هكذا تعبرُ بكَ الأيامُ قنطرةَ السنين وأنت تنوءُ بحملِ نفسك وأنفاسك، مثقلاً بذكرياتٍ لأزمنةٍ مررتَ بها خيالاً فاضت الصور عنك فلم تجد شكلاً يحتويك. كم شطبتَ على الروزناماتِ المتعاقبةِ أياماً تسارعتْ خطاها وشطّتْ بكَ في هذا الكونِ الشاسع. صرتَ أبعدَ ما تكونُ عنكَ وأنتَ ترقبُ البحر الضحلَ الماثلَ أمامكَ يبساً إلَّا من بعض بركٍ صغيرةٍ خلّفها المدُّ. صرتَ أبعدَ ما تكونُ عنكَ وأنتَ تركضُ مانحاً لرجليكَ المدى وحرارةَ الإسفلتِ غير آبهٍ لما قد ينغرسُ عميقاً فيهما، مستمتعاً بلفحِ الهواء على وجهكِ وسرعتكَ التي ظننتَ أنها تعين هربكَ الدائم. صرتَ أبعدَ ما تكونُ عنكَ وأنت تتسلقُ النخل وشجر اللوز لتظفر بحلاوة الثمر منها. الآن وتفاصيلكُ القديمةُ تنهدمُ في مدّ البياض الذي يغمرك تسألُ ما قيمةُ كلّ هذا الذي أنتَ فيهِ لو لم تكن القروي الذي كان.
ما قيمة الألحانِ أو وزن المعاني
حينَ تستعصي القصيدةُ
والحروف تمرُّ من وجهي فترجعُ بالنشيجِ
وليسَ ترجعُ بالكلامِ
لا وزنَ أعرفُ غيرَ هذا البحر
يزخرُ بالشجى
ماذا أقولُ إذا رأيتكَ صاخبًا؟ هل جئتَ تبحث في عظامي؟
الويلُ كلُّ الويلِ لي
حتّامَ أسألكَ القوافي لم تبادرني بشيءٍ، جئتُ بالمعنى فضاع اللحنُ وسطَ ضجيجكَ اليوميِّ
ضاعتْ مهجتي فالويلُ لي منذ البداية للختامِ
حدّقتُ في المعنى طويلا ما رأيتُ حقيقةً أجلو بها ظلماتِ عمري حدَّ أن يبدو الندى فجرًا
ويدهمني الضياءُ وهكذا في كلِّ ليلٍ فائتٍ ..
حدّقتُ في المعنى طويلا ما رأيتُ حقيقةً إلا منامي
فتشتُ لم أجد السبيلَ
ولا مكانٌ شاغرٌ لخطاي في هذا الطريقِ يمدُّ سحنته الغريبة
لم أجدني فيه إلا كالحصى دهسًا بأقدام الزحامِ
ما ظلَّ عندي غيرَ منسأتي تلَوِّحُ للمشيبِ
أراهُ تسْجُرُهُ المسافةُ بالحنينِ
كأنما زمن الطفولةِ صار مصلوبًا أمامي
وأنا هنا زيفٌ تماهى في الرمادِ يغصُّ بالشكل الرتيبِ
يخطُّ نهرًا من يباسٍ
جفَّ عن طينٍ بدوتُ بهِ زمانًا رمْتُهُ
عمرًا تفتتَ في رُكامي
“فقدُ الأحبةِ غربةٌ” أدري
فهبني ذلكَ المفقودُ من قبلِ الولادةِ لم تهدهد نبضهُ إلا الفجيعةُ أرضعتهُ يدُ الغبارِ ولُفَّ بالموتِ الزؤامِ
ما عشتُ قبلَ اليومِ إلا كي أقولَ قصيدتي
يومًا ستكتبُني على الأحداقِ
يذرِفُني الغروبُ فسائلاً تنمو إلى ما شئتَ في لُجَجِ الظلامِ كما ترى:
سأضيءُ لجلجةَ الظلامِ
أنا ذلكَ القرويُّ مهما التاثَ من سككِ الحضارة أو وجوهِ العابرينَ بها سيبقى طفلُ ذاك البحرِ
يجري خلفَ ضحكتهِ
تشقُ عن الكآبةِ وجهها
وتعيدُ فوضى الكائناتِ إلى انتظامِ
أنا ذلكَ القرويُّ أتلفهُ التمادي في بناءِ الشَّكِّ
أيقنَ أنَّ أصلَ الحبِّ يكمنُ تحت أنقاضِ الحكاياتِ القديمةِ فاستفاقَ العزمُ فيهِ وراحَ يحفِرُ في الـحُطامِ
فاضل الجابر
• فاضل جعفر الجابر
• مواليد عام 1975م، سنابس – جزيرة تاروت – محافظة القطيف، شرق المملكة العربية السعودية
• حاصل على شهادة هندسة كهربائية تطبيقية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن – الظهران عام 1998م
• صدر له:
– مُتَّسعٌ للرَّحيلِ، مجموعة شعرية، الدار العربية للعلوم، 2006م
– وحيداً في امتدادِ خُطَاك، مجموعة شعرية، دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2011م
– مساحة لعن شاغرة، رواية، ضفاف – أطياف، 2016م
– ذاهلاً تسعى إليك الجهات، مجموعة شعرية، مقام للنشر والتوزيع، 2018م
اترك تعليقاً