مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2019

تحت الماء في جزيرة جبل الليث


سليمان الكثيري

على بُعد 220 كيلومتراً جنوبي مدينة جدة، تقع بلدة الليث. وقبالتها في البحر الأحمر، وعلى مسافة ساعتين من الإبحار بسرعة معتدلة، يرتفع جبل الليث وسط جزيرة صغيرة أعطاها اسمه، وهي أقرب إلى أن تكون مجرد مرسى لمراكب هواة الغطس الذين يقصدونها للاستمتاع بمشاهدة أعماق البحر الأحمر التي تعج بحياة لا مثيل لها في تنوِّعها.

على الطريق إلى الليث، عرفنا أن عدد سكان المحافظة يبلغ نحو 72000 نسمة، معظمهم يعمل في الزراعة، ومن أشهر منتجاتها البطيخ الذي يزرع في بداية موسم الأمطار، إضافة إلى صيد الأسماك. أما طقسها فمداري حار صيفاً، ويتميز برطوبته العالية نظراً لوقوعها على ساحل البحر الأحمر. وأول ما طالعنا لدى وصولنا إلى الليث كان ميناؤها، الذي كان قديماً منفذاً للحجاج الآتين من مختلف بقاع الأرض. أما اليوم، فقد أصبح ميناءً تجارياً ترد إليه سلع عديدة من جيزان، واليمن، وسواحل إفريقيا، وتُصدّر أخرى إلى مكة المكرمة وجدة.

“الحورية الراقصة الإسبانية”

الإبحار إلى الجزيرة
بدأت رحلتنا إلى جزيرة جبل الليث من مرسى الأحلام على الشاطئ. بعدما تولت مدرِّبة الغوص أمل أبو حمود القيام بالإجراءات الرسمية لمعرفتها بالقوانين ومتطلبات الغوص. كان كل شيء جاهزاً من معدَّات غوص وأدوات صيد وخيمة وفرش للنوم والغطاء، وبالطبع مواد غذائية تكفي لمدة يومين أو ثلاثة. وفي التاسعة صباحاً، انطلقنا.
تقع جزيرة جبل الليث بين عدَّة جزر في أرخبيل واسع، حيث تستطيع الرؤية من خلال المياه الصافيـة، ومشاهـدة الألوان الزاهية للأسماك والصخور والمرجان والإسفنج، وكل ما يضمه هذا البحر الآسر.
أبحرنا بسرعة متوسطة حتى لا نفقد الاستمتاع بصفحة الماء، وأزواج الدلافين المرحبة بقدومنا.. احتجنا إلى ساعتين للوصول إلى الجزيرة الجميلة رغم أنها خالية من كل شيء، إلا عريشة صغيرة تمنح بعض الظل لمن يتفيأ بها خلال سطوع الشمس. إنها مجرد مرتفع صخري منبسط مكوَّن من التربة المرجانية، تبلغ مساحتها 4 كيلومترات مربعة، وذات شكل بيضاوي، يتوسطها جبل مرتفع وحوله بعض التلال الأصغر منه.
الكل على الجزيرة الآن. والكل يجب أن يعمل لإعداد مكان المبيت؛ أما معدات وأدوات وملابس الغطس فبقيت في المركب.

تقع جزيرة جبل الليث بين عدَّة جزر في أرخبيل واسع، حيث تستطيع الرؤية من خلال المياه الصافية، ومشاهدة الألوان الزاهية للأسماك والصخور والمرجان والإسفنج، وكل ما يضمه هذا البحر الآسر.

الغطسة الأولى
كان موعد الغطسة الأولى عند الواحدة ظهراً. فأبحر بنا قائد المركب مجدداً باتجاه المكان الذي تُشد إليه رحال الغواصين. فهو الخبير في ذلك، ويعرف ما في أعماق تلك المياه كما يعرف أحدنا حارته. وبعد نحو عشر دقائق، أوقف محرك المركب، ورمى مساعده المرساة. ولم يمر وقت طويل، حتى قام القائد بتثبيت علم تحديد منطقة الغطس، وهو عَلَمٌ أحمر يطفو على الماء ومثبت بحبل وثقل في القاع، لتحذير كل من يقترب من هذه المنطقة بأن تحت هذه المنطقة يوجد غواصون، فيجب الانتباه الشديد لتلافي أي نوع من التصادم مع أجسام متحركة قادمة اإلى منطقة الغوص، وهذا نظام معتمد وأحد قوانين رياضة الغوص.
ارتدى الجميع ملابس الغوص، وانقسمنا إلى مجموعتين. وما هي إلا دقائق حتى بات الجميع تحت سطح الماء. وفور الغوص وتحقيق التوازن.. تبدأ متعة الرحلة.

كائنات بحرنا الأحمر
شاهدنا ما لا يُعد من الأسماك وسط الشعاب المرجانية. ومنها: “دجاجة البحر”، واسمها العلمي أسد البحر، ولكن درجت العادة في المملكة على تسميتها دجاجة البحر، وهي سمكه ذات أشواك سميكة من الجانبين وفي الزعنفة العلوية، وتتميَّز بألوانها الزهية وحركتها البطيئة، ولكنها تشكِّل خطراً على الغواصين، لأن أشواكها سامة ويجب تجنب العبث معها.

كذلك كانت بالقرب منا “سمكة النيمو” أو السمكة المهرج، التي تتميَّز بصغر حجمها وحركتها البهلوانية المشاكسة عند روية الغواصين، وهي ذات ألوان مختلفة ويوجد منها أنواع كثيرة في البحر الأحمر.
رحنا نلتقط الصور لأغرب الكائنات البحرية، ومنها “الحورية الراقصة الإسبانية”، وهي كائن رخوي رائع، يمكن مشاهدته في الغوص أثناء الليل، وأحياناً في النهار، وهو من الكائنات المميزة في البحر الأحمر ويوجد منه نحو 20 نوعاً.
أما الأخطبوط، فكان يراقبنا ويهرب منا، إذ كان يخشى أن نهاجمه. فهو من أذكى الكائنات البحرية، ويمتلك قدرة هائلة على الاختباء والاصطياد بسرعة عالية بواسطة مجساته الثمانية القوية.



أحياء مذهلة
يحوي البحر الأحمر شعاباً مرجانية ذات تنوِّع فريد، ويعكس تبايناً واضحاً من حيث الخصائص الحيوية والبيئية، بفعل دفء مياهه. وتشتهر أعماقه بالشعاب المرجانية الحافية الضيقة التي تمتد لعشرات الأمتار من الشاطئ، بمحاذاة عدة مناطق من الساحل السعودي، كما تحتوي على حشائش بحرية كثيفة ونباتات “المانجروف” و”الإسفنج”، وتحتضن هذه المناطق البحرية تشكيلة متنوِّعة من الشعاب مثل الشعاب المتفرقة الحافية والقبابية والأخدودية والفرعية، والجزر المرجانية التي على شكل حواجز، إضافة إلى تجمعات الأصداف المرجانية التي تنمو على أرضيات كلسية وطحلبية.

“دجاجة البحر”

وبعد أن بقينا نحو 50 دقيقة تحت الماء ثم عدنا إلى السطح، على أن تكون الغطسة التالية ليلية. ففي الليل تخرج الكائنات البحرية التي تختبئ أثناء النهار.
أمضينا عصر ذلك اليوم بتنظيم مخيمنا. كما جال البعض على أرجاء الصغيرة لاستكشافها. وما أن شارفت بدأت الشمس على المغيب، حتى تحلقنا جميعاً استعداداً للغطسة الليلية. وتوجهنا إلى مكان الغطس والذي لم يكن بعيداً عن الجزيرة. وأمضينا ما يقارب الساعة تحت الماء ورأينا من عجائب المخلوقات البحرية المختلفة الأشكال والألوان والأحجام ما يفوق القدرة على الوصف.

عالم الأعماق ليلاً
فأثناء الغوص ليلاً، شاهدنا على أضواء المصابيح الكهربائية الأسماك العاضة أو القاضمة، تلك التي تمتلك أسناناً قوية جداً تستخدمها في تقطيع الفريسة التي غالباً ما تكون سمكة. ومن أشهرها في البحر الأحمر القرش والباراكودا والإنجليس والموراي.
وبطبيعة الحال شاهدنا وصوَّرنا “القرش” الذي يُعدُّ من أكثر حيوانات البحر خطورة. وقد صنف العلماء نحو 360 نوعاً من هذه الأسماك المفترسة تعيش في المحيطات، لكنها أكثر شيوعاً في البحار الدافئة. وقد نالت أسماك القرش سمعة سيئة بسبب ما يشاع عن مهاجمتها للإنسان وافتراسها له. والحقيقة غير ذلك، فالعدو الحقيقي للقرش هو قرش أكبر منه، ومن بين مئات ملايين البشر الذين يرتادون البحار لا يتعدَّى عدد ضحايا هجمات القرش المئة حالة سنوياً على مستوى العالم. وفي حالات نادرة جداً يكون القرش هو البادئ بالهجوم. إذ إن الإنسان هو من يتحمـل جزءاً كبيراً من المسؤولية، إما بسبب استفزازه للقرش وإما بسبب الممارسات الخاطئة.

“سمكة النيمو” أو السمكة المهرج

ويجدر بالذكر أن في البحر الأحمر نحو 44 نوعاً من أسماك القرش، من بينها بعض الأنواع التي تمثل خطراً على حياة الإنسان، وأخطرها “القرش النمر” و”القرش أبوريشة بيضاء” و”القرش الذئب”.
أما أسماك “الباراكودا” فهي نوع خطر آخر من الأسماك القاضمة، وقد اكتسبت سُمعة سيئة ينفيها الواقع. فهي لا تهاجم الإنسان لمجرد الهجوم، ولا لافتراسه، ولكن كغيرها من “الكانسات” يمكنها أن تخطئ السباحين أو الغواصين. وهي شديدة الفضول وتقترب كثيراً من الغواصين، فيخيل إليهم أنها تتخذ وضعية الهجوم. وتكمن خطورتها في سرعتها الخاطفة وأسنانها الحادة التي تمكنها من تقطيع جسم الإنسان إلى نصفين بسرعة كبيرة. ولكن نادراً ما تهاجم الباراكودا الغواصين.
وعندما ظهر أمامنا سمك “الموراي” أصبنا بالرعب. فهو أكبر أسماك “الإنجليس” في البحر الأحمر. يصل طوله إلى ثلاثة أمتار، ويمتلك أسناناً حادة وقوية جداً قد تسبب إصابات خطيرة للإنسان، سواء أكان ذلك عمداً أو عن طريق الخطأ، كما أن لحمه يحتوي على سم يدعى “سيغواتيرا”.

“سمكة النيمو” أو السمكة المهرج، تتميَّز بصغر حجمها وحركتها البهلوانية المشاكسة عند روية الغواصين، وهي ذات ألوان مختلفة ويوجد منها أنواع كثيرة في البحر الأحمر.


من البحر إلى المائدة
وترقبنا بحذر وجود الأسماك التي تمتلك جهازاً لاسعاً يتكوَّن من غدة سُمية وشوكة تضخ السم من خلالها إلى الفريسة. وغالباً ما تستخدم هذه الأسماك جهازها اللاسع في حالة التعرض للهجوم. لذلك اتفقنا إذا رأيناها أن نخفض من حركتنا حتى لا تهاجمنا، فبعضها خطر جداً على حياة الإنسان، إذ لم يكتشف مضاد لسمها حتى الآن، ومنها أنواع خطرة تم اكتشاف مضاد لسمها وتحتاج إلى تدخل طبي.
كما شاهدنا أسماك “الأسد” وسمكة “الديك”، وهي مجموعة أخرى من عائلة الأسماك الصخرية، ويمكن تمييزها بسهولة عن طريق ألوانها الجذابة التي تمثل أيضاً خطورة عالية على حياة الإنسان، أما سمكة “الشيطان” فتشبه الأسماك الصخرية وتجيد التخفي بصورة مذهلة، ويصل طولها إلى 30 سنتيمتراً وهي شديدة السمية، لكنها أقل خطورة من السمكة الصخرية.
وعدنا مرة أخرى إلى السطح، وأمضينا ما يقارب الساعتين في المركب نصطاد بواسطة الصنارة الأسماك الصغيرة ومتوسطة الحجـم.. مما كفانـا مؤنـة عشائنـا تلك الليلـة. ثم عدنا أدراجنا إلى مخيمنا.

الغوص للمرة الثالثة
في ما يشبه حدائق الزهور

مع ساعات الفجر الأولى، تكثر القواقع والطيور البحرية حول شواطئ الجزيرة الصغيرة في منظر خلاب يأسر النظر. وما أن بانت أشعة الشمس، حتى توجه الجميع إلى المركب لتجهيز المعدَّات والاستعداد للغوص للمرة الثالثة.
كانت المياه صافية جداً، وما هي إلا دقائق حتى بدا لنا منظر من أجمل ما يمكن أن تقع عليه العين.. حقل كحقل زهور متعدِّدة الألوان، كالنوف البادي على حقل زهور هولندي.. فبمجرد تفكيرك بأي لون من الألوان تجده أمام عينيك:

متعة الغوص تكتمل بتصوير الأعماق

أحمر بكل درجاته وأصفر بدرجاته وأخضر بكل درجاته، وليس من المبالغة القول إننا شاهدنا كل ألوان العالم في ذلك الحقل المرجاني الجميل. فقد كانت الأسماك على تنوعها تشكل صوراً يستحيل نسيانها.
بعد أن عدنا إلى المركب والتقطنا أنفاسنا، طلبنا من الكابتن أن نذهب إلى مكان نستطيع أن نستمتع بصيد بعض السمك لزوم الغذاء.. فأخذنا إلى الجهة الأخرى من هذا الأرخبيل الذي يضم اثنتي عشرة جزيرة صغيرة ومتفرقة، حيث استطعنا الظفر بعدد لا بأس به من الأسماك وعدنا أدراجنا إلى مكان التخييم.
وعندما ارتفعت الشمس وازدادت حرارة الجو، بدأ الإنهاك يدب في الأجسام. فالبحر يحتاج إلى جهد متواصـل. جهزنا وجبة الغداء مع السمك اللذيذ وقام الكابتن بإعداد طبق أرز على الطريقة الفلبينية.. وبعد تناول وجبة الغذاء تثاقل الجميع في نقل أغراض التخييم إلى المركب استعداداً للعودة. وعند الواحدة من بعد الظهر، ودَّعنا جبل الليث عائدين إلى مرسى الأحلام. فوصلنا بعد نحو ساعتين، وأرسى القائد مركبه، وأطفأ المحركات، وغادر الجميع.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “تحت الماء في جزيرة جبل الليث”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *