لا يوجد نصّ بشريّ ليس له مسوّدات خلال الكتابة. هنالك دائمًا مسودة واحدة على الأقل، وهنا يكمن سرُّ سحر المسودة الأولى. هذا السحر الذي غالبًا ما يثب فوقه المؤلفون هرولةً وكأنهم يتسابقون لإنجاز أكبر قدر من مسودات الكتابة قيد الإنجاز. أذكر جيدًا حين أخبرني الكاتب المصري خيري شلبي عن احتفاظه بأربعين مسودة ورقية لرواية واحدة. إنه عمل جبار وهو الكاتب الذي بقي حتى مغادرته الحياة في عام 2011م، مواظبًا على الكتابة بالقلم والورقة.
أي جهد قام به خيري شلبي وهو في طريق إتمام الرواية! كنت حينئذٍ في العشرينيات من عمري، مأخوذًا بهذا الجهد اللافت، وفاتني أن أسأله السؤال الأهم: ماذا بقي من المسودة الأولى؟ ما نسبة التغيير التي طالت النسخة الأولى من عمله الأدبي؟ ماذا ألغى من القصة الأصلية؟ وماذا أبقى؟ ما الذي استبعده بالضبط؟ هل هو شيء يخُصّه أم يخص الآخرين؟ فالقول إن الكتابة هي إعادة الكتابة، قول شائع بقدر ما هو متسرّع، هنالك شيطان يعيش في التفاصيل ولا بدَّ من نكزه!
في علم النفس التحليلي للسويسري كارل يونغ، هنالك احتفاء بمفهوم “الظل الشخصي”، وهو ما يتوافق بحسب أستاذ الأدب المقارن، ستيفين إف ووكر، مع مفهوم اللاوعي عند فرويد؛ أي الجانب المكبوت من النفس الفردية. عدَّ يونغ المواجهة مع الظل، مع الجانب الشرير من النفس الفردية، أعظم قيمة نفسانية. ويضرب “ووكر” مؤلف كتاب “يونغ واليونغيّون والأسطورة” مثالًا مهمًا حول تمثلات مفهوم “الظل” في الأدب برواية “حالة الدكتور جيكل ومستر هايد الغريبة”، التي كتبها روبرت لويس ستيفنسون عام 1886م، وهو يعاني نوبات هلع قضّت مضجعه، حين استفاق في إحدى الليالي وسرد لزوجته فاني أوزبورن الكابوس الذي كان البذرة الأولى للرواية، التي قرر بدايةً، تحريرها ونشرها على شكل قصة، لكنه شمّر يده ليكتب رواية مطولة عن شخصية الدكتور جيكل وشخصية مستر هايد (الظل) الشرير المرعب وهو تحت تأثير الحلم. أنجز ستيفنسون المسودة الأولى، لكن زوجته طلبت منه إعادة الكتابة لإبراز ما تتضمنه الرواية من مغزى أخلاقي كان قد غفل عنه ستيفنسون، بسبب التأثير المثير للحلم.
كانت “المسودة الأولى” بالنسبة إلى الزوجة المدافعة عن الأخلاق الفيكتورية “قطعة رائعة من الإثارة الحسيّة”، وهو رأي دفع ستيفنسون إلى الدخول في نوبة غضب وامتعاض من سوء تقدير الزوجة لمسودته الأولى للرواية؛ لينتهي الأمر برمي هذه المسـودة في النار. وهنا يعلّق ووكر: “من الصعب على المرء ألا يأسف على إهماله للنسخة الأولى من القصة، التي يرجح أنها كانت تحتوي على كثير من الحقائق النفسية، وقليل من إضفاء القيم الأخلاقية الفيكتورية التقليدية”. فما فعله المؤلف في المسودة اللاحقة هو التخفيف من أسطورة الظل إلى حد بعيد انصياعًا لعرف المجتمع، وهو ما أفقد المسودة الأولى بعض لآلئ اللاوعي التي من المرجح أنها فُقدت، وإن كانت هذه الواقعة فتحت الطريق للتفكير في ارتباط المسودة الأولى من العمل الفني باللاوعي.
العدو داخل الحلم
قبل قراءة كتابة ووكر بعام، لاحظت وأنا أحرر مسودات روايتي أنني أقوم بشكل واعٍ بعمل تصفية متعمدة لما سقط من اللاوعي في المسودة الأولى، وإبقاء ما أريد له أن يبقى، وإزالة ما أريد له أن يُزال. وكأن الانتقال من المسودة الأولى إلى المسودات اللاحقة، يشبه الانتقال من اللاوعي إلى الوعي، فالعمل في منطقة التخييل الفني يشبه العدو داخل حلم، استجابة لرغبات مكبوتة بالمعنى الفرويدي، في انقطاع عن الوعي إلى النوازع الأولى المضمرة. من هنا فقط انتبهت إلى أهمية المسودة الأولى، ليس للآخرين، بل للمؤلف نفسه، في مساعدته على فهم ذاته قبل فهم الآخر.
ولتقريب الأمر سأضرب مثالًا آخر مع فِلم “ترياق”، الذي كتبته عام 2014م، ويروي قصة طفل يتتبع مغنيًا شعبيًا في التسعينيات، ويحاول تسجيل أغنياته خفية. بقي هذا النص في الأدراج سنوات طويلة، حتى أنتج أخيرًا في عام 2023م. طوال هذه السنوات كنت أحافظ على المسودة الأولى ضد كل عوامل التجريد الفكرية الرئيسة من جوهرها، وهي رغبة الطفل في الوصول للمغني والموسيقى، وحين سألتني مستشارة النص المصرية هالة جلال، حول طريقة كتابة النص وهي تتنقل بين الطفل والمغني، أخبرتها في ذلك المساء، أي بعد ست سنوات من كتابة السيناريو، أني انتبهت أخيرًا إلى أن شخصية الطفل في الفِلم ليست سوى انعكاس لذاتي.
حين كنت صغيرًا كنت أبحث على دراجتي في أزقة البلدة البحرية عن مجلس المغني الوحيد في البلدة، المكان الوحيد الذي كان ممكنًا فيه سماع الموسيقى حيّة. لكنني في الواقع (أي في التسعينيات) لم أعثر على بيت هذا المغني ولم أحضر له، غير أن بطل فِلمي، الطفل الصغير، عثر على المغني، بل دخل مجلسه وسجل صوته؛ ولهذا قمت بتغيير اسم الشخصية في المسودة الأخيرة للفِلم، من “عبود” إلى “علي”، كنوع من بناء جسر واضح بين اللاوعي والوعي في سيناريو الفِلم الذي فاز لاحقًا بجائزة النخلة الذهبية لأفضل فِلم روائي قصير في مهرجان أفلام السعودية 2023.
القول إن الكتابة هي إعادة الكتابة، قول شائع بقدر ما هو متسرّع، فهنالك شيطان يعيش في التفاصيل ولا بدَّ من نكزه!
المؤلف وسلطة القراءة
هذا هو جانب من الشق النفسي المهم في التعامل مع المسودة الأولى، لكن هنالك أيضًا الجانب التقني والفني. فالمسودة الأولى للرواية أو النص السينمائي، هي الطريقة التي يرى فيها المؤلف قصته. لكن ماذا يحدث حين يقرأ الأصدقاء هذه المسودة؟ أو كحالة ستيفنسون، حين تقرأ الزوجة رواية زوجها. فكل قارئ يضع نفسه محل المؤلف؛ أي تمارس القراءة سلطتها على التأليف، وهو ما يتطلب وعيًا بالغًا من المؤلف في الإصغاء لملاحظات الآخرين بحذر شديد؛ لكيلا تُمس المسودة الأولى أو تفقد سحرها الأول.
جرت العادة، أن يرسل صنف من المؤلفين مسودة الكتاب أو السيناريو، وهو في طور التشكل، إلى الأصدقاء من كتاب وقرّاء محترفين لقراءتها، غير أن هؤلاء أو بعضهم ينسى موقعه ويعيش دور المؤلف فيقترح عدة اقتراحات وكأنه المؤلف الأصلي، وهو ما يُعرّض الكتاب لخطر فقد هدفه الأصلي، كما ينبه الروائي أحمد سعداوي.
الشكل الأخير للنص
هنالك مثل لطيف خارج مضمار الكتابة، يقول: “الطبخة التي تطالها أكثر من يد، تحترق”. لهذا، نلاحظ فشل كثير من ورش الكتابة الجماعية في الحفاظ على روح منسجمة للعمل الفني. في المقابل، تحتفظ الكتابة الفردية على روح ساحرة للإبداع، وهو ما نُرجعه دومًا إلى الحفاظ على سحر المسودة الأولى. المسودة التي تتطلب دومًا عناية فائقة من المؤلف في التعامل معها، فهو وإن أرسل المسودة إلى أهم محرر في العالم، عليه أن يؤمن بأن داخل هذه المسودة، تسكن أحلامه وهواجسه وخيالاته وظلال شخصيته، وإن غدت غير مرئية للآخرين، بل حتى لنفسه، في كثير من الأحيان.
بعض المؤلفين المحترفين يتعاملون بطريقة أخرى مع المسودة الأولى، يتركونها في الدرج تتخمر على مهل. في تلك الأثناء، يغادرون لكتابة عمل جديد، تاركين مسافة بين كتابة النسخة الأولى من النص وبين تحرير مسودات جديدة، وصولًا إلى الشكل الأخير للنص الإبداعي. البعض الآخر لا يثق بالزمن والعمر، فتجده يسارع إلى تحرير نسخ متعددة، حتى لو بلغ الأربعين. فالمهم بالنسبة إليه هو الحصول على نص متماسك ومتقن يمكن زجه في الطباعة.
روح وودي آلان
في عالم السينما، هنالك من يكتب فِلمه في سنوات من التأني والتنقل بين النسخ، حتى لا يبقى من سحر المسودة الأولى شيء، أو يبقى كل شيء. وهنالك المخرج الأمريكي وودي آلن، مثلًا، الذي يذكر في كتاب “وودي آلن عن وودي آلن”، أنه يكتب الفِلم الروائي الطويل في غضون أسبوعين، ثم يحرر نسخة جديدة للتصوير ويُخرج الفِلم. وإذا شاهدنا أفلام وودي آلن، فسنلاحظ أن لها روحًا واحدة تميّز جميع أعماله، وهي روح وودي آلن، حتى لو لم يمثّل في فِلم من كتابته وإخراجه، فإن ظله حاضر في الشخصيات والفِلم كوضوح الشمس.
هنالك نوع آخر من المؤلفين ممن يمكن تسميتهم بالمؤلفين الخبراء، وهم مَن وصلوا إلى درجة عالية من معرفة ذواتهم. فهؤلاء جربوا التعامل الطويل مع المسودة الأولى، خبروها وتفننوا في التعامل معها، ومن ثَمَّ صاروا أكثر وعيًا وحرية في الانتقال إلى المسودة الثانية حتى الأخيرة. هذا الضرب من المؤلفين هم، بلا شك، من خامة دوستويفسكي وتشارلز ديكنز وكبار مؤلفي القرن التاسع عشر، فقد برز هؤلاء الكتّاب في كتابة سلاسل الحلقات الروائية المطولة في المجلات، وكانوا يعملون تحت ضغط الوقت ورسائل مطالبات الناشر لتسليم الحلقات الروائية لإرسالها للطباعة؛ لهذا كانت كتاباتهم مادة للدراسة النفسية العميقة، كرواية “الجريمة والعقاب” التي وُصفت بأنها هدية لعلم النفس التحليلي.
أخيرًا، إذا كان المؤلف مشغولًا بالتفكير في الحلول التقنية والفنية لمعالجة المسودة الأولى، فإنه قطعًا لن ينتبه لسحر مسودته الأولى. أمَّا إذا كان مأخوذًا بسر البصمة الفردية الإنسانية في الكتابة، فإنه سينحاز مثلي إلى التفكير في سحر المسودة الأولى، وأهمية التعامل معها بحذر واهتمام في آنٍ؛ لأن أعظم الأعمال السينمائية والروائية التي مرت عليه، هي تلك التي رفضت، بالرغم من كل الضغوط والإكراهات والآراء الخارجية، أن تتخلى عن الاتصال مع الإلهام الأول للعمل الإبداعي، الذي يقبع أولًا في المسودة الأولى.
اترك تعليقاً