مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

الملف

كأس العالم


محمد الفولي

لعشاق “الساحرة المستديرة” في شتى أنحاء الكوكب موعد لا يخلفونه معها عادة في مناسبة فريدة تتكرر كل أربعة أعوام، وهي كأس العالم لكرة القدم أو “المونديال”، الذي لا يرتبط بعالم الساحرة المستديرة فحسب، وإنما يتشعب ويتمدد إلى جوانب متنوعة في حياة البشر، من أدب وسينما وموسيقى، بل وقد يتداخل مع عوالم السياسة والاقتصاد بصورة كبيرة.

نسعى عبر هذا المقال إلى تقديم ملف متكامل ومُغاير يتناول محاور متنوعة عن المسابقة الرياضية الأبرز التي سواء اهتم المرء بكرة القدم أم لم يهتم بها، فلا بد أنه تابعها ذات مرة ولو من بعيد. لكن قبل أن نخوض ونتشعب ونستفيض، لا بُد من أن نعرف أولًا كيف ولماذا ظهرت بطولة كأس العالم.

محمد الفولي

ولادة أولمبية

سعى الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) منذ تأسيسه في 21 مايو من عام 1904م، بعضوية سبع دول آنذاك هي فرنسا وإسبانيا وسويسرا والسويد وهولندا والدنمارك وبلجيكا، إلى تنظيم بطولة عالمية كل أربع سنوات بمشاركة أعضائه. وضع الهولندي كارل فيلهيم هيرشمان التصور المبدئي في 1905م، لكن هشاشة المؤسسة التي وُلدت للتو، إلى جانب الصعوبات الاقتصادية التي جابهت القارة العجوز، أدّت إلى إجهاض هذه المحاولة قبل أن ترى النور.

لوثيانو بيرنيكي
كتاب “أغرب الحكايات في تاريخ المونديال“.

يشير المؤلف والمؤرخ الرياضي الأرجنتيني لوثيانو بيرنيكي في كتابه “أغرب الحكايات في تاريخ المونديال” إلى أن قيادات فيفا آنذاك لاحظت أن كرة القدم كانت قد وجدت لنفسها مكانًا مرتين كنشاط استعراضي في الألعاب الأولمبية، إذ ظهرت لأول مرة في نسخة باريس 1900م، حينما احتضنت العاصمة الفرنسية بطولة استعراضية بين أندية من عدة دول أوروبية، وفاز آبتون بارك من بريطانيا في النهائي على نادي فرانسيه المضيف وذهبت الميدالية البرونزية لفريق جامعة بروكسل البلجيكي. 

تكرر ظهورها بعدئذٍ بأربع سنوات، ضمن منافسات غير رسمية، في نسخة سانت لويس بالولايات المتحدة الأمريكية، وفاز فريق جالت فوتبول كلوب الكندي بسباعية نظيفة في المباراة الحاسمة على خصمه كريستيان برازرس كوليدج الأمريكي، فيما ذهبت الميدالية البرونزية لسانت روز باريش الأمريكي.

لم يمتلك فيفا آنذاك الوسائل والمصادر التي قد تساعده على التقدم بمفرده عبر الطريق الوعر لتنظيم بطولة رسمية، فبدأ مسؤولوه اتصالاتهم مع نظرائهم في اللجنة الأولمبية الدولية للتعلم. كانت التجربة الأولى في دورة لندن 1908م، حين احتضنت العاصمة البريطانية رسميًّا وللمرة الأولى منافسات بين منتخبات وطنية ضمن الألعاب الأولمبية، وحينذاك فاز المنتخب البريطاني باللقب.

بعدئذٍ بعامين، أقيمت أول بطولة كروية رسمية بين المنتخبات بعيدًا عن مظلة الأولمبياد، وكانت هذه المرة خارج القارة العجوز، واحتضنتها العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس. دعت حينها الأرجنتين تشيلي وأوروغواي للمشاركة في “بطولة مُصغرة” لإحياء مئوية ثورة مايو. كانت هذه التجربة بمثابة نقطة انطلاق لبطولة كوبا أمريكا التي بدأت تُلعب بصورة منتظمة في 1916م.

استمر ظهور كرة القدم في الأولمبياد، وفي نسخة أنتويرب 1920م كانت مصر المنتخب غير الأوروبي الوحيد المشارك فيها، فيما شهدت نسختا 1924م و1928م ظهور بطل فوق العادة هو أوروغواي.

المهم أن كرة القدم، منذ ظهورها الأول في الأولمبياد، بدأت تكتسب مزيدًا من الثقل والمساحة داخل هذا الحدث الرياضي الفريد، فانعقدت عدة مؤتمرات لتنظيم بطولة مستقلة لهذه الرياضة بمشاركة منتخبات وطنية تمثل كل القارات. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، دفع الفرنسي جول ريميه، الذي بدأ ترؤسه للاتحاد الدولي لكرة القدم منذ 1921م، بقوة في هذا الاتجاه، لأنه اقتنع بأن هذه اللعبة قادرة على “تدعيم مبادئ السلام الدائم والحقيقي”. هكذا، تقرر في الثامن من سبتمبر 1928م في زيورخ أن يشهد عام 1930م أول نسخة من كأس العالم.

