مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

بطولات الأيدي في السينما


عزت القمحاوي

لأن الفن محاكاة للواقع، تبدو اليد في الأفلام جزءًا أساسًا من الوجود الإنساني، تُستخدم بتلقائية في الفعل وفي التعبير عن المشاعر والانفعالات، لكنها تتخطى هذا الوجود الاعتيادي في بعض الأفلام وتتقدَّم لتحتل دور البطولة. وتنتمي هذه الأفلام في العادة إلى طرفين متناقضين من الوجود: الجريمة والجمال. فالحبكة في الأفلام البوليسية تتعلق بالمهارة في التصويب، كما تتطلب الأفلام التي تقوم حبكتها على الموسيقى مهارة الدقة والليونة في اليد؛ إذ تعدُّ مهارة الأصابع البرهان البصري على جمال الموسيقى، فماذا لو اجتمعت أصابع الموسيقى والجريمة في الفيلم؟!

في ذاكرة السينما عدد من الأفلام التي لا تُنسى، تقوم حبكتها على مهارات اليد. وفي معظم هذه الأفلام يحتكر البيانو دور البطولة. ويمكننا أن نفسر هذا الانحياز بصريًا؛ لأن المساحة الواسعة للوحة مفاتيح البيانو تُتيح استعراض حركة الأصابع في الصورة، أكثر من أي آلة موسيقية أخرى، ويقابله القانون في التخت العربي. ويتطلب البيانو يدين كاملتي الخلقة، وجميلتين بأصابع ممشوقة. أمَّا آلات النفخ والطبل والوتريات، فلا تتطلب الكمال في الأصابع، لكنها لا تستغني عنها.

نستطيع كذلك أن نفكر في الحضور الفيزيائي للبيانو، بحجمه الكبير وانفصاله عن جسد العازف كتحدٍ يفرض عليه وضعية الجلوس مشدودًا ومنتبهًا على مقعد من دون ظهر، بعكس أغلبية الآلات التي تُحتضن وتكون جزءًا من جسم العازف، مثل: الكمان والعود والأكورديون، أو تُحتضن باليدين وتتصل بالفم كما في الترومبيت والناي والشبَّابة.


في الفيلم الدرامي الأمريكي “الأصابع – 1979م” (Fingers) يتلخص وجود البطل الشاب جيمي أنجليلي في أصابعه؛ إذ بسبب مهارته في استخدام أصابعه ويده تحول اسمه إلى جيمي فينجرز. فقد وجد ذلك الشاب نفسه عالقًا بين انتمائه إلى والده عضو المافيا، وأمه عازفة البيانو غريبة الأطوار. هو الفيلم الأول للمخرج جيمس توباك الذي أنشأ مواجهة بين عزف البيانو وتصويب المسدس في يد جيمي فينجرز، الذي كان يُعد نفسه لعرض في قاعة كارنيجي ذات الهيبة الموسيقية الكبيرة، ولكن الأحداث فرضت عليه أن يذهب جهة الانتقام والتورط في عالم المافيا. وقد أعيد إنتاج الفيلم في فرنسا في عام 2005م تحت عنوان “الخفقة التي تخطاها قلبي” (The Beat That My Heart Skipped).

وفي فيلم يحمل العنوان نفسه “أصابع” عام 2019م، للمخرج خوان أورتيز، نواجه رعب الخوف من تشوه الأصابع الذي تعانيه أماندا، التي ترى في كوابيسها أن أصابعها مشوهة، قبل أن تلتقي في الواقع بزميل مبتور الإصبع.

الطريف أن هارفي كيتل بطل فيلم “الأصابع” الأول، يعود فيأخذ دورًا رئيسًا آخر في فلم “البيانو – 1993م” (The Piano)، الذي يدور حول عازفة بيانو بكماء من القرن التاسع عشر، على الساحل الغربي لنيوزيلندا. وقد حقق الفيلم بأجوائه النفسية المذهلة نجاحًا تجاريًا ونقديًا كبيرًا، وفاز بثلاث جوائز أوسكار: أفضل ممثلة لهولي هنتر، وأفضل ممثلة مساعدة لآنا باكوين (ثاني أصغر طفلة تفوز بالأوسكار بعد تاتوم أونيل)، وجائزة أفضل سيناريو أصلي. واستقر الفيلم بوصفه واحدًا من الأفلام المهمة في تاريخ السينما. ويشغل البيانو محور الصراع في هذا الفيلم؛ إذ نرى العازفة البكماء يقلّها مركب صغير في البحر مع ابنتها الصغيرة والبيانو في طريقها إلى زوج لم تختره. وفي لحظة استقبالها، يقرر الزوج بكل فظاظة أن يترك على الشاطئ البيانو الذي تتمحور حوله حياة البكماء.

بداية كهذه لا بدَّ أن تمهِّد لقصة حب مع أول رجل يعيد إليها روحها المتروكة على الشاطئ. وهذا ما حدث بالفعل، وأثمر هذا التعارف حبًا؛ فكان العقاب من الزوج قطع إصبع وإرساله مع الصغيرة إلى العشيق، مع التهديد: كل لقاء بينهما سيكون ثمنه قطع إصبع جديد. الأعماق النفسية المظلمة التي دخلها هذا الفيلم تبدو سمة في سينما الأجواء الباردة والسماوات المظلمة.

العقوبة نفسها نجدها في فيلم آخر هو “حوريات أنشرين”، (The Banshees of Inisherin)، الذي يجري في جزيرة خيالية بأيرلندا تدعى إنشرن، وهو من إنتاج 2022م. وتدور أحداثه في عشرينيات القرن الماضي في أيرلندا، وهي فترة شديدة الاضطراب بالحرب الأهلية، لكن هذه الجزيرة المعزولة كانت تعيش حربها الخاصة في الأعماق المظلمة للأبطال، حيث لا يمكن فهم علاقات الأب بالابن، ولا الأخ بالأخت، ولا الصديق بالصديق.

فبعد أن فشل عازف الكمان المسن في إقناع صديقه الشاب بالابتعاد عنه، نفّذ العقوبة بنفسه على نفسه؛ إذ قطع إصبعه، وألقى بها على باب كوخ الشاب، مع تحذيره: كل محاولة جديدة للحديث إليَّ سأرد عليها بقطع إصبع إضافية.

يقوم الممثل بريندان غليسون بدور عازف الكمان المسن (كولم دوهرتي)، في حين يقوم بدور الشاب (بادريك سوليفان)، الممثل كولين فاريل. ويجسد مشهد قطع العازف لإصبعه صراعه النفسي المرير بين رغبته في العزلة وحماية نفسه من ألم صداقة لا يعرف المشاهد عمقها المظلم، إلا من خلال ألم قطع الإصبع الذي يشوّه به العازف جسده ويدمر به طموحه الفني.

بعكس أصابع التضحية وأصابع العقاب، تأتي أصابع الفداء، حيث تتوقف حياة العازف وزوجته الممثلة الشهيرة على إجادته للعزف، في الفيلم الإسباني الناطق بالإنجليزية “البيانو الكبير – 2013م”. ففي واحدة من الحبكات الخرقاء والمقنعة في الوقت نفسه، مثل حبكات هتشكوك، يضع المؤلف داميان شازيل والمخرج يوجينيو ميرا، البطل في امتحان رهيب؛ إذ يتلقى تهديدًا مكتوبًا على نوتاته الموسيقية من قناص مختفٍ في المسرح يهدده مرة بالتصويب عليه، ومرة بالتصويب على رأس زوجته الجميلة الجالسة في الصف الأول بين المشاهدين، إذا ما أخطأ في عزف حركة واحدة.

الأكثر إثارة في الحبكة أن العرض كان الأول للعازف الأمهر توم سيلزنيك بعد خمس سنوات من التوقف بسبب رهاب الظهور أمام الجمهور. فإذا هو يُوضع في هذا الامتحان المضاعف، حيث يخاطبه القنّاص طوال الوقت وتتراقص دائرة القتل الحمراء على جبهته ويديه ولا تبتعد عنه إلا ويراها على جبهة زوجته في الصالة. ولم تُحسم المواجهة لصالح الموسيقي بسبب مهارة أصابعه على البيانو، بل عبر مطاردة مع القناص في كواليس المسرح. لكنها مهارة الأيدي في النهاية.

ولا يمكن أن تنتهي متلازمة البيانو والأيدي من دون فيلم “عازف البيانو – 2002م” من إخراج رومان بولانيسكي، وتأليف رونالد هاورد، عن سيرة العازف البولندي فلاديسلاف شبيلمان، الوحيد الذي نجا من عائلته بعد ترحيلها إلى معسكرات النازية بفضل مهارته. فقد اختفى العازف لبعض الوقت في شقة خالية تملكها أسرة تدين له بالفضل، فأقدمت على هذه المخاطرة من أجله، وبعد أن صار هو ومضيفوه في خطر، ترك مخبأه وعاش متنقلًا في البنايات المهجورة حتى قبض عليه ضابط ألماني، لكنه تعاطف معه بعد أن عرف أنه العازف الذي كان يسهر على موسيقاه في الراديو. وقد جمع هذا الفيلم بين سعفة “كان” وأوسكار أفضل مخرج وأفضل ممثل وأفضل سيناريو مقتبس.

“الأيدي الناعمة” أحد أشهر الأفلام الكلاسيكية في السينما المصرية، أخرجه محمود ذو الفقار عام 1963م، عن قصة لتوفيق الحكيم، ومن بطولة أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وصباح ومريم فخر الدين وليلى طاهر.

وتدور قصته حول ثري نزعت حركة الضباط في يوليو 1952م أملاكه باستثناء القصر الذي يعيش فيه معدمًا لا يستطيع التكيف مع العهد الجديد، متمسكًا بمعتقداته القديمة باعتبار عمل النبلاء عارًا. الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما التي أنتجت عددًا من الأفلام الأيديولوجية، واضحة في توجهها إلى ذم العهد السابق، وبعضها على درجة فنية عالية مثل فيلم “الزوجة الثانية” على سبيل المثال، وبعضها تحول في وعي الجمهور إلى الكوميديا مع الزمن، مثل “a” و “رد قلبي” الذي يبثه التلفزيون سنويًا، وصارت حواراته الدرامية مصدر عدد من النكات ومدعاة لسخرية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.

أن يعيش الإنسان من دون حاسة أساسية مثل حاسة البصر؛ فلا بدَّ أن تشتد حواسه الأخرى. البديل الذي يتحمل العبء التعويضي الأكبر هو السمع، وتليه حاسة اللمس، حيث يستطيع الأعمى القراءة ولعب الشطرنج بيديه، والتحرك في نطاق محدود بالتلمس والعصي الحديثة. وفي السينما، يعتمد المخرجون عادةً على ممثل مبصر يتظاهر بالعمى، حيث يمكن توجيه الممثل بسهولة في موقع التصوير، وعادةً ما تميل الأفلام إلى تصوير النموذج الخارق من العميان: الأعمى الذي يقوم بأعمال ينتصر بها على إعاقته. ويعدُّ الفيلم الأمريكي “عطر امرأة – 1992م” (Scent of a Woman) للمخرج مارتن برست، الأشهر في هذا المجال، وهو الفيلم الوحيد الذي نال آل باتشينو فيه أوسكار أفضل ممثل.

وفي السينما العربية، يقف فيلم المخرج داود عبدالسيد “الكيت كات” في مكان وحدَه، بمهارة السيناريو والإخراج وبالأداء الرائع لمحمود عبدالعزيز، الذي أدى دور الشيخ حسني الأعمى الذي لا يعترف بعماه. ولم يكن دور الشيخ حسني بهذا الطول في رواية إبراهيم أصلان “مالك الحزين” التي اقتبس منها داود فيلمه. طوال الفيلم يتحرك محمود عبدالعزيز خلف يديه المرفوعتين في مستوى صدره. بهما يتلمس الطريق، وبهما يقود الدراجة النارية، وبهما يكشف علاقة سرية بين رجل وامرأة، وبهما يتلمس وجه ابنه فيكتشف وسامته وشبابه.


مقالات ذات صلة

اليد هي الأداة التنفيذية لكل ما يصنعه الإنسان. بها نأكل ونشرب ونلعب، ونزرع ونصنع، ونصافح ونحارب ونكتب، ونرسم ونبني ونهدم.

لأن اليد أول ما يراه الآخرون منا بعد الوجه، كانت محل تجميل منذ قديم الزمان، سواء أكان بالحلي أم بالخضاب وحسن تشذيب الأظفار وتقليمها.

نشأت صناعة القفازات مبكرًا جدًا من الوعي بوجوب حماية اليدين من المؤثرات الخارجية، ولجأ الإنسان إلى استخدامها لأسباب مختلفة.


0 تعليقات على “بطولات الأيدي في السينما”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *