كان “الشرق” بالنسبة لأوروبا حتى نهاية القرن الثامن عشر هو تلك الرقعة الجغرافية الممتدة جهة الشرق والجنوب ناحية البحر الأبيض المتوسط، أي بلاد العرب والأتراك بشكل رئيس. وتعود هذه الصورة بأصولها إلى الماضي ما قبل الإسلامي عندما نظرت الحضارتان الإغريقية والرومانية إلى بلاد الشام والأناضول ومصر على أنها بلاد الشرق (Oriens). ولكن هذه الصورة لم تكن واضحة تماماً في أذهان المعلقين الكلاسيكيين والبيزنطيين، حيث كانت لمفهوم الشرق معانٍ مختلفة، وكانت حدوده دائمة التغيُّر حول حوض البحر الأبيض المتوسط تبعاً لتغير حدود الإمبراطورية، وانضمام الشعوب الساميّة إلى الحركات الحضارية الفاعلة: الهلينستية، الرومانية، والبيزنطية.
لا يمكننا الفصل بين أبناء مصر والشام وشمال إفريقيا وأبناء اليونان والأناضول وإيطاليا وإسبانيا عند تقييمنا لإنجازات الحضارتين الهيلينستية والرومانية حول حوض البحر الأبيض المتوسط. بل ربما كان لأبناء مصر والشام، خاصة مواطني الإسكندرية، وأنطاكية، وبيروت، وصيدا، وصور، ودمشق، وأفاميا، وتدمر، ومدن الديكاپوليس في حوران وشمال الأردن اليوم، وغيرها، الباع الأطول في دفع عجلة الحضارة التي اصطلحت أوروبا على تسميتها بالحضارة الكلاسيكية المتأخرة، والتي اعتبرتها مهد ومنبع حضارتها هي نفسها، وحاولت جاهدة نفي المساهمة الشرقية الأساسية في تحديد ملامح هذه الحضارة على الرغم من الحقائق التاريخية والجغرافية الثابتة. كل هؤلاء المبدعين نهلوا من منابع حضارية مختلطة امتزجت فيها الأصول “الشرقية” من كنعانية وآرامية وفينيقية وقبطية وعبرية وغيرها، بالتأثيرات الهيلينية والرومانية، وأثْروا بأعمالهم حضاراتهم في بلادهم، من دون أن يروا أنفسهم مجرد منتمين لغرب أو شرق.
الشرق المسلم والعربي حافظ على مركزه في الوعي والمخيال الأوروبي، بل وعمّق من مدلولاته كالآخر المعاكس، على الغالب بسبب من التقارب الحضاري بين أوروبا الناهضة وتراث الشرق العربي والمسلم الذي احتازته أوروبا لتستكمل بناء صورتها عن نفسها وعن الحضارات الماضية التي أدت إلى نشوئها ونهضتها، من مصرية قديمة ورافدية وكلاسيكية ورومانية وفارسية. هناك أيضاً الارتباط التاريخي والجغرافي بين الشرق وبين الديانات السماوية وقصص العهدين القديم والجديد.
تغيّر الحال وانقسام المتوسط
ولكن الحال تغيَّر جذرياً مع قدوم الإسلام واندياحه على جزء كبير من أراضي الإمبراطورية البيزنطية في مصر والشام والمغرب. فقد خلق الإسلام واقعاً جديداً، وجذَّر حدوداً كانت حتى قدومه دائمة التغيّر، وأصبح حوض البحر الأبيض المتوسط مقسوماً إلى شمال مسيحي وجنوب مسلم. صحيح أن الاختلاف لم يظهر في الوعي الجماعي للشعوب العربية المسلمة أو الأوروبية المسيحية في البداية، إذ كانت معلومات كل طرف عن الآخر ضعيفة، وصدى وجوده خافتاً ومتقطعاً إلا فيما ندر، كما في حال تواجد المسلمين في الإمبراطورية البيزنطية، ولكن تلك قصة أخرى.
وتغيّر الوضع ثانية مع بداية حروب الاسترداد في إسبانيا وجنوب إيطاليا، والحروب الصليبية التي وضعت الطرفين المتخالفين أيدولوجياً وثقافياً بوجه بعضهما بعضاً، فتعاركا وتصارعا. وتصوَّر كل منهما الآخر بصورة العدو والمنافس، وأسس تعامله مع الطرف الآخر على هذه الصورة. ومن هذه النقطة ابتدأت في أوروبا صناعة صورة الشرق التي اعتمدت على مزيج معقَّد من الملاحظات والدراسات والخيال والرغبة والعداوة والخوف والحذر والإعجاب والذاكرة التاريخية المبتسرة. وكان نتاج هذه الصناعة مسخاً غريباً، هو ما سمي “شرقاً” في أوروبا القروسطية: مكان غرائبي فيه من المدهش والمذهل الكثير، طبيعته وعرة وخلابة، صحاريه شاسعة، وجباله شاهقة، وحيواناته ونباتاته عجيبة، يقطنه أناس غريبو الأطوار، دينهم قاسٍ ومنغلق، ديدنهم الغزو والقتال والنهب، يسومون أعداءهم النكال والعذاب. فيهم العلم الغريب من سيمياء وسحر وفراسة، والتعصب الأعمى، والفروسية الرشيقة، والجموح البدائي. يلبسون ثياباً فضفاضة وبراقة ومتعدِّدة الألوان، يسكنون في قصور عالية ومنعزلة ومحروسة ومسيَّجة، يحتفظون فيها بنساء كثيرات مغريات وجميلات، على حين تخلو شوارعهم وحياتهم العامة من أي وجود أنثوي.
ولم تكن صورة أوروبا المسيحية عند الطرف المسلم بأقل غرائبية أو عدوانية أو خلطاً. فالصورة التي يقدِّمها لنا ابن فضلان عن الروس والفايكنج في رحلته التي قام بها خلال القرن العاشر الميلادي، أو تلك التي نجدها في “كتاب الاعتبار” لأسامة بن منقذ مثلاً عن الفرسان الصليبيين الذين عايشهم في سوريا وفلسطين في القرن الثاني عشر وانعدام نخوتهم، أو معاصرتها التي يقدِّمها ابن جبير في رحلته بعد أسره من قبل قراصنة جَنَويين، تنضح بخليط من الملاحظ والمتخيل، المحبذ والشاجب، المتفهم والمعادي، وتعكس في نهاية الأمر مشاعر مشابهة لتلك التي تعكسها صورة الأوروبي عن المسلم في الفترة نفسها، وإن كانت أقل تفصيلاً وربما أقل غرائبية من نظيرتها الأوروبية.
تغيّر ثانية مع بداية حروب الاسترداد في إسبانيا وجنوب إيطاليا وما تبعهما من الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر التي وضعت الطرفين المتخالفين أيدولوجياً وثقافياً بوجه بعضهما بعضاً، فتعاركا وتصارعا وتصور كل منهما الآخر بصورة العدو والمنافس، وأسس تعامله مع الطرف الآخر على هذه الصورة.
تبدّل الصورة وثبات الفحوى
تطوَّرت تفاصيل صورة “الشرق” بتطور معلومات أوروبا عن هذا “الشرق”، ولكن فحواها ومدلولاتها واعتمادها الكبير على الغرائبية، ونزعتها العدائية، بقيت ثابتة حتى ما بعد عصر الاكتشافات الكبرى في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، عندما وصلت الأساطيل الأوروبية إلى مختلف أرجاء المعمورة، واكتشفت “أشراقاً” وعوالم وحضارات أخرى متعدِّدة ومختلفة في الهند والصين واليابان، وبعدها في العالَم الجديد بشماله وجنوبه، لم تكن واعية بها.
ولكن الشرق المسلم والعربي حافظ على مركزه في الوعي والمخيال الأوروبي، بل وعمَّق من مدلولاته كالآخر المعاكس، على الغالب بسبب من التقارب الحضاري بين أوروبا الناهضة وتراث الشرق العربي والمسلم الذي احتازته أوروبا لتستكمل بناء صورتها عن نفسها وعن الحضارات الماضية التي أدَّت إلى نشوئها ونهضتها، من مصرية قديمة ورافدية وكلاسيكية ورومانية وفارسية.
وطبعاً علينا ألا نغفل الاحتكاك العدائي المستمر بين الإسلام المتوسطي وأوروبا بعد انقضاء الحروب الصليبية، خصوصاً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، عندما هدَّدت الدولة العثمانية الناهضة قلب أوروبا واكتسحت أجزاءً كبيرة من شرق أوروبا وأسلمتها وعثمنتها.
لم يتغير هاجس أوروبا من المسلم والعربي والتركي، وهي كلها أسماء اختلطت في الذهن الأوروبي ببعضها بعضاً، وأصبحت دالاً واحداً عن الآخر المكروه والمهدَّد، والمألوف والمجهول في آنٍ واحد، حتى بعد نهوضها عسكرياً في القرن السابع عشر وبدء أفول سيطرة الدولة العثمانية على شرق البحر الأبيض المتوسط، وانتهاء تهديدها الفعلي لأوروبا. بل إن هذا الهاجس نفسه جرى تلقفه وتوظيفه لإبقاء الحذر والعداوة ضد التركي والمسلم متوهجاً عندما بدأت الحملات الاستعمارية ضد الشرق في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، من الهند إلى غرب إفريقيا، التي مثَّلت حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801م) نقلة نوعية فيها.
تطوَّرت تفاصيل صورة “الشرق” بتطوُّر معلومات أوروبا عن هذا “الشرق”، ولكن فحواها ومدلولاتها واعتمادها الكبير على الغرائبية، ونزعتها العدائية، بقيت ثابتة حتى ما بعد عصر الاكتشافات الكبرى في القرنين السادس عشر والسابع عشر، عندما وصلت الأساطيل الأوروبية إلى مختلف أرجاء المعمورة.
في عصر الاكتشاف والسبر العلمي
حملة نابليون جلبت أوروبا إلى الشرق وعادت بالشرق إلى أوروبا، وفتحته للسياحة العلمية والثقافية التي كان أحد نتائجها ظهور الفن الاستشراقي الواقعي، ورواجه لتلبية حاجات السوق البرجوازية الناشئة في الحواضر الأوروبية التي كانت متعطشة لكل ما هو شرقي، غرائبي، عجيب، ولكن أصيل وواقعي ومشاهد على الطبيعة. فالعصر عصر الاكتشاف والسبر العلمي الموضوعي. وقد بدأت هذه الحركة بعمل موسوعي باهر، هو “وصف مصر”، قام به علماء الحملة النابوليونية الذين أتوا مع الجيش الفرنسي، والذين سجلوا كل ما يمكن تسجيله عن مصر من تاريخ وثقافة وجغرافيا ونبات وحيوان ومهن وعادات وتراث فرعوني وغيره، ونشروه على مدى عشرين سنة (1809 – 1828م) في تسعة أجزاء من القطع الكبير للنصوص وأربعة عشر جزءاً من الأشكال. وشكَّل هذا المؤلَّف الضخم أول تعريف للقارئ الأوروبي لحياة الشرقي النمطية بكامل تفاصيلها وبطريقة “علمية” و”واقعية” و”موضوعية”.
طبعاً، لم تتوقف عملية استكشاف وتغطية وتمثيل الشرق علمياً ومنهجياً وواقعياً بانهزام الحملة الفرنسية وانسحابها من مصر، بل كانت تلك هي البداية التي أعقبها عمل مستمر وهائل قامت به أعداد كبيرة من الأوروبيين المستشرقين أو المنجذبين إلى الشرق، الذين بدأوا بالتوافد على هذا “الشرق” بأعداد كبيرة، إما كممهدين للحملات الاستعمارية، أو تابعين لهذه الحملات، أو كمغامرين مسافرين في أرجاء الشرق التي انفتحت أمامهم للسياحة والسفر والاستكشاف، بسبب من رغبة حكام هذا الشرق بالتواصل مع أوروبا المتفوقة والاستفادة من تفوقها في تحديث بلادهم. وعلى هذا الأساس نجد عدداً كبيراً من الأدباء والمفكرين والفنانين الفرنسيين مثلاً ابتدأوا بزيارة الجزائر والمغرب وتونس أحياناً، تقريباً مباشرة بعد احتلال فرنسا للجزائر عام 1830م، بغض النظر عن مقاومة القبائل الجزائرية لهذا الاحتلال، التي استمرت لعدة سنين من القتال المستميت والدامي، والتي لم تتوقف حتى استسلام الأمير عبدالقادر عام 1847م. والأمر نفسه ينطبق على بلاد الشام ومصر التي شهدت إقبالاً منقطع النظير، تزايدت وتيرته تصاعدياً منذ حكم محمد علي وحتى حكم الخديوي إسماعيل، الذي شهد عهده طوفاناً من الزوَّار، مما دفع شركة توماس كوك الشهيرة إلى تنظيم رحلات إلى مصر والأرض المقدسة، وداخل مصر إلى المواقع الفرعونية في الجنوب ابتداءً من عام 1868م. وكذلك ظهرت الكتب السياحية عن مصر والبلاد المقدَّسة بكافة اللغات الأوروبية، وأنشئت الفنادق في القاهرة والإسكندرية.
حملة نابليون جلبت أوروبا إلى الشرق وعادت بالشرق إلى أوروبا وفتحته للسياحة العلمية والثقافية التي كان من نتائجها ظهور الفن الاستشراقي الواقعي ورواجه لتلبية حاجات السوق البرجوازية الناشئة في الحواضر الأوروبية التي كانت متعطشة لكل ماهو شرقي.
انفتاح لم يلغِ الصورة القديمة
ولكن هذا الانفتاح على الحياة الشرقية، وسهولة السفر والعودة والتردد على الشرق بصور وانطباعات وملاحظات عن الطبيعة، لم يلغِ الصورة القديمة والغرائبية عن الشرق، بل يبدو أنه بطريقة ما أعطاها نفحة جديدة من الفاعلية والتأثير، إذ اكتست الفانتازيا الشرقية المعهودة في الإنتاج الأوروبي الفني والأدبي والعلمي عن الشرق كسوة من الوقائعية والإخبارية المباشرة، بحكم أن ناشريها أصبحوا في موقع يمكِّنهم من التأكد من صحة انطباعاتهم عن طريق ملاحظتها على الطبيعة بعد أن كانوا قرأوها في الكتب أو سمعوها في القصص أو رأوها في اللوحات الفنية والتمثيلية.
وهكذا أعيد تمثل الشرق على أنه الموئل الدائم للفانتازيا، المدعَّمة بالملاحظات على الطبيعة هذه المرة، الذي يمكنه أن يرضي الحاجة الأوروبية المتزايدة للغريب والمثير والمدهش، بعد أن أدخلت الثورة الصناعية والحداثة الاجتماعية قواعد صارمة وجديدة للحياة في الحواضر الأوروبية البرجوازية والفيكتورية، وقضت بطريقة أو بأخرى على الصدفة واللامبالاة والاسترخاء الكسول والتأمل، وكذلك على بعض المتع الحسية والروحية والنفسية. أي، بمعنى آخر، وفّر الشرق المتخيل والملاحظ للفنانين والأدباء منفذاً وملاذاً لشطحات خيالهم، بعدما قلصت المواضعات الاجتماعية الجديدة والمتطلبات المادية والإنتاجية من إمكانية ذلك في بلادهم، ولم تمنعهم معرفتهم الجديدة بالشرق من إلغاء دور الخيال في تعاملهم معه، بل والاعتماد على هذا الخيال المقوْلب ثقافياً في تصوير الشرق الواقعي والمعاصر لهم.
وما زالت هذه الانطباعات والصور تؤدي دوراً مهماً في استمرارية الصور النمطية عن الشرق في الوسط الثقافي في الغرب اليوم. بل وربما أصبح لها دور جديد في ترسيخ ذات الصور النمطية في أذهان متلقيها الجدد من الشرقيين أنفسهم، أي نحن، حيث إننا نجد أنفسنا في مختلف مناحي حياتنا الثقافية نعتمد عليها في استعادة ماضينا، من دون تفكير كبير في ما تستبطنه مما هو سلبي، ليس وفق معايير الغرب الاستعماري فحسب، ولكن بمعاييرنا المعاصرة نحن أيضاً، أو على الأقل وفق معايير الغالبية منا، بما أن ادعاء تمثيل آراء الجميع ادعاء لا يمكن التوصل إليه.
هذا الشرق، العربي والمسلم منه خصوصاً، كان ولم يزل يشكِّل النموذج الأمثل “للآخر” بالمدلولين المتكاملين: المعاكس والمكمل، الممجوج والمحبوب، المستعدى والمحسود. ولكنه كان على الدوام آخراً بكل مدلولات الكلمة من غرائبية واختلاف وتباعد وتعاكس وتضاد. وكل الوقائع المعاصرة ما زالت – مع الأسف – تثبت ذلك، على الرغم من بعض التعارف الذي نتج عن انفتاح حضارات العالم على بعضها بعضاً، وعلى الرغم من انتشار حضارة الاستهلاك وطغيانها على كل التعبيرات المحلية في العقود الأخيرة عن طريق الإنترنت ووسائل التواصل الافتراضي والاجتماعي.
اترك تعليقاً