كم من مواهب برزت وأذهلت العالم في مراحل حياتها الأولى، ثم سرعان ما ضعفت همتها حين لم تجد من يأخذ بيدها، أو حين غاب عنها الدأب وامتلاك الهمة، ولم تلبث أن خفتت وتلاشت وتاهت في زحمة الحياة والأحداث؟
يقودنا استحضار هذا المشهد السوداوي والمتكرِّر، إلى إدراك أهمية تقدير أصحاب المواهب والبحث عنهم واكتشافهم وتمكينهم، وحقيقة أن ذلك يُعدّ نتيجة ضرورية وحتمية لمرحلة التطور التي تمر بها المجتمعات والدول والأمم على اختلافها.
في حين أن الموهوبين لا يمكن إيجادهم في أي مكان على وجه المعمورة عن طريق المصادفة فقط؛ لأن المصادفات لا تصنع المعجزات، بل لابد من البحث عنهم بشكل دقيق وصادق، يظهر جلياً عند تتبع حياة الموهوبين الذين أبهروا العالم، أن موهبتهم لم تظهر فجأة، لكنها مرَّت عبر منظومة عمل تملك إرادة الفعل، بدءاً من الاكتشاف إلى الرعاية إلى التمكين، لذا من الأهمية بمكان أن يتركز البحث عن الموهوبين في كل بقعة وزاوية، ثم متابعتهم وتمكينهم.
و”الموهبة” بحسب المعاجم اللغوية المختلفة، هي القدرة أو الاستعداد الفطري لدى الفرد، وهناك آراء متعدِّدة بشأن تعريفها تربوياً واصطلاحياً، وقد نجد صعوبةً وتشعّباً وخلطاً بين مفاهيم “الموهبة” وغيرها، مثل العبقرية والإبداع والابتكار والتفوّق والتميّز والذكاء… أما فيما يخص الموهوب فكثير من الباحثين والعلماء اتفقوا على أنه مَنْ يمتاز بالقدرة العقلية التي يمكن قياسها من خلال القدرة على التفكير والاستدلال، القدرة على تحديد المفاهيم اللفظية والقدرة على إدراك أوجه الشبه بين الأشياء والأفكار المماثلة، والقدرة على الربط بين التجارب السابقة والمواقف الراهنة.
ولعلّي هنا أمر سريعاً على تاريخ وتطوّر اكتشاف الموهبة والاهتمام بها عبر مراجع علمية عديدة متنوِّعة، ففي عصر النهضة الأوروبي، على سبيل المثال، الذي تأثر تأثراً كبيراً بعلم الجماليات، ومنها الفنون الراقية التي تجلّت في الهندسة المعمارية للكنائس والمباني والمتاحف، نجد أنها أخرجت موهوبين مبرّزين في مجالاتهم، أمثال ميكائيل أنجلوا، ليوناردو دافينشي، روفائيل، بوكاشيو، ودانتي..
أما العناية بالموهوبين في التاريخ المعاصر واكتشافهم بصورة منهجية علمية، فقد بدأت تظهر عام 1869م مع فرانسيس جالتون الذي ألَّف كتاب وراثة العبقرية (Heredity Genius)، وأسس عيادة في لندن يقيس فيها حدَّة الحواس وإيجاد العلاقة بينهما وحجم الأسس وبعض الخواص الأخرى والأصول العرقية، أتى بعده جيمس كاتال الذي ألَّف مقياساً لقياس القدرات العقلية، وفي عام 1920م استمر عن طريق إسهامات تيرمان في أبحاث التفوق العقلي والابتكار، وصولاً لبرامج لتربية الموهوبين والمبدعين مثل برامج “أستور” للأطفال المبدعين، الذي يستهدف إعطاء الأطفال المبدعين برامج خاصة من خلالها إشباع احتياجاتهم النفسية، ثم أعقبها تأسيس الجمعية الأمريكية للأطفال الموهوبين عام 1947م.
كما تطوَّرت الأبحاث والدراسات التي اهتمّت بالموهوبين واكتشافهم في الولايات المتحدة الأمريكية، وصولاً إلى 1259 بحثاً في عام 1965م، كما ازدادت ميزانية الإنفاق على البرامج التربوية الخاصة بالموهوبين بين عامي 1964-1968م بنسبة 94%، واهتم المتخصِّصون بتوفير أساليب الرعاية التربوية المناسبة للموهوبين سواء في مدارس خاصة بهم ببرامج خاصة لبعض الوقت من اليوم الدراسي، وصولاً اليوم إلى “الاتحاد القومي للناشئة الموهوبين” (NAGC)، حيث يتعاون هذا الاتحاد مع “مجلس مديري برامج الموهوبين في الولايات” (CSDPG)، ويقومان معاً بإصدار تقرير دوري حول “حالة تعليم الموهوبين في الولايات”.
أما فرنسا فكانت تجربتها ريادية على مستوى أوروبا، حيث قد بدأت بالعالِم “بينيه” الذي وضع أول اختبار للذكاء متضمناً استخدام العمر العقلي، وبذلك مهَّد الطريق للبحث في مجال الموهوبين وفي عام 1971 تأسست جمعية وطنية للأطفال المتفوقين عقلياً وبدأت وزارة التربية الفرنسية في اكتشاف الموهوبين بالتخطيط لبعض البحوث الخاصة بذلك.
وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي كافةً كان تأسيس مؤسسة تعنى رعاية الموهوبين تعرف باسم “المجلس الأوروبي للإمكانات المتميزة” (ECHA) الذي بدأ عام 1988م، ومنها انطلقت تجربة بريطانيا في اكتشاف المواهب عام 1989م، عندما تم تعيين أكثر من 100 موجِّه تعليمي لاختيار الوسائل والطرق المناسبة لتطبيق المنهج الوطني للمتفوقين.
أما على مستوى العالم العربي، فهناك تجارب تركِّز على شريحة الموهوبين، ولكنها محدودة التجربة والمنجز، سواء عبر وزارات التربية والتعليم، أو من خلال الجامعات، أو عبر مراكز متخصِّصة، مثل مؤسسة حمدان بن راشد في الإمارات، ومركز صباح الأحمد للموهبة في الكويت.
وفي لحظة صار الجميع فيها يدرك أن ازدهار الأمم يعتمد على تمكين العقول الموهوبة والمبدعة التي تقود وتشكّل المستقبل؛ كانت رسالة مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع “موهبة” في المملكة العربية السعودية ماضية في تحقيق ذلك، متحملةً مسؤوليتها العالمية تجاه اكتشاف وتأهيل وإعداد أجيالٍ مبدعة خلاّقة واستثنائية، من خلال امتلاكها البرنامج الأكثر شمولية في اكتشاف ورعاية وتمكين الموهوبين على مستوى العالم، عبر رسالتها المستندة على بناء منظومة تعزيز الشغف لبناء قادة المستقبل، ورؤيتها في تمكين الموهبة والإبداع، كونهما الرافد الأساس لازدهار البشرية، وصولاً إلى استراتيجياتها التي وضعت بمنهجيةٍ ووفق أسس علميّة لضمان بناء شراكات حقيقية وذات مردود عالي الجودة، نتج عنه في تاريخها أكثر من 100 شراكة و21 برنامجاً تنفيذياً مختلفاً لرعاية الموهوبين في مجالات العلوم الهندسية والتقنية، وفي رصيد طلابها 453 جائزة دولية، وهذا ما عزَّز نضوج تجربتها الرائدة التي انطلقت من “المحلية”، إلى الإقليمية، ثم إلى العالمية.
مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2021
قول في مقال
د. محمد المسعودي
مدير عام الإدارة العامة للاتصال المؤسسي مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة)
مقالات ذات صلة
حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.
ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]
بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]
اترك تعليقاً