مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

الهجرة النبوية


عبود طلعت عطية

لا مجال في هذا الملف، ولا في غيره، لإضافة أي جديد إلى موضوع الهجرة النبوية التي يعرفها كل مسلمي العالم، والموثّقة بدقة فائقة في كل تفاصيلها المنشورة في مئات المجلدات وعلى عشرات المواقع الإلكترونية المعروفة برصانتها، حيث تطالعنا المعلومات نفسها من دون أي اختلاف على حقيقة هذا التفصيل أو ذاك. التلوّن الوحيد الذي يمكن أن يطالعنا هو في أسلوب السرد، وأحيانًا في التحليل الذي يتكامل مع غيره من دون أن يناقضه، مثل اكتفاء بعض المصادر بحصر سبب هجرة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، من مكّة إلى يثرب في الحديث عن كيد قريش وتربّصها بالمسلمين واضطهادهم. في حين أن مصادر أخرى تتوسع في قراءة هذه الهجرة بوصفها خطوة كبرى جاءت تنفيذًا لأمر إلهي، وواجبة على المسلمين، ليس لإنقاذ الرسول، صلّى الله عليه وسلم، وأنصاره فقط، بل للبدء بنشر الدعوة خارج حدود مدينة مكّة.

والواقع أن الهجرة النبوية تشكّل حالة استثنائية في التاريخ الإنساني على مستوى توثيق تفاصيلها، خلافًا لأحداث تاريخية عظمى حدثت في زمن أقرب إلينا.

فبالرغم من أن الحدث حصل في القرن السابع الميلادي، فإننا نعرف تاريخ هجرة الرسول الكريم من مكة إلى المدينة باليوم والشهر والسنة (ليلة الجمعة 27 صفر من السنة الأولى للهجرة، الموافق 13 سبتمبر 622 للميلاد)، ومن كان معه (أبو بكر الصديق، رضي الله عنه)، والطريق الذي سلكاه، والغار الذي استراحا فيه ولكَم من الوقت، ووقت الوصول إلى يثرب (12 ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة، الموافق 27 سبتمبر 622 للميلاد)، ومن كان في استقبال رسول الله، صلّى الله عليه وسلم. ونعرف أيضًا أن أبا سلمة بن عبد الأسد كان أول المهاجرين، وأن العباس بن عبدالمطلب كان آخرهم في السنة الثامنة من الهجرة، عندما كان الرسول، صلّى الله عليه وسلم، عائدًا من هجرته يستعد لفتح مكّة.

ويعود هذا التوثيق إلى أن كتّاب السيرة النبوية، التي تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي منها كتب الأحاديث، عرفوا الأهمية العظمى لحدث الهجرة على صعيد إنقاذ الدعوة والبدء بنشرها في أرجاء المعمورة. فكان الفصل الخاص بالهجرة من أهم الفصول في كتب السيرة، بدءًا من مؤرخيها الأوائل، وبعضهم كان من الصحابة مثل عبدالله بن عمرو بن العاص، والبراء بن عازب، وعبدالله بن عباس.

ولأننا هنا أمام دور الهجرة على زمن الدعوة، فلا بدَّ من ذكر هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، التي أمرهم النبي، صلى الله عليه وسلّم، بالهجرة إليها ليسلموا من بطش قريش. والهجرة إلى الحبشة كانت في الواقع هجرتين: الأولى ضمت أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، وضمَّت الأخرى ثلاثة وثمانين رجلًا وتسع عشرة امرأة. والمدهش في أمر هاتين الهجرتين أنهما موثقتان أيضًا بكل ما فيهما من تفاصيل بما في ذلك أسماء كل من ضمتاهما.

ما كان للتقويم الهجري أن يحمل هذا الاسم لولا الهجرة النبوية، ولبقي اسمه التقويم القمري المعروف في الحضارات القديمة، والذي كان معمولًا به في الجاهلية. وشيوع تسمية هذا التقويم بالهجري يعود إلى أن الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، اعتمد سنة الهجرة النبوية، لتكون الأولى في التاريخ الإسلامي.

فقد أورد الإمام البخاري في “التاريخ الصغير” عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جمع المهاجرين ليسألهم: “متى نكتب التاريخ؟” فقال عليّ، رضي الله عنه: “من يوم هاجر النبي، صلّى الله عليه وسلم”.

وأورد ابن عساكر عن الشعبي قوله: “كتب موسى إلى عمر: إنه تأتينا من قبلك كتب ليس لها تاريخ، فأرّخ. فاستشار عمر في ذلك، فقال بعضهم أرّخ لبعث رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لوفاته، فقال عمر، رضي الله عنه: لا بل نؤرّخ لمهاجره، فإن مهاجره فرّق بين الحق والباطل”. وبذلك صار التقويم الهجري معتمدًا في الدولة الإسلامية.

وبالرغم من شيوع استخدام التقويم الشمسي الغربي في العصر الحديث حتى في بعض الدول الإسلامية، تبقى مكانة التقويم الهجري راسخة ومعتمدة في كل العالم الإسلامي خلال شهر رمضان، وأشهر الحج، والأشهر الحُرُم، والأعياد، ودفع الزكاة، وما شابه ذلك.


مقالات ذات صلة

الهجرة واحدة من أكبر المؤثرات في صياغة تاريخ الإنسانية، وفي نشوء الأمم، وفي التلاقح الثقافي، وتغيير أحوال ملايين البشر. في هذا الملف، يستطلع عبود طلعت عطية بعضًا مما تنطوي عليه الهجرة.

الفرد ما إن يعقد العزم على الهجرة حتى تطغى عليه مشاعر وهواجس واهتمامات تُحيله شخصًا غير ما كان عليه، وستبقيه كذلك لبعض الوقت بعد وصوله إلى مهجره.

“أدب المهجر” أو “شعر المهجر”؛ خير تعبير عن التلاقح الثقافي الإيجابي الذي يمكن أن يتولّد عن الهجرة.


0 تعليقات على “الهجرة النبوية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *