لو أخذنا الهجرة على مستواها الفردي الأبسط القائم على البحث عن حياة أفضل، لقلنا إن هذا الفرد ما إن يعقد العزم على الهجرة حتى تطغى عليه مشاعر وهواجس واهتمامات تُحيله شخصًا غير ما كان عليه، وستبقيه كذلك لبعض الوقت بعد وصوله إلى مهجره.
أول هذه الأحاسيس هو الشعور بالخيبة مما يقدمه له موطنه، يليه وعد بحال أفضل يمكن لموطن بديل أن يقدمه. وعند اتخاذ القرار بالهجرة، تصبح الخيبة من الوطن رمادًا يغطي حبه الفطري، كما يتعاظم الوعد ليصبح أملًا ومادة للرجاء. ولكن القلق مما قد يخبئه المستقبل، يمنع هذا الأمل من التحوّل إلى تفاؤل.
بالوصول إلى مرحلة التنفيذ، تتراجع هذه الأحاسيس لصالح أمور لا مكان فيها للمشاعر. فيتحوّل المهاجر إلى ما يشبه الآلة وهو يرتب أمور الذين سيتركهم وراءە، ويخطط للشكل الذي ستسلكه علاقته بهم لاحقًا ودوره في مستقبلهم على المدى المنظور، بموازاة الاستعدادات لما تقتضيه الرحلة منذ المغادرة إلى ما بعد الوصول. يحاول تحكيم العقل والحسابات الباردة، وينجح إلى حدٍّ ما في ذلك.
عند الوصول إلى المهجر، تبقى المشاعر بضعة أيام في المرتبة الثانية بعد السلوك الآلي في ترتيب الأمور. ولكن ما إن يترتب الحدّ الأدنى من أمور الحياة اليومية، حتى تستيقظ المشاعر القديمة لتمتزج بتحديات جديدة. ويصبح للمزيج اسم “كآبة المهاجر” التي تستمر في التصاعد مدة ثلاثة أشهر، وفق دراسة من إعداد “جمعية علم النفس الأمريكية” في عام 2012م، ومنشورة على موقعها.
تتألَّف هذه الكآبة من استيقاظ حنين المهاجر، أولًا إلى الناس الذين تركهم خلفه، ومن ثم إلى موطنه ككل، متناسيًا خيبته من ذاك الموطن. وفي الوقت نفسه، يجد نفسه أمام تحديات الوجود في موطن ذي ثقافة مختلفة، عليه إمَّا أن يعتنقها، وإمَّا أن يتكيّف معها. وعندما يكون هذا الاختلاف الثقافي كبيرًا يصبح في الأمر شيء من القسرية القاهرة. وهنا يختلف الحال من مهاجر إلى آخر، وأيضًا وفق الدافع وإمكانية الانصهار والقوانين في المجتمع المُضيف.
فالهجرة للعمل سنوات معدودة، تُعفي المهاجر من وجوب الانصهار في المجتمع الجديد، كما هو حال المهاجرين الآسيويين في دول الجزيرة العربية، أو اللبنانيين في البلدان الإفريقية الذين يُعرف عنهم أنهم غالبًا ما يعودون إلى بلادهم. على عكس الهجرة الدائمة التي توجب الانصهار، وهذه قضية معروفة تواجه المهاجرين إلى الدول الأوروبية وأمريكا وحكوماتها المُضيفة.
وأحيانًا، تكون الفروقات الثقافية كبيرة بما يكفي لأن تدفع المهاجرين من ثقافة واحدة إلى التجمع قريبًا بعضهم من بعض، كما هو حال الصينيين في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين أنشؤوا في كل مدينة كبيرة حيًا يُعرف باسم “شايناتاون”. وعندما تكون الفروقات الثقافية محدودة، يسهل انصهار المهاجر في مجتمعه الجديد، كما هو حال الإيرلنديين والألمان في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن، إن كان طابع الحزن هو الغالب على كل شكل من أشكال الهجرة قديمًا وحديثًا، فإن وسائل السفر القديمة البطيئة والمحفوفة بالمخاطر، وغموض الأحوال في وجهات المهاجرين، كانت تطبع المهاجر بطابع درامي يغلب عليه اليأس والاستسلام للزمن. أمَّا وسائل السفر الحديثة، فقد خففت بسرعتها وسلامتها من حدة هذه الدراما؛ لأنها تُوهم المهاجر أن العودة إلى موطنه الأصلي ممكنة، حتى لو لم يكن ينوي ذلك.
في الاقتصاد.. وجها العملة الواحدة
خلافًا للصورة الرمادية على المستوى الإنساني، يرى الاقتصاديون أوجهًا إيجابية عدة للهجرة الدولية؛ إذ تسهم في ردم الهوة ما بين الدول الغنية والفقيرة، بتوفير فرص عمل تزيح عن الدول النامية جزءًا كبيرًا من عبء البطالة. كما أنها تلبي احتياجات الدول الغنية والصناعية إلى الأيدي العاملة على مستويات مختلفة من المهارات. حتى إن هناك ما يشبه الإجماع عند الاقتصاديين على أن المهاجرين هم مكوّن أساس لنمو اقتصادي مستدام في البلدان الصناعية. وفي المقابل، تؤدي هجرة الأدمغة والمهارات العليا إلى إفقار البلدان النامية بالعناصر البشرية اللازمة لتنميتها، ولكنها قد تستعيض عن ذلك بحجم التحويلات التي تردها من المهاجرين.
فاستنادًا إلى تقرير لوكالة الأمم المتحدة للهجرة، حوّل المهاجرون في العالم خلال العام الماضي 2023م، نحو831 مليار دولار أمريكي إلى أوطانهم، كان من بينها 647 مليارًا إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لدعم عائلات المهاجرين وتأمين مستلزمات عيشها والإسهام في تنمية بلدانهم. ويمكن أن تشكل هذه التحويلات جزءًا من الناتج المحلي الإجمالي لتلك البلدان. وعلى الصعيد العالمي، تتجاوز هذه التحويلات الآن الاستثمار الأجنبي المباشر الموجود في تلك البلدان.
ويصف التقرير المذكور المهاجرين بأنهم محرّك التنمية المستدامة. ويسلِّط الضوء على أن الهجرة الدولية لا تزال محركًا قويًا للتنمية البشرية والنمو الاقتصادي، وهو ما أبرزته زيادة التحويلات الدولية بنسبة تزيد على 650% في الفترة من عام 2000م إلى عام 2022م، إلى أن وصل الرقم إلى 831 مليار دولار أمريكي في العام التالي. واستمر هذا النمو على الرغم من توقعات كثير من المحللين أن التحويلات كانت ستنخفض بشكل كبير إثر كوفيد19-.
ومن الأرقام الواردة آنفًا، يتضح أن البلدان النامية ليست وحدها المستفيدة من تحويلات المهاجرين، بل إن نحو 180 مليار دولار تُحوّل إلى بلدان صناعية وغنية، صدّرت مهاجرين من المستثمرين، أو من أصحاب المهارات المهنية العليا.
ومن خلال النظر إلى نتائج التقرير الرئيسة، يتضح أنه في حين أن الهجرة الدولية لا تزال تدفع التنمية البشرية، إلا أن التحديات لا تزال قائمة على صعيد الأزمات التي يتسبب فيها النزوح الذي يشكّل عبئًا على الدول المُضيفة في مرحلة أولية على الأقل، إلى أن يُؤهّل النازح للاستفادة من طاقته الإنتاجية إذا كان ذلك ممكنًا.
اترك تعليقاً