صار بوسع البرامج الإلكترونية الحديثة أن تحول الكلمات إلى كتابة، وهذا ما صار يستخدمه صنّاع الفيديو على مواقع التواصل التي تكتب المنطوق تلقائـيًا بأخطاء مضحكة أحيانًا. وحتى إن زادت دقة هذه الأجهزة، فمن غير المنتظر أن يستفيد الأدباء منها؛ لأن التفكير بالأيدي يجعل العلاقة بين الكاتب ونصه محسوسة وأكثر حميمية، خصوصًا في مجـال الإبداع، سواء أتمسَّك الكاتب بالقلم أم تحول إلى استخدام لوحة مفاتيح الكمبيوتر.
استعارة أيدي الآخرين
في حالات نادرة بسبب إعاقة في الأعصاب أو النظر، يضطر الكاتب إلى الإملاء، وهذا محض استعارة ليدي إنسان آخر، مثلما كان طه حسين يفعل بسبب العمى، ومثلما فعل دستويفسكي لسبب مختلف تمامًا.كانت الديون قد تراكمت على العبقري الروسي، واضطر إلى توقيع عقد مجحف مع ناشر مرابٍ عام 1865م، أخذ بموجبه الناشر من الكاتب أعماله التي كتبها حتى ذلك الحين مقابل ثلاثة آلاف روبل، مشترطًا أن يكون بينها رواية جديدة، وأن تُسلم بنهاية ديسمبر وإلا تؤول كل حقوق أعمال دوستويفسكي إليه.
وأخذ الموعد يقترب؛ فحاول أصدقاء الكاتب أن يساعدوه، حتى إنهم عرضوا عليه مشاركته في الكتابة. لكنه رفض رفضًا قاطعًا أن يضع اسمه على عمل لم يكتبه. عند ذلك عرض عليه أحدهم وهو معلم للكتابة بطريقة الاختزال أن يحضر إليه إحدى تلميذاته ليملي عليها، فتكتب النص بالرموز، وعندما تنصرف تسهر في بيتها على تحويل الإشارات التي تشبه صنارات الصيد إلى اللغة العادية وتعود بالنص إليه في اليوم التالي؛ فيدققه ويملي عليها فصلًا جديدًا. وبهذه الطريقة تمكن دوستويفسكي من إكمال رواية “المقامر”.
تُشفي وتُسمم وترقص وتُحب
وأمَّا عن اليد في المكتوب، فهناك أيادٍ تحتل موقعًا مميزًا في السرد، ومن أهمها يدا الملك يونان والحكيم دوبان في “ألف ليلة وليلة” هذا النوع (اسم الحكيم في طبعات أخرى هو رويان). نلتقي هذه الحكاية في الليلة الرابعة من طبعة بولاق. كان الملك مصابًا ببرص عجز أطباء المملكة عن علاجه، حتى أقبل من بعيد الحكيم دوبان الذي صنع صولجانًا وفرَّغه وملأه بالأدوية، وصنع كرة وطلب من الملك أن يركب إلى الميدان، وأن يلعب بالكرة والصولجان حتى تتعرق يده، وبهذه الطريقة نفذ الدواء عبر يد الملك وشفي تمامًا؛ فقرَّب الحكيم منه وأجزل له العطاء مما أوغر قلب وزير شرير من وزرائه، فأخذ يوسوس له: “أما ترى أنه أبرأك من المرض من ظاهر الجسد بشيء أمسكته بيدك؟ فلا تأمن أن يهلكك بشيء تمسكه أيضًا”.
بعد مقاومة، اقتنع الملك بالحجة وأخبر الحكيم بأنه مضطر إلى قتله؛ فاستمهله بعض الوقت ليودع أهله ويوزع كتبه ويأتي إليه بأهمها، وهو كتاب “أقل ما فيه من الأسرار إنك إذا قطعت رأسي، وفتحته وعددت ثلاث ورقات، ثم تقرأ ثلاثة أسطر من الصحيفة على يسارك، فإن الرأس تكلمك وتجاوبك عن جميع ما سألتها”. وهذا ما حدث، فبعد أن أمر الملك بجز رأس الحكيم أخذه الفضول لتجربة الوصفة؛ فأتوا إليه بالرأس في طست، وبمجرد أن فتح صفحات الكتاب ولمسها، تسمَّم ومات. وقد استعار الروائي والمفكر الإيطالي أومبرتو إكو حيلة الكتاب المسموم في روايته “اسم الوردة”؛ إذ سمم الراهب المتزمت كتاب “الكوميديا” لأرسطو الذي حرَّمه على الرهبان، وكان هذا هو لغز الموت الغامض للرهبان، الذي انكشف في نهاية الرواية. والغريب أن الروائي الفيلسوف خصص كتابًا عن روايته بالغة الشهرة، تناول فيه الفكرة والتفاصيل والمصدر الذي ألهمه العنوان من دون إشارة من قريب أو بعيد إلى “ألف ليلة وليلة” بوصفه مصدرًا للحبكة التي بُنيت عليها.
رواية “الفهد” هي الوحيدة لكاتبها جوزيبه لامبيدوزا، وتدور أحداثها في فترة عدم استقرار من حياة إيطاليا، تحديدًا في عام 1860م، وتحكي عن بطلها الأرستقراطي المنعزل في قصره عندما كان غاليباردي يوحد إيطاليا ويقوِّض ملكية آل بوربون. ومن إحساسه بالعزلة والصمت في القصر، الذي كانت الحفلات لا تتوقف بين جنباته، أقام البطل الأمير “سالينا” رقصة “فالس” أبطالها الأصابع العشر ليديه.
وفي روايته الجديدة “موعدنا في شهر آب”، التي نُشرت هذا العام بمناسبة عشر سنوات على رحيله، يصف غابرييل غارسيا ماركيز، لقاءً بين بطلة الرواية وأول الرجال الذين تُغرم بهم في كل زيارة لجزيرة تذهب إليها مرة في العام لتضع باقة زنابق على قبر أمها، وقد ارتاحت إليه وأحست أنها تعرفه منذ الأزل، ومن بين مميزاته: “أن له يدين صامتتين، ويزيد من صمتهما بريق أظفاره الطبيعي”. مات ماركيز وفي نفسه شيء من “الجميلات النائمات” للياباني ياسوناري كاواباتا. في تلك الرواية يتلقى العجوز إيغوشي أول التحذيرات: “أرجو أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة”.
إلهام عقلة الإصبع!
من المدهش أن يتفق الأدب الشعبي، من اليابان شرقًا إلى بريطانيا غربًا، على اعتماد عقلة الإصبع (صغرى وحدات اليد) للإشارة إلى شخصية طفل متناهي الصغر. ومن الصعب تحديد الموطن الأول للقصص التي تحمل عنوان “عقلة الإصبع” لكنها نشأت، على وجه التقريب، في القرون الوسطى، حيث كانت تُروى شفاهيًّا.
تختلف تفاصيل قصة “عقلة الإصبع” من بلد إلى آخر من حيث طبيعة العقبات التي تقف في وجه ذلك الطفل العجيب، لكنها تنتهي دائمًا بانتصاره بالعقل والحيلة. ولذلك، فهي قصة ملهمة للأطفال والكبار. وقد استلهم بعض الكتَّاب الأصل الشعبي ودفعوا به إلى آفاق مختلفة، وأهمهم الدانماركي هانز كريستيان أندرسن (1805م – 1875م)، الذي كتب الشعر والرواية والمسرحية، لكنه لم يكتسب شهرته إلا من قصصه للأطفال، وبينها قصة “عقلة الإصبع”. وكذلك فعل إيتالو كالفينو، الذي جمع القصص الشعبية من أقاليم إيطاليا المختلفة وأعاد تحريرها.
اترك تعليقاً