يندر أن يرتبط فنان بمدينة كما ارتبط جواد سليم ببغداد، أو أن يغيِّر عمل فنان شكل مدينة كما فعل نُصب الحرية في بغداد، ويندر، للغاية، أن تكون العلاقة بين ثلاثي: المدينة والفنان وعمله مشابهة لعلاقة بغداد وجواد سليم ونُصب الحرية، وعلى هذه الشاكلة من الدرامية والجمال، بالأخص.
ولد جواد سليم عام 1919م، أي قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعامين.
كان كل أفراد الأسرة من الفنانين، والده كان رسَّاماً بارعاً. ولمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس “المملكة العراقية”، شارك الطفل جواد في أول معرض للأعمال الفنية، يُقام في جناح متواضع من (المعرض الصناعي-الزراعي)، إلى جانب بعض الأساتذة والطلاب الموهوبين، ونال جائزة فضية عن عمل نحتي.
بعدها بسبع سنوات سافر، جواد، إلى فرنسا في بعثة دراسية من الحكومة لدراسة الفن. ووقعت الحرب العالمية الثانية واحتل الألمان فرنسا، فذهب الطالب إلى روما لسنة دراسية، وعاد بعدها إلى بغداد، ثم غادرها ثانية إلى لندن في بعثة طويلة، هذه المرة (1946 – 1949م). وهكذا منحته المدن الثلاث والسنوات الدراسية الخمس فرصة مثالية للتعرُّف على الفن الأوروبي الحديث بكل تياراته المتصارعة، وهو المحمَّل بإرث قديم هائل من حضارات ما بين النهرين والحضارة العربية والإسلامية في عصورها الذهبية.
تحوُّلات بغداد
حين عاد، جواد، إلى بغداد، كان العراق في طور بناء مجتمع حديث، ويشهد تكوّن طبقة وسطى برجوازية، ويسعى لقيام نهضة صناعية وزراعية في أنحائه، مع بعض التطوُّر في إطار النهضة الفكرية العامة، خصوصاً في الأدب والفن، لكن السلطة قد أضحت أكثر استبدادية.
خلال العقود الثلاثة الأولى من عمر المملكة العراقية كان قلب بغداد يتغير بإيقاع متنامٍ، فَهُدمت أحياء وبيوت لتشق طرق حديثة لتسير بها السيارات التي تضيق عنها الأزقة. فوجدت عائلات الطبقة الوسطى النامية والصاعدة نفسها تبيع، وتنتقل، من بيوتها القديمة إلى أحياء جديدة بعيدة بعض الشيء. عائلة الحاج سليم طالها بدورها الهدم والانتقال فذهبت إلى الوزيرية على بعد بضع كيلومترات من بيتها القديم؛ القريب من قلب المدينة.
بدأ جواد يشق ملامح مدرسة بغدادية جديدة في الرسم الحديث، وانصرف إلى التأمل في الفن الإسلامي، وراح يحاول أن يقبض على ألوان الخزف العباسي وطلاء القباب وزخرفة المآذن. واستغرق في رسم النساء الشعبيات، ومنها تلك اللوحة الرائعة لامرأة تحمل على رأسها صندوق العرس، ولوحة النساء حاملات ماكينة الخياطة. ثم جذبه النحت بعيداً عن الرسم.
نصب الحرية
جاءت فكرة نصب الحرية من المهندس المعماري رفعة الجادرجي (1926 – 2020م). فلقد اقترح إقامة جدار عريض مرتفع، في ساحة من ساحات بغداد الكبرى، على هيئة بوابة عالية أو لافتة تستند من جانبيها على الأرض. وكان المطلوب من جواد نحت بارز من مادة البرونز، يُعلَّق على صدر اللافتة. أما جواد، فلم يكن يريد النصب مرتفعاً ومعلقاً بعيداً عن المارة. أراده قائماً على الأرض في متناول الناس، بحيث يستطيعون الاقتراب منه وتفحصه عن كثب وتلمس منحوتاته بالأيدي.
وقع الاختيار على ساحة التحرير كمكان لتشييد النصب، وكان قلب بغداد قد تحدَّد بصورة تامة. فالساحة مفتوحة مباشرة على جسر الجمهورية، وملاصقة تقريباً لنهر دجلة، وإن كانت في زاويتين مخفيتين تقريباً على تماس مع شارعي أبو نواس وشارع الرشيد، أحد أهم وآخر شوارع الحقبة العثمانية بطرازه الفريد. وفي الاتجاهات الثلاثة الباقية، تنفتح الساحة على شارع السعدون، حيث دُور المسرح والسينما والمكتبات والحياة الثقافية والفنية، وفي الجهة المقابلة شارع “الملك غازي” الذي أصبح شارع الجمهورية، وفي الجهة الأخيرة حديقة الأمة.
أعطيت لجواد الحرية الكاملة في عمل الأشكال النحتية التي يتضمَّنها النصب، وعددها أربعة عشر شكلاً (كمعادل ليوم 14 الذي شهد قيام ثورة 1958م)، باستثناء منحوتة الجندي العراقي التي أُريد لها أن تكون كلاسيكية الطابع، تمثل مقاتلاً يرتدي البزة العسكرية بلا شطحات حداثية أو تجريدية.
سافر جواد برفقة زوجته وطفلتيه إلى فلورنسا في إيطاليا، للعمل على تفاصيل النصب. وبقى هناك لسنة ونصف السنة، عاني خلالها من متاعب صحية ونفسية طاغية. أثناء ذلك وفي العيد الأول للثورة أراد الزعيم إزاحة الستار عن النصب، وكان ذلك مستحيلاً فالعمل المضني لم يكتمل، وكان الحل هو إرسال القطعة النحتية الوحيدة التي اكتمل العمل فيها، وهي تمثل امرأة تحمل مشعلاً وترمز إلى الحرية، ليجري تعليقها على الجدار، ويزاح الستار عنها في عيد الثورة إنقاذاً للموقف.
وفي نهار 13 يناير 1961م، وكان يوماً شتائياً بارداً، جرى صف المنحوتات الثلاث عشرة على الرصيف في ساحة التحرير، أمام الجدار المرمري الأبيض الشاسع، استعداداً لتعليق كل قطعة في مكانها، وتسلَّق جواد الجدار فشعر بالتعب، لكن المشهد كان يستحق المجازفة.
وكما تذكر زوجته، نظر الفنان إلى عمله شبه مكتمل للمرة الأولى، وكانت تلك هي النظرة الأخيرة أيضاً. ففي الصباح التالي أصيب بالذبحة الصدرية التي أودت به. فبعد عشرة أيام من العلاج، غير المجدي، لفظ جواد أنفاسه الأخيرة في صمت وهدوء، وكان دون الثانية والأربعين من عمره.
أما حفل إزاحة الستار عن نُصب الحرية، الذي لم يحضره جواد، بالطبع، ولا زوجته التي أشرفت على إتمامه بعد وفاة زوجها، فجرى بعد ستة أشهر، في موعده المقدر، ضمن الاحتفالات بالذكرى الثالثة للثورة.
اترك تعليقاً