في إطار مواكبتها التاريخية والدائمة للحركة الأدبية وجديدها، نشرت القافلة في عددها لشهر شعبان 1400هـ (يونيو – يوليو 1980م)، مقالاً بقلم نجيب محمد القضيب، حول شعر بدر شاكر السيّاب وما حمله من جديد إلى الشعر العربي. وفي ما يأتي أبرز ما جاء فيه:
لا أحد ينكر ريادة بدر السيّاب لحركة التجديد في الأدب العربي المعاصر. فالمحاولات العديدة التي سبقته لم تكن سوى الأسس التي مهّدت لظهور الشعر الحر وما يسمى بالشعر الجديد.
فتجربة السيّاب في هذا المضمار تجربة رائدة، لأنها استطاعت أن تواصل عملية التطور التي طرأت على القصيدة العربيّة خلال تاريخها الطويل، كما أنها تغلبت على الجمود الذي ظلّ مخيماً على القصيدة العربيّة سواء أكان في الشكل أو المضمون، وهذا الانعطاف ليس بالشيء اليسير. إلا أن السيّاب استطاع أن يفجّر ينابيع الإبداع ويجعل الشعر العربي يواكب الأحداث التي مرت بها الأمة العربيّة، وينقل الشعر إلى آفاق أخرى بفضل ما يمتلكه من مواهب وقدرات.
فهو وإن جاء مجدداً، إلا أنه حافظ على التراث العربي ولم ينحرف عنه، فظلت اللغة العربيّة الفصحى هي الأساس وبقيت أوزان “الخليل” هي القاعدة التي ينطلق منها. إلا أن هذه المحافظة لم تعصمه ومن معه عن التهجم العنيف والنقد اللاذع، حتى إن العقاد اتهم هذه الحركة بالإسفاف والعبث والجهل، وقد أطلق على الشعر الجديد اسم “الشعر السايب”. إلا أن الدكتور طه حسين وقف موقفاً محايداً حين قال:
“فليتوكل شبابنا من الشعراء على الله، ولينشئوا لنا شعراً حراً أو مقيداً جديداً أو حديثاً، ولكن ليكن هذا الشعر شائقاً رائقاً ويومئذ لن يروا منا إلا تشجيعاً”.
أسباب التحوُّل إلى الشعر العربي المعاصر
لو حاولنا أن نقف على أهم الدواعي التي أدَّت إلى هذا التحوُّل لرأينا أن في مقدِّمتها التطورات التي طرأت على الساحة العربيّة بفعل الحرب العالمية الأولى، وامتداد هذه الأحداث حتى بعد الحرب العالمية الثانية، وما رافق ذلك من تطورات سياسية واجتماعية واقتصاديّة، إضافة إلى نشوء طبقة وسطى مثقفة أخذت على عاتقها نشر مختلف الأفكار، وإيجاد أدب يعبِّر عن البيئة بصدق وإحساس. وقد وجدت هذه الطبقة متنفساً لها على صفحات المجلات والصحف التي رافقت تلك الأحداث. ومن جانب آخر نرى التمزق الذي عاناه الوطن العربي وويلات الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين والنزوع إلى الاستقلال.. كل ذلك ولّد ردود فعل عنيفة انعكست لآثارها على الأدب والشعر بصورة خاصة.
وهناك عامل ثقافي لا يقل أهمية عن العوامل السابقة ألا وهو الاطلاع والوقوف على تجارب الشعراء الغربيّين. فنحن نعرف أن كثيراً من الأدباء اطلعوا على الآداب العالمية وترجموا بعض روائعها إلى العربيّة مما يسّر للأدباء والشعراء الذين لم يتمكنوا من الاطلاع عليها بنصّها الأصلي، أن يقرأوها مترجمة.
بدر شاكر السـيّاب
رغم سبق السيّاب لخوض هذه التجربة على الشعراء أمثال نازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وغيرهم، فهو شاعر فذ، استطاع بما يمتلك من إمكانات أدبيّة أن يجعل القصيدة العربيّة تلحق بركب الشعر العالمي. فقد اطّلع على الأدب العربي، وكان يسمي المتنبي والمعرّي والجاحظ العمالقة الثلاثة. كما أنه خلال سنوات دراسته في بغداد درس الأدب الإنجليزي فتأثر به.. واطلع على الأدب الأمريكي وقرأ بعض التراث الفكري العالمي، كما أنه استفاد من العروض الخليلي ووظفه لما يخدم حركة الشعر العربي. فهو وإن لم يلتزم بالشكل الذي حدَّده “الخليل” للبيت إلا أنه التزم التفعيلة، فحول الأساس من مجموع التفعيلات التي تشكِّل وحدة البيت إلى التفعيلة نفسها مما أتاح لة مجالاً أوسع للتعبير وميادين جديدة لتصوير العواطف والأحاسيس والتخلص من الأفكار المبتذلة. كذلك نرى أن السيّاب استطاع أن يبعث الأسطورة ويستفيد منها. وأصبحت عنده تعني ما يسمّى “بالإسقاط” وهذا يُعدُّ قمة الإبداع الفني في الشعر. كما أنه استفاد من الشخصيات الحقيقية والوهمية لتتيح له مجالاً أعمق، وكذلك تعامل مع اللغة تعاملاً جديداً فأعطى كلماتها مدلولات أخرى غير المتعارف عليها، فحملت معانيَ مستجدة، ومما دعاه إلى ذلك كفاحه من أجل القيم الإنسانيّة فلاذ بها ليحقق من خلالها أهدافه.
تجربة السيّاب في مضمار الشعر العربي تجربة رائدة، لأنه استطاع أن يواصل عملية التطور التي طرأت على القصيدة العربيّة خلال تاريخها الطويل، كما أنه تغلب على الجمود الذي ظلّ مخيماً على القصيدة العربيّة سواء أكان في الشكل أو المضمون، وهذا الانعطاف ليس بالشيء اليسير.
أما معاناة السيّاب فقد كانت معاناة فشل عاطفي واضطهاد فكري ونضال ضد الفقر والجهل. وقد توّج معاناته هذه بالتأمل في التجربة حتى صارت أعمق وأصدق. فهو كما يقول إيليّا حاوي: “غدا أعمق اتصالاً بالحقيقة الفعلية في الوجود، وبات أدنى إلى استبطان أرواح العالم المبثوثة في حناياه والتي لم يتصل بها الشعر العربي من قبل”.
أما بالنسبة للموسيقى في قصيدة السيّاب فقد تمكَّن من التخلص من الوحدة الموسيقيّة الرتيبة، حيث لم ترتبط قصيدته بذلك التحديد أو تلك السنتمترية فأصبحت أكثر تنويعاً، ونرى أن أغلب قصائده يغمرها الإيقاع الشجي وفقاً لحالته النفسية. وقد كان في بعض قصائده ينتقل من بحر إلى آخر؛ لينوِّع في النغم أو يمزج بين الشكل الجديد والشكل القديم. وعلى الرغم من كل هذا فهو لم يتخلـص من الموسيقى الخارجية، لأنه ظل مرتبطاً بالشعر العمودي ولم ينفصل عنه انفصالاً تاماً. وخلاصة القول إن القصيدة عند السيّاب اتخذت شكلاً مختلفاً لم تألفه القصيدة العربيّة من قبل، فالشكل عنده ليس قالباً يحتوي القصيدة وإنها محتوى القصيدة هو الذي يحدِّد أبعادها.
تطور القصيدة عند السيّاب
تطوَّرت القصيدة عند السيّاب بشكل واضح. ونستطيع أن نتتبّع تطورها من بداياته. فقد كانت قصيدة “هل كان حبّاً” تمثل أولى ثمرات الشعر الحر بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يوجد في هذه القصيدة سوى أنها تمثل الجسر الذي عبر عليه السيّاب إلى مرحلة التجديد الحقيقـي، فهي لا تختلـف عن الشعر العمودي كثيراً.
ثم يواصل السيّاب إنتاجه فنرى قصيدتيه “أغنية قديمة” و”في السوق القديم” تمثلان البداية الحقيقيّة للشعر الحر. ونستطيع أن نقول من خلالهما إنه استطاع أن يثري تجربته، وأن ينتقل إلى مرحلة تجسد حقيقة الانعطاف في القصيدة العربيّة من حيث الشكل أو المضمون. فقد تمكَّن من أن يفلت من أسر الشكل القديم الذي ظل متصلاً به، كما أنه ابتعد عن المباشر والخطابيّة، فبدأ يلقي الظلال الباهتة والرؤى الخفيّة على قصائده.
ويتعمق مفهوم الشعر الحديث عند السيّاب خلال فترة الخمسينيّات التي تمثل نضجه. ففي هذه المرحلة، تكاملت ثقافته وتطوَّرت تجربته، فتنامت القصيدة عنده بشكل واضح. وظهرت الأسطورة في شعره بشكل مكثف، وكذلك التعامـل الجديـد مع اللغة بحيث صارت لكلماتها معـانٍ مستحدثة مستمدة من الغــوص وراء المعنى الحقيقي الكامن فيها. فالمطر رمز العطاء، والموت رمز البعث، وصوت الطفل رمز التجدد، وبُوَيْب رمز تدفق الحياة في الأرض والإنسان وهكذا..
أما بالنسبة للمرحلة الأخيرة من حياته، فقد أصيب بمرض عضال أفقده حتى القدرة على المشي، وبدأ جسمه ينحل وقواه تنهار. وشعر بدنو أجله، فاسودت الدنيا في وجهه، وتحوَّلت الحياة إلى موت. فهو وإن كان يرى فيه الخلاص من شقائه إلا أنه يرى فيه نهايته.. وفعلاً كان كذلك لأنه أوقفه عن متابعة تجربته فخطفه وهو في قمة نضجه.
لقد فتح السيّاب الأبواب أمام جيل الروَّاد لينهلوا من التجارب التي فجّرها، فهو خلال الفترة القصيرة من حياته التي امتدت بين عامي 1926 – 1964م، (38 سنة) أصدر عشرة دواوين، بالإضافة إلى كثير من القصائد التي نشرت فيما بعد. ومع هذا، لا يمكن أن نغفل دور الذين شاركوه وخاضوا معه التجربة.
اترك تعليقاً