مع أن الطماطم منتشرة اليوم في جميع أنحاء العالم، وتحوَّلت إلى غذاء أساسي على الموائد، غير أنها لم تكن تُعَدّ كذلك فيما مضى. فلم تنتشر الطماطم في أوروبا إلَّا في القرن الثامن عشر، ولم تُعرف في آسيا والبلدان العربية إلا خلال القرن التاسع عشر، وقد أصبحت اليوم أحد المحاصيل الأوسع إنتاجاً في العالم، ويشكِّل الدخل العالمي من الصناعة القائمة عليها أكثر من 190 مليار دولار، بإنتاج عالمي يتجاوز مجموعه 185 مليون طن.
إن ثَمَّة تاريخاً طويلاً ومشوّقاً للطماطم، حتى أضحت عنصراً ضرورياً على كل مائدة. واليوم تقدَّمت الطماطم إلى مقدِّمة الصفوف في الثورة الغذائية، استجابة لمشكلة التبدُّل المناخي.
تُنسَب الطماطم عادةً إلى المطبخ الإيطالي، ويمكن التسامح مع مَن يظن أن الطماطم جاءت من إيطاليا. إلا أنها في الحقيقة، مثل كثير من المحاصيل المنتشرة اليوم في العالم، مما نأكله، مثل البطاطس، والذُرة، والفلفل، والأفوكادو، وغيرها كثير، جاءت من القارتين الأمريكيتين. ففي مقالة نُشرت في مجلة “سميثسونيان”، في يوليو 2015م، أن السَلَف البرِّي الأول لجميع أصناف الطماطم المدجَّنة اليوم في الاستعمال من أجل الطعام، يدعى: Solanum Pimpinellifolium SP ومصدره أمريكا الجنوبية، في بلاد الإكوادور وبوليفيا وتشيلي وبيرو.
إن بذور هذه الشجيرة مترامية الأطراف، هي في حجم حبة البازلّاء. لكن ما ينقصها في الحجم، تعوِّضه بقوَّتها ومتانتها. فهي قادرة على العيش في بيئات صحراوية جافة وحارَّة، وفي الأدغال الرطبة، وعلى المرتفعات المعتدلة، وسفوح الجبال. ولا يزال يمكن للمرء أن يرى الطماطم تنمو في البراري، في جبال الأنديز، حيث مَنشَؤها الأول.
من ثمرة محلية إلى محاصيل دولية
ومع الوقت تحوّرت طماطم SP إلى ما يسمَّى Solanum lycopersicum var. cerasiforme SLC، الذي أثبتت الأبحاث الأخيرة المنشورة في مجلة “البيولوجيا الجزيئية والتطوُّر” (Molecular Biology and Evolution)، في يناير 2020م، أن هذه المتحوِّرة من الطماطم ظهرت في الإكوادور قبل 80,000 عام. وتحمل هذه النبتة ثماراً بحجم الكرز، وينبت صنفها الشمالي بكثرة فيما بين براري جنوب الولايات المتحدة وأمريكا الوسطى، وهو جينياً أقرب متحوِّرات الطماطم إلى الطماطم المدجَّنة التي نعرفها في أيامنا هذه.
كان أول مَن زرع طماطم SLC، عدد من الشعوب الأمريكية الأصلية، وهي شعوب المايا، والأزتيك، والبويبلو. وعبر الانتخاب الصناعي، تحوَّلت طماطم هذه المتحوّرة إلى شكل الطماطم الحالية المسمّاة Solanum lycopersicum var. lycopersicum SLL منذ نحو 7,000 عام، في مناطق المكسيك الحالية. سماها الأزتيك: كزيتوماتل xitomatl. وكان أحد الأطباق التي طبخوها منها مزيجاً من عصير الطماطم والفلفل الحار وبذور اليقطين المطحونة. واليوم نسمِّي هذه الخلطة: الصلصة. ويُعتَقَد أنهم كانوا يتبادلون الطماطم هدايا فيما بينهم في المناسبات الخاصّة.
نظريتان حول أول اكتشاف
لا يزال ثَمَّة خلاف في شأن مَن مِن الأوروبيّين اكتشف الطماطم، وحملها معه إلى العالم القديم. ففي موقع الطماطم البريطانية، ثَمَّة نظريتان في هذا الشأن. الأولى ترى أن الغزاة الإسبان، بقيادة هرنان كورتيس، هم الذين اكتشفوها خلال غزوهم المكسيك بين عامي 1519 و1521م، إذ وجدوا النبتة وعادوا ببذورها إلى أوروبا. النظرية الأخرى تروي أن كاهنين يسوعيَّين أحضرا الطماطم أولاً إلى إيطاليا، حيث أصبحت واحدة من أهم المنتجات الزراعية.
انتشرت الطماطم شعبياً في شمال أمريكا بعد الحرب الأهلية وتدفُّق المهاجرين الإيطاليين، الذين علَّموا السكان المحليين كيف تُطهى. وسرعان ما عمَّت بين الأمريكيين الأطباق المحتوية على الطماطم.
كان أول وصف منشور للطماطم، قد ظهر عام 1544م. فقد سمّاها خبير أعشاب إيطالي pomi d’oro، وترجمتها “التفاح الذهبي”، ويوحي الوصف بأن أول الطماطم التي زُرعت في إيطاليا، ربما كان لونها أصفر. أما الفرنسيون فسموها pommes d’amour، أي “تفاح الحب”، وآمنوا بأنها غذاءٌ مثير للشهوة الجنسية. وأُطلق على الطماطم اسم ثالث، هو wolf peach، أي “الخوخ الذئب”، إذ اعتقدت بعض الشعوب أنها سامة. وفي بلدان شمال أوروبا، ومنها إنجلترا، زُرِعت الطماطم للزينة، لا للأكل.
معتقدات غذائية أخّرت انتشارها
لم تنتشر الطماطم في الأرجاء بالوتيرة نفسها، بسبب القناعات الغذائية التي كانت رائجة آنذاك. ففي كتاب “بومودورو!: تاريخ الطماطم في إيطاليا”، الذي صدر عام 2010م، أن الأوروبيين في أوائل الأزمنة الحديثة، كانوا يمارسون “الطب المزاجي”، الذي يقتضي تناول الأطعمة الحارة في البلدان الباردة، والأطعمة الباردة في البلدان الحارة. وكانت درجة حرارة الطعام المزاجية تحدِّدها نسبة ما فيها من ماء، فكلما احتوى الطعام ماءً ازدادت برودته. لذلك كان انتشار الطماطم في البدء أسرع في بلدان جنوب أوروبا، مثل إسبانيا وإيطاليا وجنوب فرنسا، وهكذا تحوَّلت إلى طعام متوسطي، ملازم تقليدياً، في القرن السابع عشر. واحتاج الأمر إلى بعض الوقت، قبل أن يتذوق الطماطم بعض السيَّاح الإنجليز المسافرين إلى بلدان البحر المتوسط، ويعتمدوها في النهاية في طبخهم. ومن هناك، أخذت بلدان شمالية أوروبية أخرى تزرع الطماطم من أجل الطعام، وهكذا انتشرت الطماطم في كل أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر.
تأخر ظهور الطماطم في المزارع الأمريكية على الرغم من أن منشؤها من القارة الجارة. وقد جاء في دراسة نشرتها مجلة “التاريخ تحت العدسة” History in Focus خريف 2006م، أن الطماطم في الولايات المتحدة كانت على الخصوص تُزرَع وتؤكَل في الجنوب. أما في الشمال فقد عانى المزارعون في إنبات النبتة وحمايتها، بسبب سهولة تلفها، إلى جانب أن كثيراً من الناس كانوا لا يزالون يعتقدون أنها سامَّة.
وانتشرت الطماطم شعبياً بعد الحرب الأهلية وتدفُّق المهاجرين الإيطاليين، الذين علَّموا السكان المحليين كيف تُطهى الطماطم. وسرعان ما عمَّت بين الأمريكيين، الأطباق المحتوية على الطماطم، مثل البيتزا والباستا، مع قطع اللحم.
من نظرة الارتياب إلى
اكتساح الأسواق
ولم تدخل الطماطم القارة الآسيوية إلا في القرن التاسع عشر، وأُحضِرَت إلى البلدان العربية. وفي كتاب عام 2011م: “ما الخطب حقاً في الشرق الأوسط” (What’s Really Wrong with the Middle East)، أن العرب أيضاً نظروا في البدء إلى الطماطم بارتياب. ورفض أهل حلب أكل الطماطم بسبب لونها الأحمر البرَّاق، غير المألوف في الخضار. وفي وقت ما، وصل الأمر ببعض السلطات الدينية في المدينة إلى أن حرَّموا تناول الطماطم. غير أن التحريم لم يدُم طويلاً، وسرعان ما أخذ السوريُّون يزرعون ويأكلون الثمرة الحمراء، التي دعوها: بندورة، تحريفاً للاسم الإيطالي pomodoro.
أصبحت الطماطم الآن أحد المحاصيل الأوسع إنتاجاً في العالم. ففي دراسة عام 2021م، هي: “الأبحاث والأسواق” (Research and Markets)، أن الدخل العالمي من الصناعة القائمة على الطماطم، بلغ عام 2018م، 190,4 مليار دولار أمريكي، زائداً %6.5 على عام 2017م. وقد بلغ مجموع إنتاج العالم من الطماطم عام 2018م، 188 مليون طن، أي ما يساوي نحو 32 مرَّة هرم الجيزة الأكبر. ووتيرة الإنتاج نمت في السنوات الخمس عشرة الأخيرة بنحو %30، بفضل توسُّع المساحات الزراعية العالمية والمحاصيل الأوفر.
لا يزال ثَمَّة خلاف في شأن مَن مِن الأوروبيين اكتشف الطماطم، وحملها معه إلى العالم القديم، وثَمَّة نظريتان في هذا الشأن يوردها موقع الطماطم البريطانية.
من تشكيل المطبخ الدولي إلى زيادة الإنتاج الغذائي جذرياً
من الجوانب المهمة في تاريخ الطماطم، كيف أنها صارت أكثر رهافة، بعد التدجين. فالانتخاب الصناعي، أو بعبارة أدق: اصطفاء الفصائل المتقاربة inbreeding، لما لا يزيد على فصيلين من الطماطم، في مدى قرون، قد أنتج نبات طماطم أكثر إنتاجاً وأكبر حجماً، لكنه خالٍ من عوامل البقاء المفيدة، التي تمتاز بها الطماطم البرية. فالطماطم الحديثة المهجَّنة تحتوي على %5 فقط من التنوُّع الجيني لدى نبات الطماطم. وهذه النسبة مشتركة في المزروعات المهجَّنة عموماً. في منتصف القرن العشرين، بدأ علماء النبات يطعِّمون الطماطم المهجَّنة بالأصناف البرية منها، وبالتحديد بالطماطم الصغيرة الثمار المتينة البنية، المسماة SP، لإنتاج نبات قادر على مقاومة الجفاف والأمراض.
غير أن الطماطم تبقى ثماراً متطلِّبة جداً. فبحسب ما ترى شركة “يارا شمال أمريكا”، وهي فرع أمريكي لشركة نرويجيّة تهتم بالتخصيب الزراعي، أن أفضل درجة حرارة تناسب زرع الطماطم، تراوح ما بين 17 و27 درجة مئوية.
تحديات بيئية وأزمة المناخ
والمعهود في زراعة الطماطم في الهواء الطلق، أنها تقع في مناطق ما بين خطي العرض الثلاثين والأربعين. وفيما يخص التربة، فأفضلها لزرع الطماطم، تلك التي تراوح حموضتها بين 6 و6.5 درجات حموضة (pH). أما الرطوبة المثلى في دفيئات زراعة الطماطم، فتراوح بين 60 و%80. وهذا النطاق الضيّق جداً، قابل للتوسيع.
علاوة على هذا، منذ أن انتشرت الطماطم في العالم تبدّلت الأمور، لا سيَّما المناخية، والظروف البيئية. ففي مقالة نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في ديسمبر 2021م، أن بعض المناطق التي كانت تقليدياً مستعملة لزراعة الطماطم، أصبحت جافة وحارة أكثر من اللازم. ولا شك في أن ندرة الماء مشكلة، وهي تؤثر في جودة الري. ففي بعض المناطق، يؤدّي فقدان الماء إلى استخدام المزارعين الماء العالي الملوحة، فيؤدي هذا إلى التملُّح المركَّز.
إن المشكلات التي يعانيها المزارعون اليوم ستزداد سوءاً مع الوقت. ومن جهة أخرى، يتزايد بانتظام واستمرار عدد سكان العالم، ومعه يزداد طلب الغذاء. وقطع شجر الغابات من أجل إنشاء مزارع جديدة، أصبح منذ عقود من المشكلات الكبرى الآن. وزيادة طلب الغذاء، تضافراً مع مناطق التحوُّل المناخي، سوف تُفاقم المشكلة. فالغابات في البلدان الباردة، وهي غابات لم تُمَسّ إلى الآن، سوف تُقطَع أشجارها لتحل محلّها مزارع جديدة، وكثيراً من المزارع التي جفّت الآن ستتحوَّل إلى صحاري.
حلول زراعية عبر التعديل الجيني
لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد. فالتبدُّل المناخي يأتي معه أيضاً الطقس شديد القسوة. وحتى لو أن بعض المناطق الأخرى ستصبح أكثر ملاءمة لزراعة المحاصيل، فإن أحداث القسوة المناخية، مثل الحرّ الاستثنائي والصقيع والعواصف الشديدة والبَرَد، وهي صارت أكثر حدوثاً، ستلحق الضرر بالمحاصيل. وحتى لو قَصُر مدى هذه الأحداث، إلا أنها يمكن أن تلحق الضرر بالنبات. ومهما أمكن نقل الزراعة إلى مناطق أخرى، وتوسَّعت أراضيها، بتقليص الغابات من جرَّاء هذا التوسُّع، فلن يكون ذلك كافياً. والحل الأفضل هو تكييف المحاصيل بالظروف البيئية المتغيِّرة.
المشكلات التي يعانيها المزارعون اليوم ستزداد سوءاً مع الوقت. فهناك مشكلات قطع شجر الغابات لإنشاء مزارع جديدة، التي تُفاقم بدورها الأزمة المناخية، وزيادة طلب الغذاء.
إن التعديل الجيني، استناداً إلى الجينة المعدِّلة المسمّاة “كريسبر” (Crispr)، هي التقنية التي يمكنها أن تساعد في هذه المهمّة، وتُحدث ثورة حقيقية في الزراعة. و”كريسبر” تعمل عمل أداة “نَسخ ولَصق” في الجينات. ويستطيع العلماء أن يضيفوا جينات مفيدة إلى الجينوم في الجسم الحي، أو يمحوا الجينات الضارَّة منه. ويمكن استخدام هذه التقنية في النباتات والحيوانات. وفي الزراعة، يبدأ استخدام “كريسبر” بتحديد الجينات المفيدة، لدى أصناف أخرى من الفصيل نفسه، ثم زرعها في المستزرَعات المهجَّنة.
بل يمكن بدلاً من ذلك، استخدام “كريسبر” من أجل ما يسمَّى تدجين “نوڤو”، وهو تدجين المتحوِّرات البرية بإضافة جينات المحاصيل المدجَّنة فيها. وسيساعد البحث والانتقاء في التنوُّع الجيني للمحاصيل في “أقربائها” النباتية البرية، في تحسينها بعناصر مفيدة لا توجد إلا في النبات البري.
ويمكن لـ”كريسبر” أن يساعد في تطوير المحاصيل بغلال أوفر، أكثر مقاوَمةً للجفاف، وملوحة التربة، وقسوة المناخ حراً وبرداً، فوق كونها أفضل من حيث الغذاء والمذاق. ويمكن استخدامها لتطوير نباتات قزمة تستطيع مقاومة الرياح الشديدة. ويتيح التعديل الجيني تحقيق كل ذلك في غضون جيل واحد فقط، فيما قد يستغرق الاستيلاد الانتقائي ألوف السنين.
منتجات معدّلة جينياً
والطماطم هي أكثر ما يُنتَج من ثمار الزراعة في العالم، وهي سهلة التداول في التعديل الجيني، حين تقارَن بالمحاصيل الأخرى. وهاتان المزيّتان تفسّران سخاء التمويل المتاح لتعديل الطماطم جينياً.
غير أن موقف الجمهور يبقى عامل تحدٍّ، إذ إن ثَمَّة وصمة طبعت المنتجات المعدّلة جينياً (GMOs). كانت محاولات التعديل الجيني السابقة تنطوي على استزراع مادة جينية من فصيل إلى فصيل آخر مختلف تماماً، على أمل أن تنتقل بعض المزايا من الفصيل المانح إلى الفصيل المتلقِّي. وكانت هذه التحوّلات تؤدي أحياناً إلى نتائج جانبية نقيضة. لكن “كريسبر” في المقابل، أدقّ بكثير، لأنها تُحدِث تعديلاً محصوراً جداً في النبات المعدَّل. لذا فليس متوقَّعاً أن تؤدّي إلى أي نتائج غير متوقَّعة. لكن صورة المنتجات المعدَّلة جينياً لا تزال مشوَّهة من أثر الخلافات السالفة، وتؤدِّي إلى تقنين حكومي متشدّد، وتضييق على الأبحاث.
ويبقى الأمل على الطماطم لأنها تحتل مرتبة الطليعة في ثورة الغذاء الجديدة، والنموذج المثالي لأبحاث تطوير أدوات التعديل الجيني مثل “كريسبر”، التي لا يترك آثاراً جانبية كبيرة، كما يتخوف البعض. فالأبحاث التي تُجرَى على الطماطم، يمكن أن تفتح الباب إلى أبحاث مثيلة على محاصيل أخرى، وأن تساعد في ولوج عصر الزراعة المعزَّزة.
اترك تعليقاً