مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2024

بداية كلام

الاحتفاظ بالزمن!


فريق القافلة

هل يمكننا الاحتفاظ بالزمن؟ هل التقاط الصور وتحميل الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوثيق أحداث معينة كنا قد اختبرناها، أو حتى كتابتنا لمذكراتنا، هي مجرد محاولة منّا للاحتفاظ بالزمن؟ هل تنبع كل تقنيات التوثيق التي نلجأ إليها من عمق قلقٍ يسكن دواخلنا وما ينفكّ يُشعرنا بأن وقتنا في هذه الحياة محدود، ومن ثَمَّ هي محاولة منّا للتحكم في مرور الزمن؟
توجّهنا بهذه الأسئلة لاستطلاع آراء عدد من قرائنا، ومعرفة الفلسفة العميقة وراء دوافعنا في توثيق اللحظات، ومحاولاتنا للاحتفاظ بالزمن.

غادة عبود
روائية

اِسرِق الزَّمن قبل أن يسرقك

لعلّه هوس الوصول، أو لربَّما رهاب الفقد. وقد يكون إدمان الظهور وتحصيل الإعجاب من الآخرين، مدفوعًا بغريزة حب البقاء، فقد أصبحنا رهينة لعدد الإعجابات وعدد المتابعين، لنتأكد من تحقق ذواتنا وإثبات إنجازاتنا. ولا ضير في ذلك، ولا حاجة للتشكّي، فولع التوثيق أمسى سمة عصرنا الحاضر، سواء أقررنا بذلك، أم لم نفعل.

قد نشارك كل تفاصيل حياتنا بشكل مبالغ. وما المشكلة في ذلك؟ دعني أسألك: كم مرَّة زرت مكانًا توقفت فيه روحك عن الأنين وتآلفت فيه مع كينونتك، ولكن لم يعد لديك بعد مضيّ تلك اللحظة أي دليل مادي على وجودك هناك؟ ألن تشعر بعد فترة من الزمن وكأنك لم تذهب إلى ذلك المكان، وأن تجربتك وكأنها كانت وهمًا؟ نعم، التقط كل الصور التي توثّق إحساسك بالألفة، اِسرِق الزمن قبل أن يسرقك، واجعل تلك اللحظة شاهدًا عليك وقرينة دفاع ضد الظروف. وانشر بهجتك التي اختبرتها، ولا تأبه لانتقاد الآخرين، فهم يفعلون مثلك وأكثر. وأخبرني: كم من صديق جمعتك به الجغرافيا، ثم فرقكما التاريخ، فأمسى جزء من عمرك كشريط فارغ لا يحمل اسمًا ولا عنوانًا؟ احفظ أيامك بالذكرى، وتتبع أثر الزمن في علاقاتك؛ لتعرف كيف استقر بك الحال في هذا الحاضر، وإلى أين تحب أن تمضي. هذا عمرك وثّقه جيدًا وانشره كل مرَّة وألف مرَّة.

لا سلطة للزَّمن.. بل للتجربة

محمد سواد
موجّه إبداعي في صناعة الصورة والفيديو

لا يمكننا الاحتفاظ بالزمن، ولكن يمكننا توثيق ما اختبرناه في زمن ما، من خلال الوسيط الصوري أو السمعي أو الكتابي. وتلك الوسائط تكون مفاتيح لإعادة إنعاش الذكريات، وإحياء شعورنا الذي عايشناه في تلك اللحظة.

كم من صورة أنعشت ذاكرتنا الحسية من خلال استحضار رائحة البخور التي كانت تملأ المكان، أو طعم حلوانا المفضلة.

لا أرى أيَّ سلطة للزمن منفصلة عمَّا عايشناه فيه، وتلك المناسبات واللحظات هي التي نقيس الزمن من خلالها؛ لذلك أترجم جملة الاحتفاظ بالزمن بمحاولة الاحتفاظ بحالتنا الشعورية في ذلك الزمن، وذلك لإدراكنا أنها ليست دائمة.

في ظل كثرة المتغيرات وتسارع الأحداث من حولنا، قد يتولّد لدى البعض شعور بمرور الزمن بوتيرة أسرع مما اعتادوه، ما يولّد رغبة موازية في السيطرة على ذلك الزمن، وقد تترجم تلك الرغبة بمشاركة التفاصيل الحياتية وتوثيقها من خلال التقنيات.

من الصعب تحديد سبب واحد وراء كل تلك المشاركات للأحداث التي تُنشر. قد يعي ويدرك البعض دافعه وراء توثيق لحظاته الحياتية من خلال مشاركتها على منصات التواصل، أو كتابتها كمذكرات، وقد يكون فعله نابعًا من رغبة دفينة في كبح الزمن.
وفي الوقت نفسه قد نجد من يشارك لحظاته الحياتية على منصات التواصل من غير تخطيط سابق أو إدراك للدافع وراء ذلك الفعل. لكن الجميع مشتركون في إنتاج الوثائق المادية عن لحظاتهم الحياتية في زمن ما، فهي عملية توثيق للحاضر بإدراك أو بغير إدراك.

رؤى حلواني مديرة تواصل

اللحظات أجمل.. دون قلق

اعتدنا في حياتنا اليومية توثيق اللحظات المفضلة والعودة إليها وقت ما نشاء، ربَّما رغبةً منّا في التقاط روح اللحظة وإبقائها حية أو تجميدها في ذاكرتنا، وقد يكون وسيلة لتعزيز الذات وتأكيد إنجازاتنا، لنشعر بأننا قد أحرزنا تقدمًا في هذه الحياة، أو رغبة في مشاركة تجاربنا وقصصنا مع الآخرين، وقد ينبع من قلقنا العميق تجاه الزمن الذي نراه يمضي سريعًا، وأننا قد نفوت العديد من اللحظات الثمينة في حياتنا. فندرك أن وقتنا في هذه الدنيا محدود، ولذلك نحاول جاهدين التحكم في مرور الزمن والاحتفاظ بتلك اللحظات الجميلة والمهمة.

مهما تعدَّدت الأسباب، فإن توثيق لحظات الحياة هو مسألة تثير تساؤلات عميقة في أذهاننا. فهل نستطيع فعلًا أن نحتفظ بالزمن، أم أننا نحتفظ بآثاره الشكلية وذكرياته فقط؟ في الواقع، الزمن قوة لا يمكننا التحكم فيها، فهو يمضي ويتقدم بغض النظر عن جهودنا في توثيق لحظاته. وعلى الرغم من أن التوثيق يمكن أن يعطينا شعورًا بالاقتراب من تلك اللحظات، فإنه لا يمكنه أن يوقف رحلة الزمن.

في تقديري، مهما ساعدنا التوثيق على استرجاع الذكريات، فإنه قد يكون أحيانًا مصدرًا للتشتت عن اللحظة الحقيقية، فيمنعنا من الاستمتاع والانغماس الكامل في اللحظة نفسها وتجربة كامل تفاصيلها.

في النهاية، التوثيق له قيمته الخاصة، ولكن يجب أن ندرك أن الحياة الحقيقية تمرّ بسرعة، وأن اللحظات الثمينة قد تكون أكثر قيمة عندما نعيشها بكل وجودنا ومن دون القلق الزائد بشأن توثيقها، فهي التي تصنع ذكرياتنا الحقيقية وتمنحنا تجارب حياة لا تُنسى.

هل يمكننا فعلًا الاحتفاظ بالزمن؟

معتز قطينة
شاعر ومدوّن وناشر

يبدو سؤالًا معقدًا بلا إجابة؛ إذ يجسّد الزمن تحديثًا مستمرًا لحياتنا، سواء أكان عبر مروره، أم محاولة التقاطه وتوثيقه من خلال تسجيل الصور والفيديو أو حتى عبر الكتابة، في محاولة منّا حفظ التداخلات الشعورية التي تعترينا، ومحاولة استعادتها لاحقًا. قد نظنها أيضًا محاولة لتثبيت لحظة أو توثيق تجربة. ولكنها، من جهة أخرى، قد تعكس قلقًا ما حيال تفلّت الزمن من أيدينا وفقدان التحكم فيه. تسمح لنا التقنيات بالتعبير عن اللحظة وتسجّل أثرها فينا، ونمتلك بموجبها القدرة على رفد الذاكرة بالصورة والصوت، لكن التقاط اللحظة والاحتفاظ بالزمن أمر عصيّ، ويبدو غير قابل للحدوث.

الزمن معضلة، ويكاد يكون أحد الألغاز التي لم تجد لها البشرية جوابًا يفسّرها، فهل حقًا يمكنها أن تسطر بصمة تجاه مروره؟ في عالم يتسارع فيه الوقت وتتبدل فيه الإيقاعات بشكل هائل، تبدو الاستعانة بالفن، صورة وصوتًا وكتابة، وسيلة مُثلى للاحتفاظ باللحظة وتثبيتها في الذاكرة. هل تعكس الصورة الثابتة والمتحركة التي نلتقطها ونشاركها في منصات التواصل، محاولةً جادةً لإبطاء عجلة الوقت، أم أنها هروبٌ متعمد من النسيان؟! كلاهما جواب محتمل، لكنها تحمل بين طياتها خطوة استباقية لترميم ما سيعطب لاحقًا من الذاكرة.

ربَّما تكمن جوهرية التوثيق في خلق مسار جديد للعلاقة بين الإنسان والزمن، فهي تمنحنا القدرة على استحضار لحظات ماضية وتجارب انتهت، في أي وقت نريده، وكأننا بذلك نخلق جسرًا يربطنا بتلك اللحظات التي شكّلتنا، سواء أكانت عذبة أم معذِّبة. وربَّما تكون الكتابة أو التصوير، رغبة كامنة أيضًا بالتصدي لاندفاع الزمن، والحفاظ على ما يمكننا حفظه من اللحظات الجميلة في خضم الإيقاع السريع للحياة.


مقالات ذات صلة

تُتاح نسخة البي دي إف (PDF) من العدد 703 (مارس-أبريل 2024م) على موقع القافلة خلال بضعة أيام بعد إطلاق العدد على الموقع الإلكتروني.

في إطار واقعنا اليومي المعاش، هل يمكن أن نجد غربالًا نحجب به حقيقة تنامي النزعة الفردية، بمختلف أشكالها التي ننحاز إليها أو نخشى منها؟!

وأحيانًا تغدو الكتابة علاجًا، إذا لم يكن الكاتب يائسًا من جدواها، ونظل ننتقل بين بانورامية نرى فيها كاتبًا يتسلح بالكتابة وإن ظلّ حادًا في مزاجه، إلا أنه شفيف في إبداعه.


0 تعليقات على “الاحتفاظ بالزمن!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *