في كل لحظة من النهار والليل من كل يوم، وعلى مدار السنة، هناك أناس يُوضِّبون حقائبهم استعدادًا للهجرة. وفي الوقت نفسه، يوجد في مطارات العالم مغادرون وقادمون جدد يأملون في عيش حياة أفضل بعيدًا عن أوطانهم الأصلية. وعلى المعابر الحدودية البرية وفي البحار هناك أيضًا مثلهم. وأن تكون للهجرة أسبابها العديدة، فالمؤكد أن سيل هذه الأسباب لم ينقطع يومًا، منذ أن هاجر أجداد جنسنا البشري من موطنهم الأم ليستوطنوا أرجاء العالم المختلفة. وفي مفاعيلها، قد تكون الهجرة واحدة من أكبر المؤثرات في صياغة تاريخ الإنسانية، وفي نشوء الأمم، وفي التلاقح الثقافي، وتغيير أحوال ملايين البشر. في هذا الملف، وضمن المجال المتاح، يستطلع عبود طلعت عطية بعضًا مما تنطوي عليه الهجرة، وهو كثير ويتراوح ما بين الحزن الدفين والأمل في نفس المهاجر على مستوى الفرد، ودورها الضخم على مستوى اقتصادات دول العالم. وما بين هذا وذاك أدبٌ وفن وطموحات وخيبات وآمال وإنجازات أعطت العالم الوجه الذي نراه اليوم.
هل أخطأنا في اختيار الهجرة موضوعًا لملف هذا العدد؟
في وقت ما خلال البحث، قفز هذا السؤال إلى الذهن. فالموضوع شاسع، حتى يكاد يشمل نصف تاريخ العالم، فمن أين نبدأ؟ وأين نتوقف؟ وما من شاردة أو واردة في موضوع الهجرة، أي هجرة، إلا وحظيت بسيل من الدراسات والأبحاث. وما من دولة في العالم إلا وأنشأت جهازًا حكوميًا خاصًا بشؤون الهجرة والمهاجرين، المغادرين منهم والوافدين؛ نظرًا لما لها من تأثيرات مصيرية على كل الصُّعد الوطنية. وإلى ذلك تُضاف الوكالات الأممية ومراكز الأبحاث والدراسات التي يتدفق منها نهر متواصل من المعلومات والبيانات. فصرنا نتعامل مع الهجرة وكأنها مجموعة أخبار متفرقة، تارة هي من بيت مجاور، وتارة من الحدود الأمريكية المكسيكية. ولذا، فإن الجواب على السؤال الذي طرحناه آنفًا هو: لا، لم نخطئ، بالرغم من أن القارئ يمكنه أن يضيف كثيرًا من التفاصيل والأمثلة على أي فقرة في هذا الملف، ولكن الهجرة تستأهل التقاط صورة بانورامية لها تؤكد أنها أكثر من بحث الفرد عن عيش أفضل مما يتيحه وطنه، بل أقرب إلى أن تكون جزءًا من صميم النسيج الإنساني، ومن تاريخ الحياة البشرية وحتى الحيوانية وطبيعتهما.
اعتدنا في كل ملف أن نتناول تاريخ موضوعه. أمَّا الهجرة، فلا بداية لها ولا نهاية. كانت وستبقى فعلًا إنسانيًا متواصلًا في سعي بني البشر إلى وضع أفضل عندما يضيق بهم موطنهم لسبب أو لآخر. ويكفي لتوضيح الصورة أن نتطلع إلى أقرب الأمثلة إلينا: شبه الجزيرة العربية.
فقد ثبت أن الأحوال المناخية في الجزيرة العربية تبدّلت مرّات عدة ولآلاف السنين خلال العصر الجليدي المتأخر (البليستوسين)، وأنها عرفت فترات اعتدال مناخي جعلتها غنية بالأنهار والبحيرات والنبات. وفي الفترات التي يكون فيها المناخ ملائمًا، كان الإنسان القديم يهجر إفريقيا عبر برزخ السويس، إمَّا لتبدّل المناخ سلبًا هناك، وإمَّا لقلة الموارد اللازمة. وعندما يكون المناخ غير ملائم، كان يمتنع عن عبور برزخ السويس. ويقول عالم الأحافير مايكل ستيفنسن إن الدلائل الأحفورية تؤكد هجرة سلالات بشرية إلى شبه الجزيرة العربية على خمس دفعات على الأقل، وكانت على التوالي قبل: 400 و300 و200 و130 و75 وإلى 50 ألف سنة.
وبالقفز من ذلك الماضي السحيق إلى ما نقرؤه اليوم على شبكة الإنترنت، نجد أن “تقرير الهجرة العالمية” الصادر عن الأمم المتحدة في عام 2022م، يضع المملكة العربية السعودية في المرتبة الثالثة بين أكثر دول العالم جاذبية للمهاجرين بعد الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، وارتفعت بذلك من المرتبة الثامنة التي كانت لها في عام 2000م، بوصول عدد المهاجرين فيها إلى 13.5 مليون شخص، تليها في الجزيرة العربية دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة السابعة بنحو 8.7 ملايين مهاجر فيها.
وما بين البحث عن الماء والنبات قديمًا والبحث عن فرصة عمل مُجزية اليوم، يبقى الهدف الرئيس من الهجرة هو نفسه في جوهره: السعي إلى حياة أفضل يتيحها موطن آخر لسبب أو لآخر. وبين هذا وذاك، وكما هو الحال في كل بقاع العالم، كانت تقلبات الأحوال هي التي تُعزز الهجرة إلى هذه المنطقة أو تلك، أو تدفع بعض سكانها إلى هجرها. فالهجرة التي رسمت خريطة الحضارات، من أقدمها التي لا نعرف عنها أكثر من بضعة أسطر، إلى أحدثها وما تواجهه من قضايا بفعل الهجرة إليها، ستبقى شغلها الشاغل حتى ما بعد المستقبل المنظور. ففي لندن، على سبيل المثال، يوجد متحف للهجرة، ويعرّف عن نفسه بالقول: “إن متحف الهجرة يستكشف كيف أن حركة الشعوب من المملكة المتحدة وإليها وعبرها، هي التي صنعت ما نحن عليه بوصفنا أفرادًا وأممًا”.
تكشف مصادر الأمم المتحدة أن عدد المهاجرين في العالم بلغ في نهاية العام الماضي 2023م، نحو 281 مليون مهاجر دولي. وارتفع عدد الأفراد النازحين بسبب الصراعات والعنف والكوارث وأسباب أخرى إلى أعلى المستويات التي شهدها العصر الحديث، حيث وصل العدد إلى 117 مليون نازح ونازحة، وهو ما يؤكد الحاجة الملحة لمعالجة أزمات النزوح.
ما بين أحلام المهاجر ويأس النازح
معظم البحوث التي طالعتنا حول الهجرة تُقسّمها إلى نوعين رئيسين على المستوى الجغرافي: الهجرة الداخلية ضمن الدولة الواحدة، والهجرة العابرة للحدود الدولية.
أمَّا على مستوى الدوافع والأهداف، فغالبًا ما تُصنّف الهجرة في البحوث الرائجة ضمن إطارين: إمَّا للبحث عن فرص عمل ومورد رزق أو حياة أفضل، وإمَّا للنجاة من ضغط عامل ذي خطورة لا تُقاوم، مثل: الكوارث الطبيعية والحروب والاضطهاد السياسي والتطهير العرقي وما شابه ذلك، وتُسمَّى الهجرة عندئذٍ نزوحًا، ويُسمّى المهاجِرون نازحين. وفي الفصل بين هذين النوعين من الهجرة، لا يتورع البعض عن الحديث عن هجرة “طوعية” وأخرى “قسرية”. صحيح أن النزوح هو غالبًا دراماتيكي وأعنف بكثير من الهجرة طلبًا للعمل. ولكن لا “طواعية” على الإطلاق في أي شكل من أشكال الهجرة، بل كل الهجرات هي في الواقع قسرية، والاختلافات ما بينها على المستوى الإنساني تكمن في مستوى الألم الذي يصاحبها مهما كَبُرت الآمال والتوقعات. وهذا الألم قد يكون في حده الأدنى عند المهاجر للدراسة (معظم البحوث تصنف الدراسة الخارجية ضمن الهجرة)، وفي حده الأقصى عند النازح هربًا من الموت من دون أي اطمئنان إلى وجهته النهائية.
ما بين الهجرة، التي نسمِّيها اصطلاحًا هنا “التقليدية”، والنزوح، اختلافات عديدة وعلى كل المستويات، من نوعية العامل الضاغط في الوطن الأم، إلى اختيار الوطن البديل والسبيل إليه، وحتى الانصهار فيه. ولتوضيح الصورة، يمكننا أن نتوقف أمام اثنتين من أكبر الهجرات في العصر الحديث، تعبّران بشكل متطرف عن هذه الاختلافات.
هجرة الإيرلنديين إلى أمريكا
خلال العقود الخمسة التي تلت استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عام 1776م، كان الأنجلو سكسون البيض البروتستانت، يشكّلون الغالبية التي تطبع الشخصية الإثنية للشعب الأمريكي. ولكن ما بين العشرينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر، صار الإيرلنديون يكوِّنون غالبية المهاجرين إلى القارة الجديدة، يليهم عددًا الإنجليز والألمان. وكان المهاجرون الإيرلنديون من متوسطي الحال بمقاييس ذلك الزمن، هاجروا لرغبة منهم في التخلُّص من الحكم البريطاني لبلادهم، وكانوا يملكون بعض المال لتأسيس عمل في الموطن الجديد. وكانوا يصلون إلى الولايات المتحدة الأمريكية إمَّا بحرًا، وإمَّا برًا من كندا التابعة للتاج البريطاني؛ إذ كان السفر من إيرلندا إلى كندا أرخص بكثير من السفر مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن تعاظم تدفق الإيرلنديين اتخذ منعطفًا بارزًا في أواسط القرن التاسع عشر.
ففي عام 1845م، انتشرت جرثومة في محاصيل البطاطس في إيرلندا، تجعل الثمار سوداء غير صالحة للأكل. فبدأت بذلك “مجاعة البطاطس” التي استمرت خمس سنوات، وأدت إلى وفاة مليون نسمة، وتهجير مليونين إلى خارج البلاد، منهم نحو 850 ألفًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ولمَّا تألفت غالبية هذه الموجة الكبرى من المهاجرين الإيرلنديين من فقراء هاربين من المجاعة، وكما هو الحال في أي ثقافة تخشى من تعاظم ثقافة مختلفة في بيئتها الخاصة، تعرَّض الوافدون الإيرلنديون في هذه الموجة للكراهية على أساس طائفي، وللتمييز في العمل. فالغالبية البروتستانتية، التي كانت تطبع هوية الولايات المتحدة الأمريكية، خشيت من تأثير الإيرلنديين الكاثوليك، والذريعة في ذلك أنه في حال نشوب حرب بين الولايات المتحدة الأمريكية ودولة أخرى، فإن ولاء الإيرلنديين سيكون لبابا الفاتيكان. وفُتح ذلك الباب على مصراعيه لنقاش حول “الانصهار” و”تحديد ماهية المواطن الأمريكي”. ولا يزال هذا النقاش مفتوحًا على مصراعيه حتى يومنا هذا.
وفي عودة إلى مفاعيل هجرة “مجاعة البطاطس”، نشير إلى أنها كانت آنذاك وراء نهضة صناعة السفن البخارية في بريطانيا، وبداية تحسين ظروف السفر. فبحلول عام 1855م، كانت السفن البخارية التي يزيد وزنها على 1500 طن قد أصبحت رائجة. ولم يقتصر دورها على اختصار مدة السفر عبر الأطلسي بنحو أسبوعين عمَّا كان عليه في السفن الشراعية، بل ولّدت انطباعًا عند المهاجرين بأن المهجر قريب، والعودة إلى الوطن الأم ستكون متاحة وسهلة. ولكن هؤلاء انصهروا سريعًا في بلادهم الجديدة، وأصبحوا من أنجح الجاليات فيها.
مأساة المهاجر مضاعفة 15 مليون مرة!
إن كان لا بدَّ للمهاجر من الإحساس بالحزن على مغادرة موطنه، وأن يتخذ هذا الحزن بُعدًا مأساويًا إذا كانت الهجرة قسرية، فماذا لو ضاعفنا هذا البعد المأساوي 15 مليون مرة؟
في 18 يوليو 1947م، أقرَّ البرلمان البريطاني استقلال الهند وباكستان على أن يدخل هذا الاستقلال حيّز التنفيذ في 15 أغسطس، بعد أن تتولى لجنة يرأسها بريطاني ترسيم الحدود الجديدة ما بين البلدين. وبالفعل أعلنت باكستان استقلالها يوم 14 أغسطس، وتبعتها الهند في اليوم التالي. ولمَّا كان التوتر الطائفي ما بين الهندوس والمسلمين على أشده، آنذاك، بعد سنوات من المناوشات الدموية، جاء ترسيم الحدود ليصبَّ الزيت على النار؛ إذ تُرك في كل من البلدين، وخاصة على جانبي الحدود الجديدة، أقليات طائفية شعرت بالهلع، وسعت إلى الانتقال إلى الجهة الأخرى، اعتقادًا منها أنها ستكون في أمان أكبر هناك. وهكذا بدأت في 17 أغسطس 1947م، أكبر هجرة قسرية موثقة في التاريخ، وأكثرها دموية ومأساوية؛ إذ اتجه المسلمون إلى باكستان الجديدة، والهندوس والسيخ إلى الهند.
بلغ عدد النازحين من الجهتين نحو 15 مليون نسمة (8 ملايين من ولاية البنجاب وحدها). بعضهم ركب القطارات، ولكن غالبيتهم رحلوا عن ديارهم مشيًا على الأقدام، وحملوا من ممتلكاتهم ما استطاعوا على أكتافهم ورؤوسهم، وانضموا إلى قوافل النازحين التي كانت الواحدة منها تضم عشرات الآلاف. وكانت هذه القوافل تتعرض لهجومات دموية من قبل النازحين في الاتجاه المعاكس، كما كان حال القطارات أيضًا. وتتفاوت تقديرات عدد القتلى خلال هذا النزوح ما بين 200 ألف ومليوني نسمة من الطرفين، وأكثرها اعتدالًا يتحدث عن مليون قتيل. واستمرت أعمال العنف والقتل نحو ستة أسابيع، ولكن جراحها لم تلتئم تمامًا في ذاكرة الشعبين حتى اليوم.
اترك تعليقاً