب ثيودور أدورنو في كتابه “النماذج النقدية، التدخّلات والعبارات الشائكة”: “من دون المجتمع، سيكون مفهوم التقدّم فارغاً تماماً”. فكلّ عناصره مستخرجة من المجتمع، وفكرة التقدُّم التي تُقاس بمحدودية المعايير، لا يمكن فصلها عن عملية التنوير الجوهرية التي تزيل الخوف، ومن خلال إقامة الإنسان كإجابة عن أسئلة البشر، يكسب مفهوم الإنسانية الذي يرتفع وحده فوق جوهر العالَم.

بعد الحديث عن التقدّم، تصبح الحاجة مُلحّة لمناقشة القضايا والتحدّيات التي تنشأ مع التقدّم التقني. سأذكر الموضوعات الرئيسة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي. نظراً للاعتماد على الأتمتة في الإنتاج أكثر وأكثر، بهدف تقليل تكلفة الإنتاج وزيادة الإنتاجية، والحصول على مزيد من الاتّساق في جودة المنتج، ومن خلال دخول عملية الأتمتة – كما ذكرنا – في الصناعات التي كان يديرها – تقليدياً – الإنسان بشكلٍ صارم، فإنّ قضيّة الوظائف وتوفّرها، تصبح موضوعاً رئيساً في العصر الحديث، والتحدّي الذي يواجه الحكومات والشركات لتوجيه مستقبل العمل لصالح البشرية لا ينبغي تجاهله. وهناك قضية أخرى تقع في قلب الذكاء الاصطناعي، وهي مسألة خصوصية البيانات وتحيّزها.

وعلى اعتبار أنّ البيانات تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من كيفية تصميم محرّكات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يمنح هذه المحرّكات الميزة التي تحتاجها، إذ إنّ مزيداً من البيانات يعني مزيداً من الموثوقية لهذه المحرّكات والحصول على مخرجاتٍ أفضل، ولكن ماذا يحدث لخصوصيّتنا؟ ماذا يحدث إذا كان محرّك الذكاء الاصطناعي يعكس عالَمنا المتحيّز؟ فمنصّات الذكاء الاصطناعي تعمل في عالَم متّصل مما يتيح لعدد كبير من المستخدمين من استعمالها، مما يؤدي إلى تضخيم التحيّزات لدينا نحن البشر تجاه بعضنا بعضاً.

ما هي الاعتبارات الأخلاقية التي يجب أن يأخذها مطوّرو البرمجيات والمصمّمون وصانعو السيّارات عند البرمجة؟ وماذا يحدث في حال وصلت محرّكات الذكاء الاصطناعي إلى التفرّد، بحيث تصبح أكثر ذكاءً من الإنسانية جمعاء؟

إنّ استعراض التحدّيات لا يرسم صورة سلبية للتقدّم التكنولوجي، بل فرصة، ودعوة للباحثين والفلاسفة والحكومات والشركات إلى عملٍ متكامل، والبحث عن نطاق كامل للتقدّم من جانبيه الاثنين: التقني والإنساني.


مقالات ذات صلة

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.

ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]

بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]


رد واحد على “ثورة الذكاء الاصطناعي..”

  • السلام عليكم
    ارجو بيان تطبيقات الذكاء الاصطناعي (البرامج) التي يمكن استخدامها في ادارة المشاريع ؟


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *