مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

في الأغنية وفي السينما


عبود طلعت عطية

ثلاثة أصوات من ثلاث زوايا وأضعفها صوت المهاجر

بوجه عام، يمكننا أن نقسّم مجموع الأغنيات التي تتناول الهجرة والمهاجرين إلى ثلاثة أقسام، وفي هذا لا فرق بين الأغنية العربية والفرنسية والإنجليزية. وهذه الأقسام الثلاثة هي:

أولًا: الأغنية التي تخاطب المهاجر، من زاوية الذين تركهم خلفه. وهذه الأغنيات تتميز بصدق المشاعر، وهي في الواقع الأعمق تأثيرًا على المستوى العاطفي، وتكثر في هذا البلد أو ذاك وفق مستوى الهجرة على الصعيد الوطني، كما هو حال لبنان من بين البلدان العربية، حيث غنَّت فيروز من كلمات طلال حيدر:

يا رايحين وليل

ما عاد بدكم ترجعوا

صرّخ عليهم بالشتي يا ديب

بلكي بيسمعوا

وحيث غنّى وديع الصافي:

يا مهاجرين ارجعوا

غالي الوطن غالي

لبنان صوته اسمعوا

صوت العتب عالي

ثانيًا: الأغنية التي تتحدث عن المهاجِر وتتلمس معاناته، والمغني فيها مجرد مشاهد متورط عاطفيًا بقضية المهاجرين ومآسيهم وأحزانهم. وهذه الفئة كثرت في الآونة الأخيرة في الأغنية الغربية بفعل ما راحت تنقله وسائل الإعلام عن مآسي النازحين، مثل غرق السفن التي تحملهم، والاضطهاد أو التمييز الذي يلقونه في مهاجرهم. ومنها على سبيل المثال، أغنية “تطلعوا إلى عيونهم” (2016م)، للمغني دايفيد كروسبي، التي تدعونا إلى التطلع في عيون المهاجرين لمعرفة قصتهم، ولكننا للأسف منشغلون عن ذلك، ولا نراهم عندما يمرون بجوارنا.

وهناك أغنية “أرض أمريكية”، وهي أغنية ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، غير أن بروس سبرينغستين أعاد تأديتها في عام 2012م. وتتحدث عن مهاجر يترك حبيبته للسفر إلى أمريكا، على أن تلحق به لاحقًا إلى حيث يُعثر على الذهب في الأنهار، وحيث ترتدي النساء الحرير والساتان. ولكن لا شيء من ذلك يتحقق.

وأيضًا أغنية “أشجان الهجرة” للمغني كريس ريا، الذي يصف مهاجرًا باع خاتم أمه كي يهاجر إلى أمريكا، وهو الآن يقف في طوابير لا تنتهي، ويعيش في غيتو، ويشتاق إلى أحبابه. كما تشير الأغنية إلى ما يتعرض له هذا المهاجر من معاملة مهينة على أيدي موظفي دائرة الهجرة.

وأن تكون هذه الفئة من الأغنيات قد تكاثرت في العقدين الماضيين، لا يعني أنها لم تكن موجودة قبل ذلك. ففي أواخر سبعينيات القرن الماضي غنّت البرتغالية ليندا دي سوزا، أولى أغنياتها الفرنسية التي أطلقت شهرتها عالميًا “البرتغالي”، وذلك في وقت شهدت فيه فرنسا موجة هجرة كبيرة من البرتغاليين للعمل بوصفهم حراس مبانٍ، وفيها تقول:

حقيبتان من الكرتون على أرض فرنسا
هناك برتغالي غادر للتو برتغاله...

أمَّا القسم الثالث من هذه الأغنيات، فهي التي حاولت أن تنطق بلسان المهاجر. وبالرغم من أن الذين كتبوا فيها هم من كبار الشعراء ومؤلفي كلمات الأغاني، فإن غالبية هذه الأغنيات تتسم بالبرودة وتصنّع العواطف، وكأن ما في نفس المهاجر يبقى عصيًا على كل من يحاول أن يتحدث باسمه. ولا تنجو الأغنية إلا بفعل اللحن وصوت المؤدي، تاركة الكلمات في الصف الثالث. كما هو حال أغنية “سالمة يا سلامة”، التي كتب كلماتها بديع خيري ولحّنها سيد درويش في عام 2019م. فالأغنية التي يُقال إنها تتحدث عن معاناة المهاجر المصري، لا تثير فينا أي تعاطف مع المهاجر، بل نهتز نشوة لجمال اللحن؛ لأن كلماتها تتسم بالمباشرة، وتبقى إنشائية وعامة:

صفر يا وابور واربط عندك
نـزلني في البلد دي
بلا أميركا بلا أوروبا
ما في شي أحسن من بلدي

حتى وديع الصافي الذي ذكرناه آنفًا، عندما حاول أن يغني باسم المهاجر “جايين يا أرز الجبل جايين”، كانت النتيجة أغنية شبه خالية من أية لمسة عاطفية عميقة، وثلاثة أرباع مفرداتها مجرد تعداد لأسماء قرى ومناطق من بلاده.

والأمر نفسه ينطبق على الأغنية الغربية، فعندما غنَّى مايكل جاكسون “غريب في موسكو” في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومع أن الأغنية نابعة من تجربة ذاتية خلال “زيارة” الفنان لموسكو، قال النقاد إنها تُعبِّر عن قلق المهاجر الذي يجد نفسه في بيئة غريبة. ولكن التمعن في كلمات الأغنية بما فيها من حديث عن ظلال الكرملين التي تُصغّره، وقبر “ستالين” الذي يمسك به، ومطاردة المخابرات له، نجد أنفسنا أمام خطاب سياسي، لا يكاد يمت لمشاعر المهاجر بصلة.


كما هو الحال في الفن التشكيلي، أدَّت وسائل الإعلام دورًا كبيرًا خلال العقدين الماضيين في تصاعد وتيرة إنتاج الأفلام السينمائية التي تتناول قضايا الهجرة. وهذا ما يلاحظه من يستعرض تواريخ إنتاج الأفلام في القوائم المنشورة على المواقع الإلكترونية، التي تتحدث مثلًا عن “أفضل عشرة أفلام عن الهجرة”، حيث يتبيَّن أن من بين كل عشرة أفلام، هناك ثمانية على الأقل جرى إنتاجها في الألفية الجديدة من دون أن يعني ذلك أنها بجودة الأفلام التي سبقتها.

وفي الواقع، هناك حفنة من الأفلام القديمة نسبيًا التي تحولَّت إلى أعمال كلاسيكية تناولت الهجرة والمهاجرين من زوايا مختلفة. أشهرها على الإطلاق فيلم “أمريكا أمريكا” (1963م) من إخراج إيليا كازان، الذي يروي قصة شاب يوناني يعيش في منطقة خاضعة لتركيا، ويخطط للسفر إلى أمريكا. وفي مسعاه هذا، يبدد الرجل مدخرات العائلة، ويرفض الزواج واحتمالات الحصول على المال إن كان ذلك يعيق مسعاه إلى الهجرة الذي يمكن أن يكلفه حياته.

ومن الكلاسيكيات السينمائية، على سبيل المثال، فيلم “الوجه ذو الندبة” (م1983، Scarface)  للمخرج برايان دي بالما، الذي يروي قصة مهاجر كوبي إلى ميامي، يتورط في تجارة المخدرات. وهناك أيضًا الفيلم الشهير “تيتانيك” (1997م) للمخرج جيمس كاميرون، الذي يستعرض تنوّع المهاجرين من أوروبا إلى أمريكا في وقت ما، وعلى متن الباخرة نفسها. ولكن بطولة الفيلم تبقى للباخرة نفسها ولغرقها.

أمَّا في الألفية الجديدة، فقد تعددت العناوين بشكل يصعب حصره. وتركّزت الموضوعات على انصهار المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة أو عدمه، وبعض المآسي الدرامية المثيرة للتعاطف. ومن الأفلام الجيدة في هذا المجال فيلم “لأجل مكانة الاسم” للمخرجة الهندية ميرا نير، ويدور حول عائلة مهاجرة من كالكوتا الهندية إلى نيويورك وانصهارها في نمط الحياة الأمريكية، وصياغة هوية جديدة من دون تناسي تراثها الخاص.

ومن الدراما الواقعية الحديثة نذكر فيلم “حياة أفضل”، الذي يحكي عن مهاجر مكسيكي غير شرعي يعاني صعوبة في التفاهم مع ابنه المرتبط بعلاقة مع فتاة أمريكية تشده صوب عالم الجريمة. فعندما تُسرق شاحنة الابن، ولعدم قدرته على الاستنجاد بالشرطة، ينطلق مع أبيه للبحث عن الشاحنة.

وإضافة إلى الدراما، يتَّسع صدر الهجرة للكوميديا أيضًا، مثل فيلم “أفضل فندق ماريغولد”، حيث نرى مجموعة من المتقاعدين البريطانيين يسافرون إلى الهند لتمضية بقية حياتهم في فندق أغرَّهم بإعلان خادع، واكتشفوا هناك أن الفندق هو مجرد بقايا فندق قديم خرب. ولكنهم وجدوا في موطنهم الجديد ما كان ينقصهم في موطنهم الأصلي.

ولكن ما تقدَّم لا ينفي وجود أفلام وثائقية تناولت الهجرة بأعلى المستويات من الجدية، ومن أفضلها فيلم “الوجه الآخر للهجرة”، الذي أخرجه روي جيرمانو، في عام 2010م، لاستكشاف الدوافع عند الذين يغادرون المكسيك للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية، وما يحصل لمجتمعاتهم والعائلات التي يتركونها خلفهم.


مقالات ذات صلة

بين قوارب الصيد المتواضعة والسفن الضخمة، أبحرت مراكب بحرية متنوعة شكلت التاريخ البشري، حيث ربطت القارات وساهمت في النقل والتجارة والتبادل الثقافي..

يُعَد تطوُّر المركبات البحرية رحلة رائعة تعكس طموح الإنسان وقدرته على التكيف. وقد بدأ هذا التطور ببطء، كما تُظهر الرسومات الأثرية منذ عام 4000 قبل الميلاد..

لا يمكن الحديث عن أنواع المراكب دون ذكر مراكب الداو الشراعية، التي كانت رمزًا لهوية المجتمعات الخليجية لفترة طويلة. منذ القرن العشرين..


0 تعليقات على “في الأغنية وفي السينما”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *