تزامنت رحلةُ تيوفيل غوتييه إلى الجزائر، مع ثورة محمد بن عبدالله المُلقّب بـ “بومعزة”، التي انطلقت عام 1845م في ولايات الشلف والحضنة والتيطري، ودامت ثلاث سنواتٍ. ورغمَ أنَّ الكاتب كان ضد انهماك الفنّان في السيّاسة، متبنيَّاً مقولةَ “الفنّ من أجل الفنّ” إنْ لم يكن مبتكرُها؛ إلّا أنّه كان صاحب نظرة نقديّة للعالم، ولتصرّفات السّاسة، وما ينجمُ عنها من عنفٍ ومآسٍ تاريخية. وهذا، ربما، ما جعلَ كتابه “رحلة إلى الجزائر” يتأخَّر في الصدور كما أراد له صاحبه، حتى عام 1973م بنسخةٍ محقَّقة، قبل صدور الطبعة المزيدة في عام 1989م، التي أضيفت إليها متابعات غوتييه لأعمال تشكيلية وموسيقية ومؤلفات تتعلق بالجزائر.
فتنةُ الغموض
من يتتبع تفاصيل رحلة تيوفيل غوتييه (1811-1872م) إلى الجزائر في صيف 1845م، يتساءل عن تلك الصفحات المُتفرِقة التي نشرَها الكاتب عن رحلتهِ في المجلّات بعد سنة واحدة من عودته، لكنها لم تُجمع، كما أراد غوتييه، في كتاب اختار له عنوان “رحلة شائقة إلى الجزائر – مدن الجزائر ووهران وقسنطينة ومنطقة القبائل”. ولأسباب مجهولة، لم تصدر الرحلة إلّا بعد عشرين عاماً في كتاب حمل عنواناً مغايراً: “بعيداً عن باريس” عام 1865م.
تيوفيل غوتييه شاعر وروائي وقاص وكاتب مسرحي وصحافي وناقد فنّي، يُعدُّ واحداً من أهم الكتَّاب الفرنسيين، لتنوُّع أنماط الكتابة الأدبية والفكرية التي مارسها وأبدع فيها طيلة حياته. وهو أيضاً الرحالة الكشاف لحصّة الظل في المدن، المُسافر الشغوف بالتفاصيل، البارع في نقد الفن؛ الذي تفطَّن بسرعة إلى أن الجزائر هي من تلك البلدان التي لا تجتذب المسافر بألوانها اللافتة للنظر وإبهارها المباشر، بل بغموضها الذي يشكل أحد أهم عناصر فتنتها. لذلك نجد أنفسنا في هذه الرحلة أمامَ مشاهد ولوحات ليليّة، تعكس الحسّ الفني العالي عند غوتييه وشغفه باكتشاف حضارة مغايرة، مقتفياً خطى زملائه من رسامين وشعراء أثاروا فضوله بالانبهار والكتابة عن بلدان الشمال الإفريقي.
لم يُخفِ تيوفيل غوتييه ملاحظاته النقدية لممارسات الفرنسيّين في أولى سنواتِ احتلالهم للجزائر، ممارسات تكشف عن عنصرية جلية، ونية مُسبقة في تهميش السكان الأصليين وطمس معالمهم الحضارية. بينما يتحدث عنهم صاحب كتاب “ملهاة الموت” قائلاً: “… فقد رأيناهم، هؤلاء البرابرة الأشداء، سليلي القرطاجنيّين والنّوميديّين، ملفوفين في عباءاتهم الرومانية، بحركاتهم وأوضاعهم الشّبيهة بأوضاع التّماثيل، ونظراتهم اللّامعة والسّوداء، وحزنهم الهادئ، وجلالهم البدائي، فلم نرَ فيهم ما يثير السخرية”.
على الرغم من ذلك، لا تظهر القرائن الواضحة لإدانة الاستعمار بشكلٍ مباشرٍ في كتابات تيوفيل غوتييه، لكن الخيبة التي أصيبَ بها جرّاء ممارسات أوروبا الغازية ومحاولاتها لإزالة هذا الشرق من أجل بديلٍ مجهولٍ تُهدم في سبيلهِ البناياتُ والساحاتُ وكل ما هو أصيل ومتجذر؛ جعلتهُ يتجاوز الواقع، منغمساً في أحلامه المتراكمة عن أمكنة يرى أنها تستحق الاكتشاف والكتابة عنها.
انغماسٌ وغرابة
يكشفُ كتاب “رحلة إلى الجزائر” في طبعته العربية الصادرة عن (مشروع كلمة – أبوظبي، 2019م، بترجمة محمّد بنعبود ومراجعة وتقديم كاظم جهاد)، قدرة غوتييه لا الأدبية والفنية في نقل صورة حيّة عن وضع الجزائر في تلك الفترة فحسب، إنما عن ابتكار تقاليد في السفر تتكئ على الانغماس التام في البيئة التي يسافر إليها، بدءاً بارتدائه الزّي المحلي، مما يوحي باندماجه مع السكان ويعكس احترامه لهم، وصولاً إلى اهتمامه بالأسواق الشعبية ومحلات التجار وحركة الناس في الشوارع. كما أن الكاتب بدأ بوصف لوحةٍ بانورامية لمدينة الجزائر، منذ لحظةِ وصوله، ملتقطاً أدق التفاصيل، غير غافلٍ عن مقارنتها بأماكن زارها من قبل في أوروبا. فيقول: “عندما وصلنا إلى الجزائر المُجاهدة (هكذا يُسمّيها المسلمون) كانت الساعة الخامسة تقريباً، فكانت الشّمس قد فقدت بعض قوّتها، وكان هواء البحر قد هب فأضحت ساحة الحكومة غاصة بالناس. إنها مكان اجتماع سكان المدينة كلهم؛ بها يتم التواعد على اللقاء، ونكون متأكدين دائماً من العثور فيها على الشخص الذي نبحث عنه”.
الرحالةُ – الذي زار بلداناً عديدة، قبل زيارته الأولى إلى الجزائر، ولاحقاً إلى مصر؛ يضيفُ إلى انغماسِه، عامل المراقبة عن قرب، بعينٍ شاعرة، هي مركز الحدث الوصفي، لكنّها تستدعي حواسّ أخرى لا تقل تأثيراً لنقل مشاهداتٍ تتوالى وتتقاطع وتمتزج بذاكرة بعيدة، بمسحة كآبةٍ لا يستطيع غوتييه إخفاءها مهما غزَلَ مشاعرهُ بالكلمات التي ترسم لوحات فنيّة تتماثل عنده ولوحات غويا ورامبرانت ودولاكروا، كما أن بعض الفقرات من هذه الرحلة، قد تمنحنا إجابة، وإنْ كانت ناقصة، عن سبب تأخر نشر الكتاب ومرورهِ بتلك الرحلة الماراثونية.
يُقرُّ الباحثون أن غوتييه غالباً ما يستند إلى مقارنات بين المحتلين والسكان الأصليين، ترتكز على المظهر الخارجي وطبيعة الحياة ونوعِ الثقافة، وعلى الاستغراب: “إن وجود الفرنسيين نفسَه في الجزائر هو حالة غريبة”، وفي موضع آخر يتساءل: “قسنطينة مثلاً، ألا تتجاوز في فرادتها الغريبة كل ما يمكننا أن نتخيّله؟”. يتعمَّد الكاتب في كل رحلاته إضفاء الطابع الغريب على الواقع وتحويله إلى مشهد مرئي شبه مُتحرّك، وصور شاعرية لا تخلو من خيبة الأمل المتأصلة في أي رحلة. هكذا وعلى أبواب مدينة الجزائر تخرج صرخةٌ من قبيل “هذه إفريقيا الغامضة”.
السَّفر والزَّمن المُوازي
نجد في كتاباتِ تيوفيل غوتييه التي تصف رحلاتِه إلى عدَّة أماكن مجموعة من العلائق بين ما هو واقعي بصري، وما هو خيالي انطباعي، يستعيد من خلالهما الكاتب المتوازيات التي يبدعها بمرجعياتٍ ثقافية أسطورية وأخرى إبداعية شعرية، ليُنتِج صوراً سريالية تمنح الوصف الجغرافي والمشاهدات الحيَّة مجالاً أوسع داخل النص، لكن من دون تكلّف، طالما أن ما يُكتب يُظهِر أصالة وعمقاً جليين.
الملاحظة الأخرى التي تميِّز جلَّ كتابات غوتييه في أدب الرّحلة، هي قدرته على خلق زمنٍ موازٍ، حاضراً ثانياً يتحرَّك فيه بحرِيةٍ، محوّلاً الأمور العادية التي تقع تحت بصره إلى أشياء فريدة تلمع بين الجمل والكلمات. لا تزييفاً للحقائق، بل إيماناً منه بأنّ “الإنسان لا يمكن أن تكون له مهنةٌ أكثر نُبلاً من السفر”. ومع العلم أنَّ السفر ارتبطَ اصطلاحياً عند هذا المُسافر المختلف بمصطلحات: مُهمّة، التزام، واجب. وما يثيره من قلق لدى القارئ إنما يأتي من قلق داخلي حقيقي، وخيبة الأمل التي نشعر بمرارتها ونحن نتجوّل في “متحفه السّردي” المليء بالمُفاجآت.
اترك تعليقاً