بعدها بعام تقريبًا، وتحديدًا في 18 مايو 1929م، قدمت إسبانيا وإيطاليا والسويد وهولندا والمجر وأوروغواي ملفاتها للترشح لاستضافة الحدث في “مؤتمر برشلونة”. كان البلد اللاتيني هو المرشح الأوفر حـظًّا بعد تتويجه بآخر نسختين من الألعاب الأولمبية. بخلاف هذا، تمتعت أوروغواي بعنصر جذب آخر، سيظل قائمًا بشكل ما، كلما اختيرت دولة ما لاستضافة الحدث، وهو توافر المصادر المالية اللازمة لديها لاستضافته. فوق هذا كله، عرضت تولي مصاريف انتقال وإقامة كل البعثات. عجزت دول أوروبا بالطبع عن تقديم عرض مثل هذا، لأنها كانت تمر بأزمة اقتصادية حادة.

بخلاف هذا، ثمة اعتبار آخر جعل الكفة تميل إلى أوروغواي وهو أن البطولة ستشكل جزءًا من احتفالات مئوية استقلال البلد اللاتيني. هكذا، مُنحت في نهاية المطاف شرف أن تكون أول بلد ينظم كأس العالم وبدأت قصة المونديال تتشكل، أما الباقي فأصبح تاريخًا. 

لا ليس تاريخًا فحسب، بل تاريخًا وأدبًا وموسيقى وسينما وسياسة واقتصادًا، وهي المحاور التي سنسعى إلى تناولها في هذا الملف.

استضافت أوروغواي أول نسخة من المونديال عام 1930م لتدخل التاريخ كأول بطل للعالم.

التسلّل إلى شباك الأدب

ظلت العلاقة بين الأدب وكرة القدم قائمة على التنافر لفترة طويلة من الزمن. يرى جانب كبير من المثقفين أن كرة القدم، وأجواءها، وجماهيرها تُعبّر عن مدى عشوائية وحماقة و”سوقية” المجتمع، فيما يرى جانب كبير من محبي الساحرة المستديرة أن المثقفين غير قادرين على فهم هذا النوع من الشغف والانتماء، من مكانهم البعيد في أبراجهم العالية.

تعود بداية نظرة المثقفين المتعالية إلى كرة القدم، كما تحدث عنها الصحفي والكاتب الأرجنتيني لوثيانو بيرنيكي في كتابه “لماذا تُلعب كرة القدم 11 ضد 11: مائة سؤال وجواب عن تاريخ ولوائح كرة القدم” إلى فترة بعيدة في الزمن. يدلل بيرنيكي على رأيه بالمشهد الرابع من الفصل الأول في مسرحية “الملك لير”، التي قدَّمها ويليام شكسبير عام 1608م، حين يُهمِّش أحد شخصيات العمل، وهو “إيرل أوف كينت”، خادمه أوزوالد بوصفه بعبارة “لاعب كرة القدم السوقي”.

مع ذلك، ظهر كتَّاب ومثقفون عالميون أظهروا ولعهم بكرة القدم، بل وخلدوها في أعمالهم، فيما ذهب آخرون إلى ما هو أبعد من هذا وكتبوا ما يعرف باسم “أدب كرة القدم”، وهو تيار أدبي وُلد تحديدًا في الأرجنتين.

خوان ساستوريان

يقول خوان ساستوريان، وهو كاتب وصحفي وناقد أرجنتيني، في مقال نُشر في العاشر من أبريل عام 2012م في موقع “باخينا 12” الأرجنتيني عن كرة القدم أنها مجرد موضوع آخر، يمكن أن يُقدم في صورة أدب جيد، أو صورة أدب يُلقى في القمامة.

ولما كان المونديال هو أعظم موضوع يُمكن تناوله في كرة القدم وأقوى صورة للتعبير عن الشغف والسعادة والفن والموهبة من ناحية، والمعاناة والصراع والشجن والإثارة من ناحية أخرى، وكلها مقومات يُمكن للكاتب الجيد أن يصنع منها أدبًا جيدًا، وللكاتب السيئ أن يصنع منها أدبًا يُلقى في القمامة، كان لا بُد لكأس العالم أن يظهر في عوالم الأدب السردية من رواية وقصة.

سانتياغو رونكاغليولو
رواية أشد الألم

تُعد رواية “أشد ألم” للكاتب البيروفي سانتياغو رونكاغليولو، الذي فاز بجائزة “ألفاغوارا” العريقة عام 2014م عن روايته “أبريل الأحمر”، من أبرز الأعمال الأدبية التي ظهر فيها المونديال، لا كخلفية تاريخية للعمل فحسب، وإنما كتقنية سردية وأحد شخوصه. تبدأ هذه الرواية التي تحبس الأنفاس بمقتل شخص وجب عليه أن يسلم طردًا في شوارع العاصمة ليما الخالية أثناء أول مباراة لمنتخب بيرو في كأس العالم عام 1978م في الأرجنتين. يسعى صديقه الموظف المثالي في وزارة العدل والكاره لكرة القدم إلى كشف الحقيقة وملابسات كل ما حدث. يُعنون رونكاغليولو كل فصل في الرواية باسم واحدة من مباريات منتخب البيرو في البطولة. كشف المؤلف عبر الأحداث التي تظهر فيها كرة القدم في كل الفصول كخلفية مثالية نقائص وعيوب المجتمع البيروفي في تلك الحقبة. 

في عالم القصة القصيرة، لا يوجد مثال أفضل من قصة “نعم لمارادونا.. لا لغالتييري”، التي كتبها المؤلف الأرجنتيني أوسبالدو سوريانو وخلدت ذكرى هدف مارادونا الرائع بيده في مرمى إنجلترا في مونديال المكسيك عام 1986م وهدفه الآخر الذي راوغ فيه أغلب لاعبي منتخب “الأسود الثلاثة” وجنون الشارع الأرجنتيني أثناء وبعد المباراة، خاصة في ظل العداء والشحن السياسي الكبير بين البلدين آنذاك بسبب حرب جزر مالبيناس، التي تُعرف أيضًا باسم فوكلاند.

لكن ارتباط المونديال بعالم الأدب ليس مقصورًا على هذا فحسب، إذ إن بعض المبادرات ذهبت إلى مناطق لا يتخيلها أحد. لدينا مثلًا ما حدث بالتزامن مع كأس العالم 2014م في البرازيل في الفترة بين 12 يونيو و13 يوليو، حينما أقدمت جامعة روشيستر الأمريكية على تنظيم مونديالٍ أدبيٍّ موازٍ. عُرفت المسابقة باسم World Cup of Literature وشارك فيها 32 عملًا أدبيًّا تمثل المنتخبات المشاركة في المونديال، أمام لجنة تحكيم مكونة من قراء روائيين متمرسين عينها المنظمون.

وشائج الأدب والكرة المستديرة تكشف عن نفسها في المونديال الأدبي الموازي الذي نظّمته جامعة روشيستر الأمريكية على هامش مونديال البرازيل عام 2014م.

جرت فعاليات المسابقة وفقًا لشكل يلتزم ببنية مسابقة كأس العالم، بنظام المجموعات وأدوار ثمن النهائي وربع النهائي ونصف النهائي والنهائي. كان أبرز الأشخاص الدافعين لهذه المبادرة هو تشاد دابليو بوست، مدير دار نشر “أوبن ليتر”، التابعة للجامعة العريقة التي تأسست في 1850م، الذي يُعَدُّ شريكًا في تأسيس وإدارة مبادرة Reading The World التي تضم ناشرين وأصحاب مكتبات مستقلين يسعون لنشر قراءة الأدب العالمي.

وشهدت “المباراة النهائية” للمونديال الأدبي الموازي مواجهة لاتينية خالصة جمعت بين التشيلي روبرتو بولانيو بتمرسه وخبرته وأسلوبه الخاص في رواية “ليل تشيلي” والمكسيكية فاليريا لويزلي بسردها المتدفق وأصالتها في رواية “معدومو الثقل”، وكان الفوز فيها من نصيب الروائية المكسيكية.

كأس العالم كمادة سينمائية

على عكس الأدب، لم تشهد العلاقة بين عالم السينما والأفلام وكرة القدم أي شد وجذب سلبي، بل يُمكن القول إن علاقة الطرفين سادها الوئام دائمًا. لهذا فإن ظهور المونديال في أفلام متنوعة ليس أمرًا غريبًا.  وبطبيعة الحال، تتنوع أشكال هذا الظهور؛ فقد يكون هامشيًّا أو عنصرًا لا غنى عنه، بل وفي أحيان أخرى محورًا للعمل نفسه. ولعل أشهر الأعمال السينمائية العالمية التي ظهر فيها المونديال عنصرًا أساسًا هو فِلم “معجزة بيرن” من إخراج سونكه وورتمان وبطولة لويس كلامروث، وبيتر لومير، ويوهانا غادستروف.

يضع فِلم “معجزة بيرن” كرة القدم في قلب الحياة الأسرية، حيث تتقاطع العلاقة بين الابن ووالده مع علاقة كل منهما بكرة القدم.

تدور أحداث الفِلم بالتزامن مع انطلاق مونديال 1954م في سويسرا، وإقدام الاتحاد السوفيتي على الإفراج عن أسرى الحرب، ومن ضمنهم ريتشارد، والد ماتياس، الطفل صاحب الأحد عشر ربيعًا الذي يعشق كرة القدم ويعيش مع أمه وأشقائه في إحدى مدن ألمانيا الشرقية. خلال سنوات الحبس، اعتبر الابن اللاعب هيلموت ران في مقام والده، فردَّ نجم المنتخب على الأمر بوضعه تحت حمايته. لدى عودة ريتشارد، بعد أن حطمته سنوات الأسر، تسوء أحوال العائلة الهادئة بسبب عجزه عن التأقلم. وسط كل هذا، سيبدأ مونديال سويسرا في بيرن. بينما ينتظر ماتياس هذا الحدث بكل شغف، لا يفهم ريتشارد أسبابه لأنه ليس مهتمًّا بكرة القدم بأي صورة.

من ضمن الأعمال السينمائية الأخرى التي ظهر فيها المونديال بقوة، الفِلم الأمريكي The Game of Their Lives أو “مباراة عُمرهم”، الذي عُرض في 2005م، من إخراج ديفيد أنسبو، وبطولة ويس بينتلي وجيرارد باتلر وجاي جوردان، ضمن آخرين.

تدور أحداث الفِلم، المستوحى من أحداث حقيقية، في 1950م حين يتلقى منتخب الولايات المتحدة الأمريكية دعوة للمشاركة في كأس العالم لكرة القدم في البرازيل. حدث هذا على الرغم من أنه لا يوجد منتخب أمريكي رسمي وفي ظل عدم وجود ميزانية. تجد الحكومة نفسها مُجبرة على تكوين فريق قوامه مجموعة من الشباب من سانت لويس بولاية ميزوري للعب كأس العالم، فكيف ستكون أحوال هؤلاء الفتية وهم يواجهون أفضل منتخبات ولاعبي العالم؟

من ضمن الأعمال الأخرى التي لعب فيها المونديال دورًا فِلم Golpe de estadio الكولومبي أو “انقلاب في الملعب”، الذي عُرض في 1999م، وهو من إخراج سرخيو كابريرا وبطولة إيما سواريث وراؤول سيندير ونيكولاس مونتيرو.

تدور أحداث الفلم في قرية بوينابيستا الكولومبية الصغيرة التي يعشق سكانها كرة القدم، لكنها كحال كثير من القرى الكولومبية في تلك الفترة لا تزال تشهد صراعًا حربيًّا وفكريًّا وإيديولوجيًّا بين الجيش والفصائل المتمردة، غير أن مسار الصراع يتغير فجأة بين الطرفين حين تنقطع التغطية التليفزيونية عن القرية. هكذا، يقرر الجنود والمتمردون “وقف إطلاق النار” إلى حين الانتهاء من حل المشكلة، بل ويتحد الطرفان من أجل هدف واحد: تشجيع المنتخب الكولومبي في كأس العالم.

لدينا في العالم العربي، عمل سينمائي يعرفه الكل غالبًا ويرتبط بالمونديال. صحيح أن أحداثه لا تدور بالتزامن مع إحدى نسخ البطولة، لكن ترتبط لحظة الذروة فيه بتحقيق البطل لحلمه بتأهل المنتخب المصري لكأس العالم. نتحدث بالطبع عن فلم “العالمي”، الذي عُرض في 2009م، وهو من إخراج أحمد مدحت وبطولة يوسف الشريف وصلاح عبدالله وأروى جودة، ضمن آخرين.

اللافت للنظر في هذه الأمثلة البسيطة أنه على الرغم من ظهور كأس العالم أو حلم التأهل إليه كمحرك رئيس أو ثانوي للأحداث، فإن الأعمال استخدمته كمنصة للوثب نحو قضايا أخرى، ففي “معجزة بيرن” نرى قضية أسرى الحرب وتأقلمهم مع الحياة الجديدة، وفي “مباراة عمرهم” نُشاهد القدرة الأمريكية على الحشد والتكوين، وفي “انقلاب في الملعب”، نرى قضية النزاع الكولومبي الخطيرة مع الجماعات المتمردة، على الرغم من سذاجة الطرح نوعًا ما، فيما نشاهد في “العالمي”، نقدًا للطبقة المتوسطة وشخصية الأب المسيطر داخل بناء تراجيدي جيد بصورة كبيرة.

أنغام مونديالية وتمائم

ينظر الكثير من عشاق كرة القدم إليها بصفتها عرضًا فنيًّا. المدرب هو قائد الأوركسترا واللاعبون هم أفرادها الذين يعزفون مقطوعته بأقدامهم. يا حبذا لو وصل الأمر إلى الذروة بأن تقرع كرة أو اثنتان العارضة أو القائم، فتجأر صرخات الجماهير ويبكي بعضهم تأثرًا. وماذا لو رأوا جملة تكتيكية تصاعد فيها النسق كنغمات تعتلي السلم الموسيقي قبل أن تعانق الكرة الشباك كأفضل خاتمة للسهرة؟

العلاقة بين كرة القدم والموسيقى قائمة منذ فترة كبيرة في عالم المجاز، وثمة تشبيهات وتوصيفات كثيرة ربطت بين العالمين، أما على أرض الواقع فقد نشأ في 1962م رابط وثيق يجمع بين المونديال وعالم الموسيقى والأغاني وظل ممتدًّا حتى أيامنا هذه.

بينما كانت تشيلي تستعد لاحتضان كأس العالم في نسخة عام 1962م، قرر فريق “لوس راملبرز” الموسيقي تأليف أغنية “روك” لدعم المنتخب صاحب الضيافة وأُطلق عليها مُسمّى “روك المونديال”. قُدّمت هذه الأغنية أولًا في النسخة الثالثة من مهرجان بينيا ديل مار الغنائي، وصدرت رسميًّا للمرة الأولى في مايو 1962م، قبل أسابيع قليلة من انطلاق البطولة. حظيت الأغنية بنجاح ساحق على الفور في تشيلي وصارت فجأة موسيقى تصويرية لأي شيء يرتبط بالبطولة محليًّا، إذ بُثت كلما تقدم الفريق صاحب الضيافة في البطولة التي حل فيها ثالثًا. بعد ذلك، حصلت هذه الأغنية على اعتراف ضمني بوصفها أول أغنية ترتبط بمونديال كرة القدم.

شهدت النسخة اللاحقة في إنجلترا ظهور أول تميمة للمونديال واسمها “وورلد كب ويلي”، ومعها ظهرت أغنية بنفس الاسم غناها لوني دونيجان. كانت هذه أول أغنية تُكتب خصيصًا داخل عملية تنظيم البطولة ككل. مع ذلك، لم تحظ باستقبال جيد وأصبحت سريعًا في طي النسيان.

في النسخ اللاحقة ظهرت أغان رسمية ذات طابع كلاسيكي، ربما تشبه الأوركسترا مع إدراج بعض العناصر الموسيقية المحلية مثل موسيقى الـ”رانتشيرا” المكسيكية الريفية، كما حدث في مونديال المكسيك عام 1970م أو الـ”باسودوبلي” الإسبانية بصوت التينور الشهير بلاثيدو دومينغو في مونديال إسبانيا 1982م.

أما مونديال 1978م في الأرجنتين فقد شهد سابقة نوعية، حينما تمكن المنظمون من ضمان التعاقد مع الملحن الإيطالي الشهير إينيو موريكوني، لتصبح هذه أول مرة يُشارك فيها فنان معروف عالميًّا في تحضير الموسيقى الرسمية لكأس العالم. لم يحظ عمل موريكوني بنجاح كبير على الصـعيد المحلي، كما أنه أُذيع قبل عشرين يومًا فقط على المباراة الافتتاحية. مع ذلك، تمكنت أغنية محلية ذات طابع عسكري لحنها مارتين داريه وتُعرف شعبيًّا باسم “موسيقى الخمسة وعشرين مليونًا” من تحقيق انتشار ونجاح أكبر، خاصة أنها عظَّمت من الوطنية الأرجنتينية داخل إطار البروباغاندا التي مارستها الديكتاتورية العسكرية آنذاك.

لكن إن أردنا حقًّا التحدث عن الطفرة العالمية في العلاقة بين الموسيقى والمونديال، فلا شك أن مونديال فرنسا 1998م سيتبادر إلى ذهن الجميع وأغنية La copa de la Vida أو “كأس الحياة” للمطرب البورتوريكي ريكي مارتن. أما التفجر فمثلته أغنية “واكا واكا” للمطربة الكولومبية شاكيرا في مونديال 2010م في جنوب إفريقيا. ولعل مما أسهم في انتشار هذه الأغنية وذيوعها وشعبيتها استخدام الإنترنت بصورة أكبر من أي وقت مضى ووجوده في متناول الجميع، وبالمثل تنوع منصات التواصل الاجتماعي.

بخلاف أنغام أغنيات أو موسيقى المونديال، سواء أكانت رسمية من قبل المنظمين، أم غير رسمية من قبل رعاة أو مطربين محليين، فثمة مجموعة من الأهازيج الجماهيرية التي اشتهرت بفضل المونديال، خاصة خلال النسخ الأخيرة، رغم كل الفوارق اللغوية، والسبب في هذا بكل تأكيد الانتشار الذي تُحققه وسائل التواصل الاجتماعي.

الحديث هنا عن الجماهير الأرجنتينية وأهزوجة Brasil decime qué se siente التي ظهرت في مونديال 2014م الذي احتضنته البرازيل. تستوحي الأهزوجة لحنها من كلمات أغنية Bad Moon Rising لكريدينس كيلرووتر ريفافال، ورددها المشجعون قبل وأثناء وبعد مباريات منتخب “راقصي التانجو”. تُحيي الأهزوجة ذكرى انتصار الأرجنتين على البرازيل في مونديال إيطاليا 1990م في ثُمن نهائي البطولة بالهدف الذي سجله كلاوديو كانيجيا “كاني” وتعتبر أن مارادونا أفضل من بيليه. فور ظهور مقاطع مصورة للجماهير وهي ترددها، سارعت كل وسائل الإعلام الرياضية العالمية بنشرها وترجمتها، لهذا ليس غريبًا أن تجد عاشقًا عربيًّا للمنتخب الأرجنتيني يعرف معنى كلماتها التي تقول:

“قولي لي يا برازيل

ما هو شعور

أن يكون أبوكِ في البيت

أقسم لكِ إننا لن ننسى

مهما مرت السنوات

أن دييجو رواغكِ

وأن كاني لدغكِ

وأنكِ تبكين منذ إيطاليا حتى اليوم

سترين أن ميسي

سيجلب لنا الكأس

وأن مارادونا أفضل من بيليه“.

بلاثيدو دومينغو
إينيو موريكوني

المونديال في ملاعب السياسة

يقول الكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو: “تتقيد كرة القدم بالوطن دائمًا ويتلاعب السياسيون والديكتاتوريون دائمًا بروابط الهوية بينهما”؛ ولأن المونديال هو الحدث الأهم في لعبة الكرة القدم، حدث أكثر من مرة أن فرضت السياسة نفسها على كأس العالم.

الأمثلة في هذا الصدد كثيرة، ومنها القديم والمعاصر، وإن أراد المرء أن يسردها كلها، فقد يحتاج إلى تأليف كتاب كامل، ولهذا سنورد بعضًا منها فقط من فترات تاريخية متنوعة.

لم يكن مونديال 1934م بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإيطالي بينيتو موسوليني مجرد بطولة تحتضنها بلاده، وإنما كانت “شأنًا سياديًا”، كما يصف الكاتب والصحفي والمؤرخ الرياضي الإسباني ألفريدو ريلانيو الأمر في كتابه “مونديالات كثيرة.. قصص أكثر”؛ فقبل عدة أيام من انطلاق البطولة، اجتمع موسوليني مع مدرب المنتخب الإيطالي فيتوريو بوتسو وحذره قائلًا: “أنت المسؤول الوحيد عن النجاح، لكن ليساعدك الرب إذا انتهى الأمر بفشلك”. امتد التهديد بالمثل إلى لاعبي الفريق، وفقًا للصحفي الرياضي الأرجنتيني لوثيانو بيرنيكي في كتابه “أغرب الحكايات في تاريخ المونديال” حين قال لهم: “إما الفوز أو الصمت التام”. هكذا حذرهم وهو يمرر سبابته بعرض عنقه أثناء وليمة غداء جمعتهم لغرضٍ مفترضٍ هو “تعزيز الصداقة”!

لم يعتبر موسوليني المونديال مجرد منافسة رياضية، بل فرصة مثالية لإظهار القوة الفاشية للعالم بأكمله. أراد أن تُسهم كل الأمور في تحقيق مسعاه، إلى درجة أن المنتخب ضم أربعة لاعبين أرجنتينيين هم لويس فيليبي مونتي ورايموندو أورسي وإنريكي غوايتا وأتيليو ديماريا ولاعبًا برازيليًا هو أمبيلوكيو ماركيس، الذي غير اسمه إلى أنفيلوينو غواريسي. لم يقتصر الأمر على هذا فحسب، إذ حصلت الملاعب على أسماء تتناسب مع هذا المسعى، فأصبح ملعب روما، المعروف اليوم باسم “الأوليمبيكو”، هو “ملعب الحزب الوطني الفاشي”.

وحين نقفز في آلة الزمن إلى يوليو 1969م، سنرى كيف استخدم قادة سياسيون وعسكريون كرة القدم مرة ثانية لتحقيق أهداف فاسدة. كانت العلاقة بين هندوراس والسلفادور متوترة وقائمة على الشد والجذب لعدة سنوات، ولما وجب على الفريقين أن يتواجها في التصفيات المؤهلة إلى مونديال المكسيك 1970م، صارت هناك حجة جاهزة لإشعال نزاع مسلح.

بدأت طبول “حرب كرة القدم” تُقرع في الثامن من يونيو حين فازت هندوراس في عاصمتها تيغوثيغالبا بهدف نظيف على السلفادور. بعدئذٍ بأسبوع فازت السلفادور بثلاثة أهداف نظيفة دون رد، في مباراة شهدت وقوع مجموعة من الحوادث في المدرجات بين جماهير المنتخبين. ووفقًا لعدة مراجع تاريخية متنوعة، ضخمت وسائل الإعلام الهندوراسية ما حدث بطلب من رئيس هندوراس أوسبالدو لوبيث أوريانو، الذي استغل الوضع ليلمس الوتر الحساس لسبب العداء الرئيس بين الأمتين، ألا وهو الهجرة المستمرة للسلفادوريين الباحثين عن عمل على الجانب الآخر من الحدود. بدأ لوبيث أوريانو حملة قومية قوية عبر وسائل الإعلام وحينما اشتعل ثقاب عداء الأجانب أمر بمصادرة أملاك السلفادوريين المقيمين في بلاده وإعادة توزيع أراضيهم وممتلكاتهم على المزارعين المحليين. 

ازداد الوضع توترًا، خاصة حينما فازت السلفادور على هندوراس بثلاثة أهداف لاثنين في مباراة الإعادة الحاسمة التي لُعبت في السابع والعشرين من يونيو في مدينة مكسيكو. في الرابع عشر من يوليو عبَرَ الجيش السلفادوري الحدود للدفاع عن مواطنيه ووصل إلى أبواب تيغوثيغالبا، لكن التدخل السريع لمنظمة الدول الأمريكية جعل النزاع المسلح ينتهي بعد خمسة أيام فقط، غير أن المعارك التي شهدتها تلك الفترة أسفرت عن حصيلة مؤسفة من القتلى قوامها أربعة آلاف شخص.

لم تنفصل نسخة كأس العالم 1978م في الأرجنتين عن الإطار السياسي المُظلم، في البلد آنذاك. ولا يوجد مثال أكثر رعبًا من أن أحد أكثر مراكز الاعتقال السرية دمويةً كان موجودًا في كلية الميكانيكا التابعة للبحرية الأرجنتينية على بعد عدة أمتار من ملعب “إل مونومنتال”، الذي احتضن عددًا من مباريات هذه النسخة، وأبرزها النهائي. 

أثار هذا الوضع استياء عدد من الدول الأوروبية، كما تخبرنا عديد من كتب التاريخ الكروية والمراجع الصحفية، فطالبت بمقاطعة المونديال. على سبيل المثال، يقول كتاب “أغرب الحكايات في تاريخ المونديال”، إن الحزب العمالي الهولندي طالب المنتخب الوطني بعدم الاشتراك في البطولة، لكن الحكومة نفسها اعتبرت أن المقاطعة لن تغير من انتهاك حقوق الإنسان في الأرجنتين، وقالت: “يجب علينا أن نستغل بطولة العالم للتعريف بما يحدث في هذا البلد”. وطالبت قيادات أخرى في منظمات تدافع عن حقوق الإنسان بنقل المسابقة لتُلعب في البرازيل. وعلى الرغم من أن منتخب “الطواحين” أقدم في النهاية على خوض مبارياته، فإن هذا الأمر جاء في ظل غياب عدد من أهم لاعبيه، ومن ضمنهم يوهان كرويف.

بالنسبة إلى التاريخ الحديث، فأقرب مثال لدينا على تداخل السياسة مع المونديال، ما حدث بعد الغزو الأوكراني لروسيا، فعلى الرغم من أن فيفا يفضِّل دائمًا الوقوف على الحياد في أي قضايا ذات طابع سياسي، قرر في النهاية إيقاف المنتخب الروسي عن المشاركة في كل مسابقاته، ومن ضمنها بالطبع التصفيات المؤهلة إلى مونديال قطر 2022م.

في تلك الأثناء، كان “الدب الروسي” قد وصل إلى الملحق الأوروبي لمواجهة بولندا، لكن مع إيقافه تأهل البولنديون تلقائيًّا إلى المرحلة التالية في الملحق حيث واجهوا السويد وانتزعوا منها بطاقة الوصول إلى قطر 2022م.

المونديال والاقتصاد

مع كل نسخة من كأس العالم، يتساءل خبراء في مجال الاقتصاد ما إذا كان ثمة علاقة بين الأداء الاقتصادي والأداء الكروي للدول المشاركة. يدور السؤال في فلك واحد غالبًا: ماذا يحدث لاقتصاديات الدول التي تتوج باللقب؟

يقول الخبير الاقتصادي الأرجنتيني سباستيان كامباناريو في كتابه “اقتصاد الغرائب” إن محللين في مصرف “إتش إس بي سي” أشاروا إلى أن مؤشر البورصة المشترك لكل الدول التي فازت ببطولة كأس عالم منذ 1966م تخطى المتوسط العالمي بنسبة %9، فيما يشير مقال كتبه الخبيران ديفيد ساندز وناتالي ماليك في “ذي واشنطن بوست” إلى أنه منذ مونديال إيطاليا 1990م، حققت الدول الفائزة زيادة في إجمالي الناتج المحلي بنسبة %1.6 عن نتائجها الطبيعية. لهذا اعتبرا أن أمرًا مثل هذا قد يقودنا إلى التفكير في ما إذا كان ثمة تأثير إيجابي للتتويج بالمونديال، سواء ارتبط الأمر بتحسن المشاعر أو تحسن التطلعات فيما يتعلق بالاستهلاك.

تناولت بوابة “تشاكيادو” الأرجنتينية هذا العام الملف بصورة عميقة، وذكرت أنه بعد تتويج إيطاليا بمونديال ألمانيا 2006م انتقلت من نمو بنسبة %0.1 إلى نمو بنسبة %1.9 في العام التالي، وهذا وفقًا لدراسة أجرتها شركة “أي إن جي” الاستشارية، لصالح اللجنة المنظمة لمونديال جنوب إفريقيا 2010م.

في حالة إسبانيا، وعقب مونديال 2010م، أجرى الباحثان خوان نيكولاو وأبهيناري شارما من مدرسة بامبلين للأعمال في جامعة “فيرجينيا تيك” بحثًا بعنوان “تعميم أثر كأس العالم”، خلصا فيه إلى أن كأس العالم 2010م أظهر أثرًا إيجابيًّا في سياحة الدولة الفائزة.

مع ذلك يستدرك كامباناريو: “على الرغم من أن الفوز بالمونديال قد يولِّد أثرًا إيجابيًّا في الاقتصاد، فإن الحديث عن وجود علاقة صريحة بين هذا الأمر وارتفاع إجمالي الناتج المحلي، ليس له أساس علمي”.

بالعودة إلى تقرير بوابة “تشاكيادو” الأرجنتينية، يظهر حوار أجراه القائمون عليها مع مدير مركز دراسات الاتحاد الصناعي الأرجنتيني بابلو دراغون قال فيه: “الأوضاع المادية أقوى من انتشاء الفوز بالمونديال. قد تنجح في تحريك الاستهلاك فقط. لا أكثر ولا أقل”.

بمعنى آخر، على الرغم من تحسن الأداء الاقتصادي، لا يوجد دليل مثبت حاسم على وجود علاقة بين الأمرين. لكن كما يقول ساندز وماليك في مقالهما، قد ترتبط المسألة بالطريقة النفسية التي قد تؤثر بها موجة الاعتزاز أو الفخر الوطني بعد الإنجازات الرياضية العظيمة على المستهلكين والمستثمرين.

يبدو الصحفي آلين سانت جون متفقًا مع هذا الأمر، كما قال في المقال الذي كتبه في مجلة “فوربس” في 2014م، إذ قال: “في الشهور التي تلي الفوز بالكأس، يبدو كأن هنالك دفعة للإنتاجية، يليها تراجع تدريجي، ربما لأن الناس يدركون بعدئذٍ أنه حتى التتويج بالمونديال لا يُمكن أن يحل مشاكل البلاد”.

يعزز ساندز ومالك هذه الفرضية، ويضيفان أنه على الرغم من زيادة إجمالي الناتج المحلي، يُمكن للمتابع الجيد أيضًا أن يرى أنه في النسخ الثماني الأخيرة من كأس العالم، قد تراجع إجمالي الناتج المحلي في العام الذي يلي الفوز، أو أنه قد تحسن بأدنى صورة ممكنة كما حدث مع إسبانيا في 2010م وألمانيا في 2014م.

لكن ما هو الأثر الاقتصادي المُثبت فعلًا للمونديال؟ أولًا، خلق فرص عمل في قطاعَي البناء والبنية التحتية قبل البطولة، لأن أغلب متطلبات فيفا تتعلق ببناء منشآت وتحسين البنية التحتية للدولة المضيفة، ما يعني بالتبعية زيادة الاستثمار في القطاعين، ومعهما زيادة فرص العمل فيهما قبل احتضان الحدث. بالنسبة إلى ثاني أثر اقتصادي مثبت فهو زيادة حركة السياحة، ودفع أعمال تجار التجزئة على المدى القصير، في ظل مجيء مشجعين أجانب من كل أنحاء العالم لحضور الحدث.

جزيرة اللؤلؤة في قطر.
أحد الآثار الاقتصادية المثبتة لكأس العالم يتمثل في زيادة فرص العمل في قطاعي البناء والمنشآت التحتية.

نوادر الكأس

بيليه يحمل الكأس الأولى من البطولة.

لكن ما هي قصة هذه الكأس التي يصبو إليها العالم كله وتتعلق بها أبصار أمهر اللاعبين؟ هل هناك نسخة واحدة منها أم أكثر؟ ما هي حكايتها بالضبط؟ ثمة كأس استُخدمت منذ 1930م حتى 1970م وسُميت في الأصل “فيكتوريا”، لكن اسمها تغير في 1946م ليصبح “كأس جول ريميه”، تكريمًا لأول رئيس لفيفا، وصاحب الفضل الأكبر في تنظيم أول مونديال. صمم هذه الكأس الأولى النحات الفرنسي أبيل لافلور وظهرت فيها إلهة النصر الإغريقية وهي تمسك بوعاء بين يديها، وكانت مصنوعة من الفضة الخالصة المكسوة بالذهب، وقاعدة من أحجار اللازورد.

لا تُعدُّ قصة هذه الكأس عادية، إذ تعرضت على مر التاريخ إلى مجموعة من الحوادث المتنوعة، فخلال الحرب العالمية الثانية اضطر نائب رئيس فيفا ورئيس الاتحاد الإيطالي لكرة القدم أوتورينو باراتسي أن يأخذها من المصرف الذي احتُفظ بها فيه لحمايتها من النازيين، بل إنه أخفاها في علبة أحذية تحت فراشه طوال السنوات التي استمر فيها النزاع. حين جاء عام 1946م وبعد قليل من انتهاء النزاع، تيقن من أن الكأس ستنجو وأعادها إلى فيفا كي يتمكن الاتحاد من استخدامها في كأس العالم 1950م.

لا تتوقف نوادر الكأس العجيبة، ففي 1966م سُرقت أثناء معرض في لندن، ومع ذلك عُثر عليها بعد بضعة أيام وهي ملفوفة في ورقة جريدة تحت إحدى الأجمات في جنوب المدينة من قبل كلب اسمه بيكلز. تحوّل هذا الكلب إلى نجم على الصعيد الوطني هو وصاحبه ديفيد كوربيت. خضعت الكأس بعد ذلك إلى تأمين فوق العادة حتى سلمتها الملكة إليزابيث إلى قائد المنتخب الإنجليزي بوبي مور في 11 يوليو 1966م حينما فاز الإنجليز على الألمان وصاروا أبطالًا للعالم للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن.

الكلب بيكلز نجمًا موندياليًا عندما عثر على الكأس المسروقة.

في النسخة التالية، أي في 1970م، توجت البرازيل بالمونديال للمرة الثالثة في تاريخها، لهذا أصبح من حقها وفقًا للوائح أن تحتفظ بالكأس إلى الأبد. مع ذلك، وفي 20 ديسمبر من عام 1983م سُرقت كأس جول ريميه من مقر الاتحاد البرازيلي لكرة القدم، ولم يرها أحد منذ ذلك الحين. 

ثمة اعتقاد سائد بأنها صُهرت وبيعت، لكن بين الحين والآخر تظهر شائعات بأنها ربما كانت موجودة ضمن مجموعة فنية لأحد هواة الاقتناء. على أي حال، تقرر تصنيع نسخة مماثلة لها وسُلّمت إلى الاتحاد البرازيلي لكرة القدم.

المهم أن فيفا بعد نسخة 1970م صار في حاجة إلى كأس جديدة بعد أن تقرر احتفاظ البرازيل بكأس جول ريميه إلى الأبد. فتح الاتحاد الدولي الباب لتلقي المقترحات، فحصل على طلبات من 53 نحاتًا من سبع دول. استقر فيفا في النهاية على سيلفيو جاتسانيجا لتصميم الكأس الجديدة، وكلف بيرتوني ميلانو، وهو مُصنع جوائز وميداليات من مدينة ميلانو الإيطالية، بهذه المهمة. يعرف الكل بالطبع شكل التصميم: شخصان يُمسكان الكرة الأرضية فوق رأسيهما. يبلغ طول هذه الكأس 36.8 سنتيمتر ووزنها 6 كيلوغرامات و175 غرامًا، وهي مصنوعة من 18 قيراطًا من الذهب.

تحتوي قاعدة الكأس على مكان منحوت عليه عبارة FIFA World Cup، وبعد كل مونديال يُنحت اسم الفائز وسنة الفوز، بلغة الدولة الفائزة. يسمح التصميم بنحت 17 اسمًا فقط من 1974م وحتى 2038م، ولهذا سيتوجب صنع كأس جديدة لكأس العالم 2042م.

سيلفيو جاتسانيجا، مصمم الكأس الجديدة.

من ضمن المعلومات الطريفة المرتبطة بهذه الكأس، كما يقول أستاذ الكيمياء بجامعة نوتنغهام مارتين بولياكوف، أن الكأس على الأرجح جوفاء من الداخل لأن كأسًا من الذهب الصلب، لا بُد أن يصل وزنها إلى 70 كيلوغرامًا.

ثمة معلومة طريفة أخرى وهي أنه بعد كل ما حدث لكأس جول ريميه، قرر فيفا تغيير اللوائح، ولم يعد من حق الفرق الفائزة أن تحتفظ بالكأس مهما كان عدد المرات التي فازت فيها بها. بهذه الطريقة، يتلقى اتحاد كرة قدم الدولة الفائزة نسخة برونزية مطلية بالذهب، فيما تظل الكأس الأصلية في حوزة فيفا، الذي يحتفظ بها في متحف كرة القدم العالمية في مدينة زيورخ السويسرية، ولا تغادر مكانها إلا من أجل الجولة التي تنفذها قبل كل نسخة من المونديال، وبالمثل تظهر في قرعة البطولة، والمباراتين الافتتاحية والنهائية.


مقالات ذات صلة

ماذا لو لم يكن البَقر موجودًا في هذا العالم؟
الجواب هو: لكان العالم بتاريخه وحاضره غير العالم الذي نعرفه.

ولماذا اللون الأخضر؟
ألأنه جميل؟
نعم، إنه جميل، ولكنه أكثر من ذلك بكثير.

في هذا الملف، نذهب إلى جولة في رحاب الكون، لاستطلاع بعض ما نعرفه عن هذه الأجرام السماوية الجميلة، وعن حضورها الآسر في الثقافة والعلوم، ودورها في تطوير الحضارة الإنسانية.


0 تعليقات على “الملف: كأس العالم”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *