مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2018

صناعة الفَرق من الأشياء البسيطة


رئيس التحرير

قبل أسابيع قليلة، وفي صباح اليوم الذي عرف بفوزه بجائزة نوبل في الاقتصاد، استمر وليام نوردهاوس يلقي محاضرته أمام الطلبة في جامعة ييل، وجعل منظمي المؤتمر الصحافي ينتظرون نهاية الدرس ليبثُّوا خبر الفوز. نشر حساب جائزة نوبل في تويتر صورة المشهد؛ فعلَّق أحدهم بالقول إنها الروح التي قادته إلى الجائزة، في حين كتبت أخرى أن مَنْ في مقامه سيتصرَّف بالمثل في هذا الموقف.
هذا مشهدٌ يدلنا على أولويات البروفيسور الفائز، والروح التي تسكن المبدعين أمثاله. ولكن الجميل هنا أن نرى تحت وهج جائزة نوبل الساطع، مشهداً من الزوايا الغائبة، وملمحاً من العادات الصامتة، تلك التي تتعاظم مع مرور الزمن، وتضيف إلى أصحابها قيمة إيجابية تصنع لهم فرقاً يُسهم في دفعهم نحو النجاح أو حتى نوبل.
مشهدٌ آخر أقرب إلى السريالية يُظهِر قيمة الفَرق في قصيدة “أثر الفراشة”، حين اقترب محمود درويش من هذا الأثر ليقول: “أَثرُ الفراشة لا يُرَى”، واصفاً رفرفة الفراشة الرشيقة بالخفية، فيما وضَّح عجز البيت مصير هذا الخفاء بوصفه: “أَثرُ الفراشة لا يزولُ”. وهذا كلام الفيزيائيين الذين يُعرّفون أثر الفراشة بأنه اختلافات صغيرة من حركة بسيطة ينتج عنها تغيّر كبير في النتيجة، ويمَثلون بجناحيها اللذين قد يُسببان فرقاً ويُسهمان بإعصارٍ على الجانب الآخَر من الأرض!
أنتجت ثقافات العالَم أمثالاً عديدة عن فكرة الطريق ذي الألف ميل الذي يبدأ بخطوة. غالباً لا أحد يحسب خطواته، ولكن ما إن يتأملها المرء فإنها تصنع له فرقاً في المسافة. يرى المبدعُ الأثر والخطوة والعادات الصامتة شذراتٍ من المعرفة والخبرة تستمر وتتراكم، ويفهمُ الإبداعَ بأنه ممارسة غير مألوفة لإدراك علاقة بين أشياء متآلفة عبر مراحل متتابعة، تبدأ بالتحضير ثم الكمون فالإشراق والتحقق.
وعن هذه الممارسة غير المألوفة، نظّم مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) مؤخراً، برنامجاً جديداً عن الإبداع، يهدف إلى إحداث تغيير في طريقة فهم الأفكار الجديدة، ويدعو المشاركين إلى استيعاب التغيير البسيط المضطرب “الزعزعة” وتطويعه. حمل البرنامج عنوان “تنوين”، إشارةً إلى تلك النون الساكنة التي تلفظ ولا تُكتب في آخر الاسم، التي اخترعها العرب مع حركات التشكيل الأخرى لحماية لغتهم من تأثير لغات الأمم الذين اختلطوا بهم. وبفضل هذا الاختراع البسيط، تطوَّرت الكتابة العربية وتجمَّلت، حتى وإن سبَّب تغيرها غير المألوف “زعزعةً” في بدايته. يقول الكاتب محمد طحلاوي: “التنوين يجعل اللغة العربية أجمل بما يُضفيه عليها من جرس في ختام الكلمات والجُمل؛ وكذلك الإبداع يجعل الحياة أجمل وأكثر استساغة بما يُضفيه عليها من بدائع صنع أهله”.
ودائماً، يتغزَّل صُنّاع اللغة باللغةِ وبأدواتها الصغيرة الفارقة. كتب سمير عطا الله مقالاً “في مديح الفاصلة”، ووصفها بأنها تفصل ما لا ينفصل، وبسحرها تجمع ما يصعب جمعه. ونشرت قبله مجلة التايم قطعة أدبية “في إطراء الفاصلة البسيطة” مشيرةً إلى أن الفاصلة تعطي الوصفَ تدفقاً ودقة، واقتبست عبارة للأديب الروسي إسحاق بابل تقول: “تجعلنا الفاصلة نسمعُ انقطاع صوتٍ أو خفقة قلب. في الحقيقة، إنَّ علامات اللغة إشارات حُب”، وعقبت المجلة قائلة إن تمييز هذه العلامات يدل على شغفٍ بالكلمات، والمحبُ فقط هو من يستثمر هذه الأشياء البسيطة!
وهكذا الأمر مع الـ “تنوين” وآفاقه الإبداعية الجديدة.


مقالات ذات صلة

为阿拉伯国家最著名的文化杂志之

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.


0 تعليقات على “صناعة الفَرق من الأشياء البسيطة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *