ثمة فرق أساس بين معنى الهجرة عند الإنسان وتلك التي عند الحيوان. ففي الأولى تحصل الهجرة وفق ظروف غير محددة زمنيًا ومكانيًا، وقد تتقطع بعضَ الوقت، ثم تزداد زخمًا في أوقات غير متوقعة أخرى، وقد تكون ببطاقة ذهاب وعودة، أو ببطاقة ذهاب فقط. أمَّا في عالم الحيوان، فالهجرة هي أولًا ظاهرة موسمية وفق “جداول رحلات” أكثر انتظامًا مما هو عليه الحال عند الإنسان، كما أنها تتضمن رحلة ذهاب وعودة، لا سعي فيها إلى الحصول على جنسية البلد المُضيف. حتى إنه لا يجوز علميًا استخدام كلمة “هجرة” لوصف انتقال حيوان من مكان إلى مكان آخر للاستقرار فيه نهائيًا بحسب مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”. أمَّا أسباب هجرة الحيوان، فتكاد تكون هي نفسها التي عند الإنسان: البحث عن الغذاء، أو ظروف عيش أفضل، أو للتزاوج.
وأن تكون الطيور والأسماك هي أشهر الأنواع الحيوانية المهاجرة، لا ينفي وجود مئات، وربَّما آلاف الأنواع الأخرى، من الحشرات الصغيرة إلى الثدييات الكبيرة مرورًا بالبرمائيات، التي تهاجر وفق أنظمة لا تزال تحيّر العلماء في دقتها.
أثارت هجرة الحيوانات دهشة الإنسان منذ القِدم. وما زال هناك الكثير لنعرفه عنها؛ إذ إن العلماء لا يزالون غير متأكدين تمامًا من الطريقة التي تعرف بها هذه الحيوانات إلى أين تذهب وكيف تعود. والبعض يُرجّح أنها تستخدم خليطًا من الوسائل، مثل: أشعة الشمس، والحقل المغناطيسي للأرض، وإشارات كيميائية معينة للاهتداء إلى سبيلها. ومع ذلك، فقد ساعدت العلوم الحديثة في الكشف عن بعض الجوانب المدهشة في هذا المجال، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
في طول المسافات: الخرشنة القطبية طائر متوسط الحجم، لا شيء يُوحي بقدرته على تحمّل السفر الطويل، ولكنه في بحثه عن الطقس المعتدل نسبيًا، نراه يمضي حياته مطاردًا فصل الصيف. فعندما يحل موعد الشتاء البارد في القطب الشمالي يتجه جنوبًا إلى القطب الجنوبي، وبذلك يمضي معظم عمره فوق مياه المحيطات، وتُقدّر المسافة التي يقطعها بنحو 40,000 كيلومتر سنويًا.
في الهجرة على مدى أجيال: في أمريكا الشمالية يوجد نوع من الفراشات يُسمّى “فراشة الملك”، ويهاجر سنويًا من كندا إلى المكسيك للنجاة من برودة الشتاء، ومن ثَمَّ يعود إلى كندا في الربيع مجتازًا نحو 4,800 كيلومتر في كلٍ من الاتجاهين. ولكن الفراشات التي تعود إلى كندا، هي غير تلك التي هاجرت منها. لأن عدة أجيال تكون قد ولدت وماتت خلال الرحلة الواحدة.
في تحمّل مشاق السفر: تولد أسماك السلمون بأنواعها العديدة في الأنهار العذبة، ولكنها تعيش معظم حياتها في المحيطين الهادئ والأطلسي، قبل أن تعود من هجرتها إلى مكان ولادتها عندما يحين موعد وضع البيوض. ولهذه الغاية، تعود من أعماق المحيط إلى ثغر النهر، حيث يصبح عليها أن تسبح ضد التيار لمسافة قد تصل إلى 400 كيلومتر، وأن تكافح ضد الشلالات الصغيرة، وأن تحمي نفسها من الحيوانات المفترسة التي تنتظرها على ضفاف الأنهر.
في ضخامة الأعداد: “الهجرة الكبرى” هي اسم علم يُطلق على الهجرة السنوية لمجموعة من الثدييات ما بين كينيا وتنزانيا، التي تبحث عن المراعي اللازمة خلال تبدّل الفصول. وتضم هذه الموجة العملاقة من الحيوانات المهاجرة الظبي الإفريقي، وهو نوع من الغزال، ولكنه يشبه البقر، ويعيش ضمن قطيع يضم أكثر من مليون فرد، ويصحبه في هذه الرحلة عشرات الآلاف من الحمير الوحشية والغزلان. وتبقى هذه الحيوانات خلال رحلتها في مجموعات متراصة؛ لأن المتخلف عن القطيع سيقع طريدة سهلة للأسود والضباع والتماسيح التي تكون قد تجمعت بدورها لتتغذى عليها.
ناقوس الخطر عليها وعلى دورها البيئي
بموازاة ما جمعه العلماء من معلومات وبيانات حول الحيوانات المهاجرة، حظي دورها البيئي باهتمام مماثل، حتى إن الأمانة العامة لـ”مؤتمر الأنواع المهاجرة” تصف هذه الفئة من الحيوانات بأنها مكوّن رئيس للنظام البيئي حيثما وجدت. ومن الأمثلة التي يضربها العلماء في هذا المجال، وعلى مستوى الطيور المهاجرة، دورها في الحد من تكاثر الحشرات الضارة بافتراسها، وتلقيح الزهور، ونشر بذور نباتات تكون قد أكلتها في مكان ما وتبرَّزتها في مكان آخر؛ وهو ما يؤدي إلى ظهور النبات في أماكن ما كان له أن يظهر فيها. ومن هجرة أسماك السلمون استخلص العلماء أنها تشكِّل في طريق هجرتها طعامًا للدببة. لذا، فإن براز الدببة يتحول إلى سماد يغذي الغابة، تمامًا كما تفعل جيف الأسماك الميتة التي ترسو على ضفاف الأنهار.
ولكن “المؤتمر الدولي للحفاظ على الأنواع المهاجرة” بدأ بدق ناقوس الخطر. ففي مطلع العام الحالي 2024م، كشف المؤتمر في تقرير أعدَّه علماء من “مركز المراقبة في برنامج الأمم المتحدة للحماية”، أنه من بين آلاف الأنواع المهاجرة التي يترصدها، هناك 1,189 نوعًا بات يتطلب حماية دولية، من بينها 962 نوعًا من الطيور، و94 نوعًا من الثدييات البرية، و64 من الثدييات البحرية، و58 نوعًا من الأسماك، و10 أنواع من الزواحف، وحشرة واحدة هي “فراشة الملك”.
وعدّد التقرير عوامل الخطر التي تحيط بهذه الأنواع المهددة، ومنها: الصيد الجائر، وتدمير البيئة في المحطات على طرق الهجرة، والتغير المناخي. ويوضّح الصورة عالم البيولوجيا في جامعة إيلينوي الأمريكية، بنيامين فان دورين، بقوله إن الأنواع المهاجرة تتعامل في رحلتها مع أحوال جوية غير متوقعة، ومناخ متغير، وفقدان البيئة الملائمة، وقلة الغذاء، والافتراس، والأمراض، ومخاطر أخرى. وهي تعتمد على نظامين بيئيين على الأقل للحفاظ على استدامتها، وعلى محطات توقف. وإذا عجزت إحدى المحطات عن خدمتها بالإيواء المؤقت والتغذية، أو إذا عجزت الحيوانات عن الوصول إلى هذه المحطات، فإن مجموعاتها قد تنهار كليًا، تاركة مفاعيل جذرية في أنظمة بيئية برمّتها.
اترك تعليقاً