الأعمال الفنية التي تتناول الهجرة ظاهرة حديثة جدًا، وكانت شبه معدومة قبل القرن التاسع عشر. ولكن، لو قارنا حضور موضوع الهجرة في تاريخ الفن التشكيلي بغيره من الموضوعات، لوجدنا أنه قد يكون الأقل حجمًا، ولكنه من أبلغها تأثيرًا في تاريخ الفن المعاصر لأكثر من سبب يستحق التوقف أمامه.
عندما اجتاحت العالم جائحة كورونا وأقفلت الحدود بين الدول، لم يكن البقاء في المكان نفسه خيارًا ممكنًا للبعض، فرمى بنفسه في مهب رياح الهجرة التي انتهى كثير منها بشكل مأساوي، إمَّا غرقًا وإمَّا مـوتًا بالوباء. وعندها كانت ردة فعل الفنان العالمي بانكسي، أن اشترى سفينة كبيرة لتجوب البحر المتوسط بحثًا عن المهاجرين المحتاجين للنجدة، ورسم بأسلوبه الخاص على أحد جوانبها طفلة يعصف الهواء بشعرها وحول رقبتها طوق نجاة. وكانت هذه الخطوة بمنزلة أحدث صرخة احتجاج لفنان على تحوّل الهجرة إلى مادة نقاش سياسي بعيدًا عن الاعتبارات الإنسانية.
قديمًا، لم تكن الهجرة موضوعًا أثيرًا عند الفنانين، ولا غرابة في ذلك. ولعلَّ من أقدم الأعمال المهمة في هذا المجال لوحة “نهاية لوكابر” للفنان جون واتسون نيكول، التي تعود إلى عام 1883م، ونرى فيها رجلًا وزوجته وقد جمعا أمتعتهما على ظهر سفينة، والرجل يلقي نظرة وداع على بلدته الأسكتلندية لوكابر.
أمَّا في العصر الحديث، ونتيجة فاعلية الإعلام وقوته، وتمكن البُعد الأخلاقي من اختراق النظريات الجمالية التي سيطرت على الفن خلال السنوات المائة الماضية، فظهرت أعمال كثيرة تتناول مختلف جوانب التحديات التي تواجه الهجرة والمهاجرين. ومنها على سبيل المثال، لوحة “هل المجاعة مسموحة؟” للفنانة إيف كوكسيتر (الصورة الرئيسة للمقالة)، التي رسمت صفوف النازحين الإثيوبيين في الصحراء الإفريقية عام 1991م. والفنان الكوري دو هو سو، الذي عرض عام 2018م منحوتة تمثّل بيتًا كوريًا تقليديًا فوق جسر علوي في لندن، وسمَّاها “جسر إلى البيت”، معبرًا بذلك عن حنينه إلى وطنه.
الهجرة ترفع إلى القمة
في أواخر الحرب العالمية الأولى، نُقِل مئات الآلاف من السود الأمريكيين من المناطق الريفية في الجنوب إلى المدن الكبرى في الشمال لتشغيلهم في الصناعة، وذلك فيما عُرف باسم “الهجرة العظمى”. وكان من بين هؤلاء المهاجرين، عام 1917م، صبي صغير يُدعى جاكوب لورنس، الذي درس الفن في نيويورك، وتركّزت مهنته على إظهار نمط حياة السود في أمريكا. وفي عامي 1940م و1941م، رسم لورنس 60 لوحة سمَّاها “سلسلة الهجرة”، استخدم فيها تقنية مميزة أطلق عليها “التكعيب الديناميكي”، وتُظهر أوجهًا مختلفة من الظروف التي عاشها مهاجرون كان هو من بينهم. عُرضت هذه المجموعة في “داون تاون غاليري” في نيويورك. وكانت المرة الأولى التي يُنظَّم فيها معرض لفنان أسود في المدينة، واعتُبر أهم حدث فني في ذلك العام. وتقاسم هذه المجموعة مناصفة متحف الفن الحديث في نيويورك ومؤسسة فيليبس. والجهتان تعرضانها بشكل دائم حتى اليوم، حيث تُعرض اللوحات ذات الرقم المفرد في المتحف، وتلك ذات الرقم المزدوج في المؤسسة. وكان أن وضع هذا المعرض لورنس في مصاف كبار الفنانين الأمريكيين في عصرنا.
ولكن، أتكفي هذه الأمثلة لتعظيم دور الهجرة في الفن التشكيلي كما أوردنا في البداية؟
والهجرة تُخصب الفنان
الأثر الأكبر للهجرة في تاريخ الفن التشكيلي يكمن في هجرة الفنان نفسه، أكثر مما هو في تفاعله مع المهجرين. وإن كان المجال يضيق هنا بالتوسع، يمكننا أن نعطي مثلًا واحدًا عن مَهجرٍ واحد، وهو العاصمة البريطانية لندن.
في عام 2019م، نُظِّم في بريطانيا معرض بعنوان “اللجوء والفن البريطاني”، تمحور حول التأثير المتبادل مع فنانين هاجروا إلى لندن لأسباب مختلفة بدءًا من مونيه وبيسارو اللذين هربا من الحرب الفرنسية البروسية عام 1870م، وصولًا إلى موندريان والفنانين البلجيكيين والهولنديين الهاربين من النازية، والوافدين من أمريكا الجنوبية، والهاربين من القارة العجوز خلال الحرب العالمية الثانية.
وكان هذا المعرض منطلقًا لبحث نشره المؤرخ والناقد بيتر واكلين حول الموضوع نفسه وهو بعنوان “اللجوء والتجديد في الفن البريطاني”، ولكنه عاد إلى فترة زمنية أطول بدءًا من ثلاثة قرون سبقت عصر مونيه وبيسارو، وصولًا إلى الفنانين العرب والآسيويين المقيمين حاليًا في بريطانيا. وخلص البحث إلى أن “هناك مساهمات في الفن البريطاني تعود إلى فنانين أتوا إلى هنا لاجئين أو زائرين غير قادرين على العودة إلى ديارهم. وغالبًا ما سجّل هؤلاء تجاربهم في فَقْد بلدانهم، والحرب والاضطهاد. وبعضهم عبّر عن ذكرياته في وطنه بأشكال تقليدية وحساسيات من ثقافات أخرى. والوقع الكبير للمهاجرين حديثًا على الفن في بريطانيا لا يزال مستمرًا”.
وما سقناه عن لندن ينطبق على أي مكان استضاف فنانين مهاجرين أو نازحين. فالفن التشكيلي الأمريكي تأسس برمَّته تقريبًا على أيدي فنانين هاجروا من إنجلترا. وأول معرض عالمي الطابع نُظِّم في مركز جورج بومبيدو غداة افتتاحه في باريس، كان بعنوان “باريس – موسكو”، وكشف التطور الكبير الذي حصل في الحياة الفنية في فرنسا والعالم، بفعل استضافة باريس للفنانين الروس الذين نزحوا إليها غداة الثورة الشيوعية في روسيا.
اترك تعليقاً