مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

الملف: السباق

في الخيال الأدبي.. السباقات عنصر إثارة وتشويق


مهى قمر الدين

قليلة هي الأحداث التي تثيرنا بقدر ما تفعل السباقات ومنافسات السرعة على مختلف أشكالها، ولذلك نجد حضورًا لأوصافها في كثير من قصص الخيال الأدبي، ولا سيَّما أنها تسمح للكتّاب بإدخال عنصر الإثارة والتشويق والكشف عن سمات الشخصيات في رواياتهم، بالإضافة إلى أنها تُسهم في زيادة التعقيد في حبكتها. وفي كثير من الأحيان، تتزامن نتيجة السباق مع حل عقدة الرواية نفسها، وهو ما يزيد عنصر التشويق، ويُبقي القارئ منغمسًا في تتبع أحداثها. وغالبًا ما تضع السباقات بطل الرواية في مواجهة خصم معين، أو في مواجهة دقات الساعة. وفي كثير من الأحيان، يتنافس المتسابقون من أجل ربح جوائز قيمة، أو تحدي أنفسهم وإثبات قدراتهم، أو حتى إنقاذ حياتهم.

من أشهر الأمثلة في هذا المجال، هناك أولًا الرواية الكلاسيكية العالمية التي صدرت عام 1873م “حول العالم في ثمانين يومًا” لكاتبها جول فيرن. وهي إحدى روايات المغامرات التي قام بها “فيلياس فوج”، الإنجليزي الثري المعروف بنظامه الثابت، بصحبة خادمه “جان باسبارتو” في محاولة منهما للسفر حول العالم، وذلك لكسب رهان بقيمة 20,000 جنيه إسترليني كان “فوج” قد تحدَّى به رفاقه في النادي بأنه يستطيع أن يجول العالم في 80 يومًا فقط. فكان سباقهما مع الزمن واضحًا منذ البداية، حيث يواجه “فوج” و”باسبارتو” كثيرًا من العقبات والانتكاسات، بدءًا من التأخير غير المتوقع وحتى الكوارث الطبيعية التي كانت تهدِّد بعرقلة سعيهما الطموح. وفي جميع مقاطع الرواية بقيا في سباق محموم مع الزمن، وهما يجولان في العالم من لندن إلى مصر، ثم إلى كالكوتا ومومباي وهونغ كونغ، ويركبان القطارات البخارية والسفن والقوارب والفيلة والسيارات، ويخوضان مختلف المغامرات المثيرة، وكان عليهما في كل ذلك أن يتعاملا مع مرور الزمن الذي لا هوادة فيه.

ومن جهة أخرى، حضرت سباقات الخيل في كثير من الروايات الأدبية، فكان من بينها رواية “سيبيسكيت” للكاتبة الأمريكية لورا هلنبراند، التي تروي قصة أحد الخيول الأمريكية الأسطورية الذي نال شهرة واسعة في ثلاثينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية. وتجاوزت الرواية مجرد قصة حصان ذي قدرات فريدة، وتناولت قصة البشر الذين امتلكوا ودرّبوا وركبوا “سيبيسكيت” وحققوا معه تفوقه ذائع الصيت. ومن خلال وصف حي لسباقات الخيول المثيرة والشخصيات المتنوعة المشاركة، استطاعت هلنبراند نقل الإثارة والدراما في رياضة سباق الخيل، وكذلك صمود الروح البشرية وقدرتها على التحمل. وقد وجدت هذه الرواية طريقها إلى السينما لاحقًا.

وهناك أيضًا رواية “الحصان الأسود” للكاتب الأمريكي والتر فارلي، التي تروي قصة الفتى “أليك رامـزي” الذي تربطه علاقة وثيقة بحصان عربي جامح بعد أن تحطمت سفينتهما على جزيرة مهجورة. وتتبع الرواية رحلتهما في أثناء عودتهما إلى الحضارة ودخولهما عالم سباق الخيل.

عندما نفكر في الشعر، غالبًا ما نستحضر صورًا للطبيعة والحب والوجدانيات والتأمل العميق. ومع ذلك، يمكن للشعر أن يتناول موضوعًا مبهجًا ومثيرًا مثل السباقات على مختلف أنواعها، بحيث يكون اندماج القوة وإثارة السرعة والمنافسة الشديدة على المضمار، مصدر إلهام للشعراء لالتقاط هذه اللحظات الديناميكية المشوقة.


ففي الشعر القديم، كان السباق يُصوَّر غالبًا في القصائد الملحمية مثل “الإلياذة” و”الأوديسة” لهوميروس، حيث لم تكن سباقات العربات مجرد سباقات للسرعة، بل كانت أيضًا مبارزات للقوة والمجد والشرف. فكان الأبطال مثل أخيل وهيكتور يتنافسون في سباقات العربات لإظهار براعتهم وبسالتهم. وكان صوت اصطدام المركبات المدوي، والغبار الذي يُثار في أعقابها، وهتافات المتفرجين الحارة تخلق صورًا حية يتردَّد صداها عبر العصور. وأكثر ما تحضر السباقات في الأنشودة الثالثة والعشرين من “الإلياذة” التي تتضمن أوصافًا حسية شاملة لعدد من السباقات التي أمر بها أخيل في جنازة صديقه باتروكلوس، فكان من بينها سباق العربات، وسباقات الجري السريع.

وقبل هوميروس، قد يكون أول ذكر للجري عبر التاريخ ذلك الذي دُوِّن في ترنيمة يعود تاريخها إلى عام 2088 قبل الميلاد، تتعلَّق بسباق مع الزمن قام به الملك شولكي ملك أور في بلاد ما بين النهرين.
ففي يوم واحد، ركض شولكي من مدينة نيبور إلى أور، ثم عاد من أور إلى نيبور،
وقطع فيها مسافة بلغت حوالي 200 ميل (321.8 كيلومترًا) من أجل إدارة المهرجانات الدينية في كلتا المدينتين في اليوم نفسه. أمَّا دافعه لذلك، فيظهر في أحد أشهر النقوش لقصيدة تحمل اسم “في مديح شولكي”، إذ تقول:

“حتى يثبت اسمي لأيام بعيدة ولا يقع في غياهب النسيان أبدًا، ولا يترك أفواه الرجال،
لكي ينتشر تسبيحي في كل الأرض
وأُمدح في كل الأراضي
أنا العدَّاء نهضت بقوة، واستعددت للمسار
من نيبور إلى أور
عقدت العزم على اجتيازها كما لو كانت مجرد مسافة ساعتين فقط
كالأسد الذي لم يملّ من رجولته قمت”

ومن القصائد الكلاسيكية الخالدة التي ارتبط اسمها بأحد أشهر العدَّائين عبر التاريخ، قصيدة “فيديبيدس” التي نظمها الشاعر البريطاني روبرت براونينغ في عام 1879م، وكان قد وصف فيها بطريقة درامية موت “فيديبيدس” المقاتل في الجيش اليوناني الذي ركض من مدينة ماراثون إلى أثينا، فقال فيها:

“عندما كانت بلاد فارس غبارًا، صرخ الجميع: إلى الأكروبوليس
اركض يا فيديبيدس، سباق واحد إضافي! ستكون الجائزة لك!”

أمَّا بالنسبة إلى سباق السيارات، الذي يخلق بمحركاته الهادرة وإطاراته الصاخبة، سيمفونية تتناغم مع قلوب المتحمسين، فكثيرًا ما حاول الشعراء التقاط ألحان هذه السمفونية من خلال الصور الحية واللغة الإيقاعية الصاخبة. وأحد الأمثلة على هذا النوع من القصائد “الرعد المسرع” للشاعر جون ويلر:

“محركات مسرعة، طبول هادرة
الدخان والأبخرة، وتأتي الفوضى
المسار ساخن، والإطارات تحترق
لتنطلق معها الأحلام وتتسارع”

وفي إطار آخر، فإن سيارات السباق ليست مجرد آلات، بل أيضًا بمنزلة أعمال فنية. فتصميماتها الأنيقة ومنحنياتها السلسة وهندستها المعقدة تُلهم الشعراء للتعمق في جماليات هذه الإبداعات الرائعة. ففي قصيدة “لوحة السرعة القماشية” تصوِّر الشاعرة سارة رينولدز بشكل جميل الفن والإبداع الذي يتجسَّد في سيارات السباق، فتقول:

“هياكل أنيقة مثل ضربات الفرشاة جريئة
منحنيات منحوتة بشغف لا يُوصف
لوحة فنية من السرعة، تُحفة فنية
كل سيارة سباق، إنجاز عملي فائق”

فلا يسبقنْكَ السابقونَ بكشفها
فما زلت بالخيراتِ غير مُسبَّق

وهنا يستحث الشاعر ممدوحه إلى إغاثته سريعًا وكشف ما به، ويحرِّضه على أن يسبق إلى ذلك، فهو من الناس بمكانة ألا يكون مسبوقًا إلى الخيرات.

ويقول أبو تمام في قصيدته “لَطَمحتَ في الإِبراق والإِرعادِ”:

لم أُبقِ حلْبَة منطقٍ إلا وقدْ
سَبقت سَوابِقَها إليْكَ جِيَادِي

ليعبّر بذلك عن سبقه في حلبة الشعر، وأن قصائده الجياد هي السابقة على غيرها حين تشتد المنافسة على الفوز بإعلاء شأن الممدوح.

وفي قصيدة “ما أنتَ للكِلفِ المَشوقِ بصاحبِ” يقول البحتري:

لله أنْتَ، وأنْتَ تُحرِزُ وَاهبًا
سَبْقَينِ سَبْقَ مَحاسِنٍ وَمَوَاهبِ

يُعبِّر هذا البيت عن سبق الممدوح، الذي يدعو إلى الإعجاب، إذ يجمع له الشاعر المادح بين التفوق في ذاته بسبقه في “المحاسن”، وبين التفوق في عطائه بسبقه في “المواهب”.

أمَّا جبران خليل جبران، فيقول في قصيدته “نَسِيمُ لُبْنَانَ حَيَّانِي ضُحى فَشَفَى”:

فِتيان سَبْق بآداب ومعرفة
إذا النُّهى استبقت في خير مُستبَقِ

ويشير البيت إلى الشباب الذين يتمتعون بالأخلاق الحميدة والمعرفة الوافرة، والذين يتفوقون على غيرهم أو “يسبقونهم” في هذه الصفات النبيلة، حيث مضمار السباق هو العقل وتهذيبه، وهذا هو خير السباق.


مقالات ذات صلة

الهجرة واحدة من أكبر المؤثرات في صياغة تاريخ الإنسانية، وفي نشوء الأمم، وفي التلاقح الثقافي، وتغيير أحوال ملايين البشر. في هذا الملف، يستطلع عبود طلعت عطية بعضًا مما تنطوي عليه الهجرة.

الهجرة النبوية تشكّل حالة استثنائية في التاريخ الإنساني على مستوى توثيق تفاصيلها، خلافًا لأحداث تاريخية عظمى حدثت في زمن أقرب إلينا.

الفرد ما إن يعقد العزم على الهجرة حتى تطغى عليه مشاعر وهواجس واهتمامات تُحيله شخصًا غير ما كان عليه، وستبقيه كذلك لبعض الوقت بعد وصوله إلى مهجره.


0 تعليقات على “في الخيال الأدبي.. السباقات عنصر إثارة وتشويق”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *