مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

قول في مقال

كلما زادت الثقافة زادت التعاسة!


علي محمد الرباعي
المستشار الثقافي لصحيفة عكاظ

ليس هناك مبدع ناجٍ من فخ المعاناة. وعندما نتحدث عن النجاة فهي نسبية دون شك. وكما أن المبدعين ليسوا سواء، فمنهم قادرون على التصالح مع الواقع بكل إحباطاته وإخفاقاته، ومنهم رهيف الحسّ، سرعان ما يتهاوى مرددًا: “هي أشياءُ لا تُحتمل”. كما أن المعاناة أنواع: هناك معاناة أفقية، عندما تمر بك تقول لنفسك “لست وحدك” فتمضي الأمور وإن تحت ظل من التشاؤم وعدم الرضا، وهناك معاناة رأسية، كأنها تنفرد بذات واحدة فتتغوّل في الفتك بها.

البعض من المبدعين يمرّ بالأزمة النفسية، وربَّما لا يحرص على تشخيصها. أحيانًا يشعر أنه متضايق، ولا يدري لماذا، ويمكن أن يلجأ للمسكنات. والبعض الآخر بما له من سعة أفق يستوعب ما يحدث؛ إذ إنه كما قال أحد الفلاسفة: “كلما زادت ثقافتك زادت تعاستك”. وبهذا يستعين بالطبيب أو المعالج النفسي أو الروحاني، دون تذمر ولا تحرج من معرفة أهله ومعارفه بما يتعرّض له.

وأحيانًا تغدو الكتابة علاجًا، إذا لم يكن الكاتب يائسًا من جدواها، ونظل ننتقل بين بانورامية نرى فيها كاتبًا يتسلح بالكتابة وإن ظلّ حادًا في مزاجه، إلا أنه شفيف في إبداعه، وبين كاتب ينتزع سلاحه ويُطلق على نفسه رصاصة الرحمة؛ لأنه تعذّر عليه الاستمرار واستشعر جفاف قلمه، وتراخي أنامله، وتنمّل أطرافه.

ومن التوارد المألوف، أن وقع بين يدي كتاب “ورد ورماد”، الذي ضمّ الرسائل المتبادلة بين الكاتبين المغربيين محمد برادة ومحمد شكري، وكان برادة يستدرج شكري ليبوح له ويتنفّس معاناته كتابيًا، كي لا يفترسه الاكتئاب. ولذا، يقول شكري في إحدى رسائله: “العالم ما زال شابًا، لكنه مشؤوم بالنسبة لي، لقد حدثت لي فيه أشياء جدّ مزعجة حتى أني فكّرت في الانتحار مرات عدة”. وحاولتُ أن أفهم سبب انزعاج صاحب “الخبز الحافي”، أو الحاف كما في النسخة الأم، فوجدته يوضح ظروف والدته الصحية ونقص المال، بالرغم من أن أخاه تاجر ومتكسّب محترف. كما أن والده مريض، وشكري كان يتقاضى 800 درهم، ويعطي أمه 150 درهمًا. وفي إحدى الزيارات، التي أسهم فيها ماليًا لأبويه، سمع أباه يقول لأمه: “ابنك له لحية شيطان، وشعر هداوة (أصحاب طريقة)”. فقال شكري لبرادة: ربَّما تُعدها أشياء بسيطة يقولها الأب لابنه؛ لكني شعرت بالمهانة من هذه الكلمات التي شعرت بقسوتها عليَّ.

وبحكم أن القراءة تأخذ بعضها برقاب بعض، كما يُقال، اهتديتُ إلى كتاب الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، وعنوانه: “سيجيء الموت وستكون له عيناك”، أحصت فيه ما مجموعه 150 شاعرًا ماتوا منتحرين. ومؤكد أن الانتحار آلية من آليات الخروج من سجن اليأس (العزلة)، أملًا في راحة تعقب حالة القلق الوجودي المُرهق، وذلك لأن الآمال والتطلعات التي كانت تغذي قافلة السير لم تتحقق.

وتذكّرت الشاعر اللبناني خليل حاوي، وكيف أنه انتحر بطلقة من بندقيته بسبب أزمات نفسيّة، منها العامة المُتمثّلة في الغزو الإسرائيلي للبنان ودخول العاصمة بيروت عام 1982م، ومنها الخاصة المُتمثّلة في فشل علاقته بالمرأة التي أحبها. وربَّما تُضاف إليها حالة عجز وتراجع في الفنّ الإبداعي لأحد رموز الحداثة الشعرية، وكأنّه شعر بأن إبداعه أصغر مما يحدث ولا يمكن استيعابه، أو أن الضبابية والغموض لا يمكّنان من رؤية طرف الخيط الذي لا بدَّ من الإمساك به، لتبدأ الكتابة.

ولن يغيب عن هذه المساحة، الشاعر السوداني عبدالرحيم أبو ذكرى، الذي انتحر برمي نفسه من قمة مبنى أكاديمية العلوم السوفياتية في موسكو عام 1989م، بعدما أحرق معظم قصائده وأوراقه وقصاصاته، وكان نال درجة الدكتوراه في فقه اللغة من جامعة موسكو عام 1987م. ولكنه عانى من انهيارات عصبية وحالات اكتئاب وإرهاق أفضت به إلى الانتحار.

ولعلّ بين سجون اليأس، والتداوي بالعُزلة، والانتصار للذات بالكتابة، والانهزام بالموت، تقاطع كبير؛ ما يفرض على الشاعر أو الناقد أو السارد، أن يعتني بصحته النفسية، فليست الحياة في “عزلة” خيارًا سيئًا، ولا الهروب منها بالانتحار اضطرارًا حسنًا.


مقالات ذات صلة

تُتاح نسخة البي دي إف (PDF) من العدد 703 (مارس-أبريل 2024م) على موقع القافلة خلال بضعة أيام بعد إطلاق العدد على الموقع الإلكتروني.

في إطار واقعنا اليومي المعاش، هل يمكن أن نجد غربالًا نحجب به حقيقة تنامي النزعة الفردية، بمختلف أشكالها التي ننحاز إليها أو نخشى منها؟!

استطلاع آراء عدد من قرائنا، ومعرفة الفلسفة العميقة وراء دوافعنا في توثيق اللحظات، ومحاولاتنا للاحتفاظ بالزمن.


0 تعليقات على “كلما زادت الثقافة زادت التعاسة!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *