عدد رمضان المبارك 1387هـ (ديسمبر 1967م)
رمضان بين الشهور، شهر ذو شخصية مميزة. تمامًا كما يبرز رجل بين الرجال فتكون له شخصية تجعله مميزًا بين زملائه بحيث يكون مرموقًا مهابًا مسموع الكلمة.
رمضان لا يأتي نهاره كالنهارات، ولا ليله كالليالي، وإن كانت شمسه هي الشمس، وليله هو الليل، وقمره هو القمر.
لقد جعل رمضان من النهار شيئًا مختلفًا عنه في الشهور الأخرى، وكذلك جعل من الليل ومن القمر، ومن الناس، ومن كل شيء أحاط به.
إنه يوقظ في الناس معاني غافية أو تكاد، ويبعث في قلوبهم روحًا من أرواح القداسة، تغير من نفوسهم، ومن عاداتهم، ومن مواعيدهم، ومن معاملاتهم، ومن علاقاتهم لتجعل من كل ذلك شيئًا مختلفًا.
إنه تغيير فذ لروتين الحياة اليومية، فقد اعتاد الناس أن يملُّوا الأمكنة فيغيروا منها، ليحصلوا على نوع من التجديد يروّح عن نفوسهم ويدفع عنها السأم. وكذلك الحال بالنسبة لرمضان في الأزمنة، فهو تجديد زماني يدفع عن النفوس سأم الرتابة اليومية عدا الجانب الروحي، الذي هو الأصل.
أما وأن رمضان شهر ذو شخصية، فقد كان وما زال وسيظل إن شاء الله محل الحفاوة والترحيب. يرتبط ذكره دائمًا في حياة الناس بمجموعة كبيرة من الذكريات، تنشأ معهم وهم صغار وتنمو بنموهم، حتى يدخلوا في عداد الصائمين بحق وحقيق. أقول بحق وحقيق ليخرج أولئك الصغار الذين تعودنا أن نطلق عليهم “الصائمون من وراء الزير”.
وهذه التسمية قد لا تكون واضحة الآن في بعض المجتمعات التي اختفى “الزير” من حياتها، فلم يعد معروفًا ولا مألوفًا. والزير هو الإناء الفخاري الذي اعتاد السقَّاء أن يودع فيه الماء المستعمل للشرب ولغيره من الأغراض.
هذا الزير، كان يختفي خلفه أي طفل من الصغار، المتظاهرين بالصوم، ليتجرع في خفية قليلًا من الماء يبلّ به فؤاده الصائم. وقد يستعمل الطريقة نفسها للحصول على شيء من الطعام، ثم يفتخر قبل ذلك وبعده بأنه من الصائمين .. أعني الصائمين عن الصوم.
ذكريات الصيام إذن تبدأ من هذا العهد.. وهي تنداح في عهد الصبا، حينما يبذل الصبيان جهودًا حقيقية للصوم، أو لمحاولاته الأولى، ثم تكبر في ليالي رمضان في الشباب الباكر.
ففي رمضان اعتاد الناس السهر، واعتادوا بعد انقضاء صلاة التراويح أن يلتمسوا وسائل للتسلية يقضون فيها سهراتهم. منهم من ينقطع إلى العلم وحلقاته. ومنهم من ينطلق إلى الأسواق.
وللأسواق في رمضان بهجة ورونق. فالحوانيت تستعد للعيد، وتتزين، وتغص بأطايب الطعام، وأطايب اللباس، وأطايب الحلوى الخاصة في الليالي الأخيرة من الشهر المبارك، على مشارف العيد، ومنهم من يقضي السهرة مع شلته لاهيًا لاعبًا، أو منتدِيًا مستفيدًا.
وقد دخلت ليالي رمضان التاريخ العلمي والأدبي، فدُونت بها محاضرات في العلوم الدينية والأدبية. وتحتفظ المكتبة العربية بعديد من الكتب عن رمضان، ووظائفه، وعباراته وأدبياته. عُنيَ بذلك القدامى، وعني به المحدثون ، حتى يصح أن نقول إن هناك مكتبة رمضانية.
وبعد ذكريات الطفولة والصبا، والشباب الباكر، تتخذ الذكريات الجادة طريقها إلى حيوات الناس. وإذا كانت هذه الذكريات تمثل قاسمًا مشتركًا بين الناس جميعًا. فإنها تختلف في كل فرد عنه في غيره باختلاف ظروفه الخاصة، وظروف البيئة التي ينشأ فيها والتقاليد التي يألفها. كما تحتفظ كل مدينة بحياة رمضانية خاصة قد لا تتوفر في الأخرى.
فرمضان في مكة المكرمة مثلًا غيرُه في المدينة المنورة، وإن تشابهت الحياة كثيرًا في الحرمين، وهو في غيرهما من المدن مختلف عنه فيهما.
من ذاكرة القافلة: عدد ديسمبر 1967م (رمضان المبارك 1387هـ)، ص15.
أما ذكرياتي الخاصة عن رمضان، فإنها تتقارب كثيرًا مع ذكريات لِدَاتي ممن نشأوا في مكة المكرمة. صمت كما صاموا من وراء الزير. ثم أخذت أتدرج في الصيام أمام الزير. ثم ألِفت الصوم وتعودته في سن مبكرة، فنعمت بأطايب طعام الصائمين في الفطور.
وكنت في المرحلة الابتدائية أوزع ليالي السهرة على مرحلتين، المرحلة الأولى للحرم والمذاكرة وصلاة التراويح. وكان إمام الحرم على أيامنا فضيلة الشيخ عبدالظاهر أبو السمح، رحمه الله، وكان ذا صوت رخيم، وتلاوة جميلة، فكانت صلاة التراويح خلفه متعة روحية، لا تعد لها متعة. أما المرحلة الثانية فللّعب في “الحواري” والمشاركة في “الزومال”، وكان لنا من اللعب فنون، من “الاستغماية” إلى “اللانديه” إلى “يابونا جانا الذيب”، إلى “الكبت” إلى “الضاع” وذلك في ليالي القمر، أو تحت “اتريك” البلدية.
ولكل من تلك الألعاب شرح يطول. فالزومال نوع من الفلكلور الشعبي الجميل، وهو عبارة عن أغانٍ جماعية، يؤديها الأولاد الذين ينطلقون خلف منشد، جميل الصوت في العادة، ينشد كلمات “الزومال” فيرددونها من بعده.
وكانت لنا أناشيد شعبية كثيرة من أمثال “سرى الليل يا سنبلان”، وهذا النشيد متأثر بالبيئة المكيّة التي تختلط بكثير من الجاليات الأجنبية. و “ايش جاب الكرنتينا في بلدنا؟ في بلدنا كرنتينا؟!”، و “جينا من الطائف.. والطايف رخا” ، و “يا سارية خبريني”.
وتستهدف بعض هذه الأناشيد نقدًا اجتماعيًا أو غزلًا، بينما قد تخلو بعضها من أي هدف مفهوم، فلا تعدو أن تكون كلامًا موزونًا مقفى.
ثم تغيرت ألوان سهراتي، وبالتالي ذكرياتي بعد المرحلة الابتدائية. فاستولت المذاكرة الجادة على معظم السهرة الرمضانية، كما باقيها في دكاكين الأصدقاء من الذين تقوم دكاكينهم في وسط الأسواق الخاصة بالناس، للفرجة على السوق والذاهبين الآيبين، ولقضاء الوقت في ألوان من الأحاديث قد يكون الأدب أحدها، وكثيرًا ما يكون.
وكانت جلساتي عادة إما في مكتبة حيث يطيب حديث الأدب أو الكتب؛ أو عند تاجر قماش، حيث لا ترى إلا الألوان الزاهية والأقمشة الجميلة؛ أو عند بائع عطور وتحف، حيث أصيب أحيانًا من عطره، ونادرًا ما أصيب من تحفه، فهي أغلى من أن تسع لها جيب فتى فقير.
ويرتبط رمضان عندي بذكريات أدبية فى باكورة الشباب، وبعد أن أطلّت مطالعاتي على دنيا الأدب. فقد أخذت أقرأ طه حسين في “أيامه”، وفي “هامش السيرة” في أحد الرمضانات. كما كنت بُعيد صلاة التراويح أجمع أفراد أسرتي، وهم آنذاك قلة قليلة لا أجد عناء في جمعهم، ثم أشرع أقرأ لهم طه حسين في صوت أحاول أن أجعله قريبًا من صوته من ناحية الأناة والتؤدة، لا من حيث النبرة. وكنت أجد متعة في كتابَيْ الدكتور المؤلف، وكان أعضاء الأسرة يشاركونني في بعض هذه المتعة، وإن كانوا لا يصبرون لها صبري.
ومن ليالي رمضان الممتعة ليالي رمضان في المدينة المنورة، وليالي رمضان في الطائف. ففي السبعينيات قضيت شهر رمضان مرة في المدينة المنورة، وكان من أمتع ما قضيت من رمضانات. صدرُ الليل كان في الحرم النبوي الشريف، أما عجزه فكان في دور الأصدقاء من أهل المدينة المنورة الذين كانت لهم دوريات حافلة بأحاديث العلم والأدب والسمر الجميل. كما كنت أذكر رمضانًا من رمضانات الطائف أقضي فيه بعض السهرة في ندوة علمية أدبية هي مجلس الفقيه الراحل الشيخ محمد ابن مانع رحمه الله. وكان حينذاك مديرًا للمعارف، وكان مجلسه ندوة حافلة بأطايب حديث العلم والأدب والكتب والسمر الممتع.
وبعد، فما أكثر حديث الذكريات الرمضانية .. وما أطوله .. وما أطيبه.
عن الكاتب:
عبدالعزيز بن أحمد الرفاعي، أديب وشاعر سعودي. مستشار سابق في الديوان الملكي، وعضو في مجلس الشورى. من مؤسسي مجلة عالم الكتب، وأول مدير عام لمؤسسة اليمامة الصحفية.
اترك تعليقاً