تكييف الهواء هو من التكنولوجيا التي ما إن نمتلكها حتى نصبح عاجزين عن تخيّل العيش من دونها. وتكييف الهواء في مناطق عديدة من العالم ليس ترفاً يمكن الاستغناء عنه. ولكن هذه الحاجة الحيوية تثير تحديات كبيرة على مستوى استهلاك الطاقة في معظم بلدان العالم. ويُتوقع أن تتفاقم هذه التحديات خلال العقود الثلاثة المقبلة، مع توقُّع ارتفاع عدد المكيفات في العالم نحو ثلاثة أضعاف. وفي حين أن الابتكارات التكنولوجية تحقِّق كل يوم إنجازاً جديداً، وعلى الرغم من بعض التحسينات والتدابير المحدودة التي طرأت على صناعة المكيفات، “فإن تكنولوجيتها الأساسية لا تزال تعمل كما كانت، منذ اعتمادها قبل نحو قرن من السنين”، حسبما جاء في تقرير لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT)، في الأول من سبتمبر 2020م. ولمعالجة هذه المشكلات الخطيرة، لا مفر من إعادة التفكير بجد.
التكييف حاجة حيويّة. فالتعرّض للحرارة لمدة طويلة ضارٌ بالصحة. ووفقاً لمنظمة الصحة العالميّة يمكن للتعرُّض الطويل للحرارة أيضاً أن يؤدي إلى “إعياء حراري، وضربة شمس، وتورّم في الرجلين، وطفح جلدي على العنق، وتشنج، وصداع، وحساسيّة، والخمول والوهَن. ويمكن للحرارة أن تسبِّب جفافاً خطراً، وأعراضاً حادة في أوعية الدماغ الدمويّة، وتسهم في تكوّن الجلطات”.
وموجات الحر أيضاً من أشد المخاطر الطبيعيّة المميتة. إذ يقدَّر أن بين عامي 1998 و2017م، توفي نحو 166 ألف شخص من موجات الحر. ومات 70 ألفاً من هؤلاء في أوروبا سنة 2003م وحدها. ومن دون أن يصل الخطر إلى الموت، تتسبَّب الحرارة العالية بانخفاض الأداء المعرفي لدى الشبان البالغين في المباني غير المكيّفة. فقد بيّنت دراسة أجرتها “كليّة ت. هـ. تشان” للصحة العامة في جامعة هارفرد، نشرتها “بلوس ميديسين” في 10 يوليو 2018م، أن التلاميذ الذين ينامون في مهاجع غير مكيّفة، يقل أداؤهم عن أولئك الذين ينامون في مهاجع مكيّفة. ولتجنّب مخاطر التعرّض للحرارة، يلتفت الناس إلى استخدام التكييف.
معظم البشر في بلدان العالَم النامي، لم يقتنوا بعد مكيّفهم الأول، والمشكلة إلى ازدياد. فمعظم البلدان النامية هي من البلدان الأشد حرارة والأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم.
التضخم المُرتقب في تكييف الهواء
وتوقُّع ارتفاع الاستهلاك ثلاثة أضعاف
يتطلّب التكييف كثيراً من الطاقة. فنحو %10 من استهلاك الكهرباء في العالم يُنفَق في تشغيل المكيّفات. وتصل هذه النسبة إلى %50 في المملكة حسب “المركز السعودي لكفاءة الطاقة”. أضف إلى ذلك أن معظم البشر في بلدان العالم النامي، لم يقتنوا بعد مكيّفهم الأول، والمشكلة إلى ازدياد. فمعظم البلدان النامية هي من البلدان الأشد حرارة والأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم. وجاء في تقرير لوكالة الطاقة الدوليّة بعنوان “مستقبل التبريد”، ونُشر في مايو 2018م، أن في أجزاء من أمريكا الجنوبيّة وإفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، يعيش 2.8 مليار نسمة، ولا يملك وحدات تكييف سوى %8 من المنازل. في حين الدول المتقدِّمة مثل كوريا الجنوبيّة، واليابان، والولايات المتحدة، فإن %89 من المنازل تملك مكيفات، وفي الصين %60 من البيوت تملكها أيضاً.
ولكن مع تنامي الدخل في بلدان الاقتصاد الصاعد، يتوقّع أن تزداد المنازل التي تقتني مكيّفاً. وبحسب مقالة نُشرت في صحيفة “نيويورك تايمز”، في 15 مايو 2018م، سيرتفع عدد المكيّفات في العالم من نحو 1.6 مليار حالياً، إلى 5.6 مليارات عام 2050م، طبقاً لمعدَّلات النمو الاقتصادي.
ومع الافتقار إلى الابتكار وتطوير النظم لفرض معايير الجدوى الأعلى، فسيتضاعف استهلاك الطاقة لتشغيل المكيّفات ثلاثة أضعاف. وسينتج من ذلك طلب إضافي للطاقة يساوي مجموع إنتاج الطاقة في الصين حالياً. فمبيعات المكيّفات ترتفع اليوم في البلدان النامية، لكن فعاليّة هذه الوحدات مشكوك فيها. فمثلاً، أوسع وحدات التكييف انتشاراً في بعض الأسواق الآسيوية تتطلّب ضعفي ما تتطلّبه وحدات تكييف أجدى. والمكيّفات التي تباع في اليابان والاتحاد الأوروبي أجدى بنسبة %25 عادة، من تلك التي تباع في الصين والولايات المتحدة.
وبصرف النظر عن كثير من الطاقة التي يحتاج إليها المكيّف، فإنه يبث مقادير وفيرة من غازات الدفيئة نفسها. وطبقاً لموقع تكييف الهواء (airconditioning.com)، فإن المبرِّدات في معظم المكيّفات مثل مواد مركبات الكربون الكلورية فلورية أو مواد هيدروفلوروولفينات، ومركبات ثاني أكسيد الكربون الهيدروكلورية فلورية، أسوأ بكثير للبيئة من ثاني أكسيد الكربون، لأنها تحتبس من الحرارة مقادير أكبر حين تتسرّب إلى الجو.
وبالإضافة إلى ظاهرة الدفيئة، فهذه الغازات تسهم أيضاً بالإضرار بطبقة الأوزون. ويمكن لهذه المواد الكيميائية أن تتسرّب خلال عملية التصنيع أو التصليح. ويعرف كل من يملك في منزله مكيّفاً كم تتكرر أعطال هذه الأجهزة. ثم إن المكيف يُرمَى حين يتعطّل نهائياً ولا يعود قابلاً للإصلاح، والمواد المبرِّدة فيه ستتسرّب على الأرجح لتلوث الهواء.
أمامنا بعض التحدّيات الصعبة. لكن لا يمكننا أن نعتمد على التطورات التكنولوجية وحدها في ميدان قوى السوق الحرة، بل يجب وضع معايير جدوى جديدة لشركات البناء ومعايير أعلى لجدوى التكييف من أجل تحفيز الحلول المستدامة قانونياً.
البحث عن حلول ممكنة
كل هذه التحديات، دفعت بجهات عديدة إلى التفكير بتطوير صناعة المكيفات وتقنيتها إلى ما هو أبعد من الحاصل حالياً.
فعلى المستوى البيئي مثلاً، طرحت المفوّضية الأوروبيّة على موقعها قائمة من المواد المبرِّدة البديلة. منها مادة هيدروفلوروولفينات، وعديد من توليفات مادتي HFC-HFO، والبروبان، والبروبين، والأمونيا، وحتى ثاني أكسيد الكربون، لنظم مختلفة من التكييف. صحيح أن هذه المواد يمكنها أيضاً أن تتسرب إلى الجو، لكن أثرها في المناخ وطبقة الأوزون هو أقل من أثر المبرّدات المستخدمة الآن. وقد أُحرز بعض التقدّم على هذه الجبهة. فالمواد الأشد أذية تُستبدَل حالياً بمواد أخرى، وقد وُضع جدول زمني لوقف استخدامها نهائياً، طبقاً لبروتوكول مونتريال 1987م، الذي وقَّعت عليه 180 دولة. وبعض البلدان مثل اليابان، طبّقت برامج عمل لجمع الأجهزة العاملة بالغازات الضارة المذكورة، لإعادة تدويرها، وفقاً لوزارة البيئة اليابانية.
وثمَّة حل آخر، هو تجهيز المكيّف بتكنولوجيا تنقيح الكربون، التي تنتج وقوداً من الهواء الملوّث. وهذا النظام موجود الآن، وقد اقترحه فريق من الباحثين الألمان والكنديين، يرأسهم رولاند ديتماير. وفحوى الفكرة التي نشرتها “نيتشر كوميونيكيشنز” في 30 أبريل 2019م، هو تحديث نظم التكييف القائمة، المستخدمة في المكاتب والمخازن الكبرى والمنشآت الصناعيّة، لامتصاص ثاني أكسيد الكربون.
وقد تجعل هذه التكنولوجيا من المكيّفات أجهزة غير منتجة للكربون، أو حتى ممتصّة للكربون. ويمكن للكربون الممتص أن يحوَّل إلى وقود هيدروكربوني. لكن بالطبع، تبقى مشكلة غير مباشرة وهي بث غازات الدفيئة. وتشغيل المكيّفات بوحدات طاقة شمسيّة على أسطح المباني، هو حل مستدام لمعالجة هذا المشكلة. وهو حل منطقي، طالما أن المكيّفات تكون حاجة أكبر في النهار حين تكون الشمس ساطعة.
وهناك حلول عديدة أخرى، غرضها تحسين عملية التبريد، نُشرَ عنها على موقع الحكومة الأستراليّة “بيتك” (your home). فمثلاً، يمكن لتمليط سطوح المنازل بدهان عاكس للأشعة أن يساعد في منع تعاظم الحرارة، وزرع نباتات على هذه السطوح ينشئ ظلاً ويعيد تدوير ثاني أكسيد الكربون. وحل آخر هو بناء المنازل أو أماكن العمل بطريقة تتيح التهوية الطبيعيّة، بدلاً من التكييف. كذلك يمكن استخدام مواد تمتص الحرارة في النهار، وتطلقها في الليل، وبذلك تجعل الداخل لطيف الحرارة نهاراً، ودافئاً ليلاً.
وثمَّة حل تقني آخر، لمشكلة تعاظم استهلاك الطاقة الناجم عن تثبيت الحرارة آلياً، كما هو الحال الآن في كثير من المباني المبرّدة أو المدفأة بغض النظر عما إذا كان شاغلوها فيها أم لا. فكثير من الاحتمالات متوافرة لزيادة الجدوى عندئذ، كاستخدام الترموستات البشري الذكي، الذي يعتمد على الوجوه ليحدِّد مستوى الحرارة، والذي طوّره باحثو جامعة ميشيغان، ونشر في مجلة “بلدنغ أند إنفايرونمنت” في يوليو 2020م. وهو يستخدم مجموعة عدسات والذكاء الاصطناعي لقياس مدى راحة شاغلي المبنى، ويعدّل الحرارة طبقاً لذلك. وحين تخلو الغرفة من شاغليها، لا ينفق أي طاقة للتدفئة أو التكييف.
التنظيم هو الحل الأفضل
بصرف النظر عن تحسيننا جدوى المكيّفات أو عدم تحسينها، فإن الطلب على الطاقة سيزداد. وطبقاً لما جاء في مقالة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، السالف ذكره، ثمَّة أمر يجب عدم إغفاله، وهو كيف أن هذا الطلب سيضغط على نظم توفير الطاقة الحالية. إذ لا بد من إعادة تأهيل كل شبكات الكهرباء، وتوسيعها لتلبية طلب الطاقة في زمن الذروة، خلال موجات الحرارة المتزايدة. فحين يكون الحر شديداً يجنح الناس إلى البقاء في الداخل، وإلى زيادة تشغيل المكيّفات، سعياً إلى جو لطيف وهم يستخدمون أدوات وأجهزة مختلفة أخرى.
وكل هذه الأمور المتزامنة من تشغيل الأجهزة، يزيد الضغط على شبكات الطاقة، كما أسلفنا. لكن مجرد زيادة سعة الشبكة ليس كافياً. إذ لا بد من تطوير الشبكات الذكية التي تستخدم الجسّاسات، ونظم المراقبة، والبرامج الإلكترونية، لتحديد متى يكون الشاغلون في المبنى، ومتى يكون ثمَّة حاجة إلى الطاقة، ومتى تكون الحرارة منخفضة، وبذلك يخرج الناس، فلا يستخدمون كثيراً من الكهرباء.
مع الأسف، كل هذه الحلول المبتكرة مكلِّفة، وهذا ما يجعلها عديمة الجدوى في نظر بعض الشركات الخاصة والمواطن المتقشّف. إن بعض الأفراد الواعين بيئياً يبذلون قصارى جهدهم في تقليص استهلاكهم من الطاقة، ويعون جيداً أهمية أجهزة التكييف المجدية والأرفق بالبيئة. ولكن جهات كثيرة لن تتحرّك لمجرد حافز سلامة المناخ ووقف هدر الطاقة، ما دامت لا تحركها حوافز قانونية. وعلى الحكومات أن تُقدِم عند الاهتمام بالتغيّر المناخي، على وضع التشريعات المناسبة. فبالنظم والحوافز والدعم، يمكن دفع الشركات إلى اعتماد الحلول الأجدى في مكاتبها. ولا بد من إقرار معايير جدوى جديدة لشركات البناء، تعمل وفقها. وتُعدُّ “مبادرة أجهزة التكييف عالية الكفاءة” في المملكة العربية السعودية من أفضل البرامج على الصعيد العالمي (انظر الكادر).
يقول فاتح بيرول، المدير التنفيذي في وكالة الطاقة الدوليّة: “إن الطلب المتزايد للمكيفات، هو نقطة النقاش الأكثر غموضاً اليوم في موضوع الطاقة. ووضع معايير أعلى لجدوى التكييف، هو من أسهل الخطوات التي يمكن للحكومات أن تخطوها من أجل تقليص الحاجة إلى معامل توليد طاقة جديدة، وتخفيف الغازات التي تبث، وخفض التكاليف في الوقت نفسه”.
إذن، أمامنا بعض التحدّيات الصعبة. لكن لا يمكننا أن نعتمد على التطورات التكنولوجية وحدها في ميدان قوى السوق الحرة، لإخراجنا من هذه الورطة، لا سيّما أنها نفسها، مقرونة بالافتقار إلى البصيرة، هي التي أودت بنا إلى هذا التبدُّل المناخي في الدرجة الأولى.
وكما يتبيّن لنا، من عدد الحلول الملطِّفة للمشكلة، ومن تنوّعها، وهي الحلول التي أسلفنا الحديث عنها، فإن التكنولوجيا التي نحتاج إليها من أجل معالجة هذه التحديات، هي في مدى قدرتنا، لكنها ربما تتطلّب بعض التحسين، ودعماً استثمارياً أكبر!
جُهدٌ رائد في مجال ترشيد استخدام الطاقة في التكييف
في شهر مارس من عام 2018م، أُطلق التنظيم الجديد لـ”المركز السعودي لكفاءة الطاقة”، الذي يهدف إلى ترشيد ورفع كفاءة استخدام الطاقة في الإنتاج والاستهلاك من أجل الحفاظ على الموارد الطبيعية للمملكة، وتعزيز الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية لسكان المملكة. ويضم مجلس إدارة المركز أعضاء ممثلين عن الجهات الرسمية والخاصة.
وبسبب ما أكدته الإحصاءات الرسمية من أن أجهزة التكييف بمختلف أنواعها تستهلك أكثر من نصف الطاقة الكهربائية المنتجة في المملكة، تضافرت جهود مختلف الجهات الحكومية المعنية لترشيد استهلاك الطاقة الذي تستأثر به أجهزة التكييف، وذلك عبر تطبيق مواصفات ومعايير قياسية عالمية على كل أجهزة التكييف للرفع من كفاءتها والتقليل من استهلاكها للطاقة الكهربائية. وتوجت هذه الجهود بإطلاق “مبادرة أجهزة التكييف عالية الكفاءة” بنطاقها الكامل في أبريل 2019 ولمدة 24 شهراً، شاملةً جميع مناطق المملكة بهدف تحفيز الإنتاج المحلي لأجهزة التكييف، فضلاً عن تحفيز السكان لشراء أجهزة تكييف ذات كفاءة عالية.
كما أصدر المركز بطاقات كفاءة الطاقة ومن ضمنها الخاصة بالأجهزة المنزلية، إضافة إلى جملة من الحوافز والتشريعات لاستخدام كفء للطاقة الكهربائية في جميع الأمكنة العامة والخاصة. ويُعد هذا البرنامج رائداً على الصعيد العالمي.
اترك تعليقاً