نشرت قناة العربية مؤخراً تقريراً تلفزيونياً تحدَّث عن تطوّرات تحضير لقاح ضد فيروس الكورونا المستجد، طرح فيه مقدِّم التقرير سؤالاً للفت الانتباه، وقال: ماذا عن الإبرة؟ ليجيب إن اللقاح بحاجة إلى إبر، وصناعتها بحاجة إلى استثمار، والعالم يحتاج سبعة مليارات إبرة.
قد تكون هذه هي المرَّة الأولى التي يُذكر فيها هذا الرقم الـذي يمثِّل عدد سكان الأرض في سياق جملة خبرية تتضمَّن فعلاً مُتوقَّعاً. فالواقع يقول إن سكان العالم بعد أن أصبحوا في ما يُشبه القرية الكونية بفعل العولمة وسهولة استخدام وسائل النقل السريعة وشبكة التواصل الإلكترونية، انخفضت الأسوار الافتراضية حولهم، وباتوا أمام موجة من المشكلات المتشابهة، والحلول المتماثلة كذلك.
ومن هذا الواقع، برزت مشكلتان: أولهما العدوى السريعة للفيروسات، تلك التي يتعاظم تفشِّيها بسرعة تحرّك الأفراد وتنقّلهم بين مناطق ودول متباعدة. والأخرى مستجدّة، تتعلق بأمن الفضاء الإلكتروني، المسألة التي أصبحت تؤرِّق الجميع اليوم، ويؤكدها تقرير المخاطر العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي 2020، الذي يُشير إلى أن التهديدات الإلكترونية تتزايد بأشكال مختلفة.
وكما نرى، تتشابه هاتان المشكلتان بطبيعة مراوغة لا تُرى أو تُحس أو تُوزن، ولكنها طبيعة حاملةٌ للأذى، سواءً في وخزاتها الفيروسية أو هجماتها السيبرانية. وقد أثبت الواقع القريب أن أحد الحلول الفاعلة والسهلة للتعامل مع هاتين المعضلتين ليس في تجاهلهما أو الاحتماء منهما وراء الأسوار المحصَّنة، بل من خلال استخدام نوعين محدَّدين من النّسِيج! الأول نسيجٌ مُحَاك والآخر افتراضي.
فبينما يترقَّب الناسُ جاهزية إبرة اللقاح، انشغل العالم بإبرة الحياكة، تلك التي تنسج الأقنعة والكمامات الواقية من الرشقات الفيروسية. هذا النّسِيج بخيوطه وأليافه الطبيعية أو الاصطناعية أثبتت التجارب ودراسات عديدة كفاءته في الحماية. أما النّسِيج الافتراضي، فقد تحدَّث عنه كثيرون منذ بداية القرن الحادي والعشرين، ومن أول مَنْ وصفه بالنّسِيج تيم بيرنرز لي، عالم الكمبيوتر البريطاني، ومخترع الشبكة العالمية “الإنترنت” في كتابه الصادر عام 2000م بعنوان “نَسْج الشبكة”، حين ذكر أن نسيج الحماية المتضمِّن الشبكات والبرامج والبيانات يُعد أهم الأولويات في الأمن الإلكتروني.
يرتبط معنى النّسِيج بالمهارة والإتقان، والقوة والرّقة، وربما أن هذه من أسرار قدرته. لقد جعل سكان العالم اليوم مكبلين وطلقاء في آنٍ واحد، وباتوا وراء خيوطه أو أسلاكه ينظرون إلى صورة العالم بضبابية، كمنظرٍ بين الشفافية والغباشة. ومن الواضح أن قوة النّسِيج قد غيّرت المشاعر أيضاً: هل رأيت عيني وجه مُقنع خائف من العدوى المجهرية؟ أو عينين تحدقان بتوجس إلى شيءٍ مريب في الشاشة الرقمية؟ لقد جعل النّسِيج الحذر سيد الموقف، ولسان حاله يقول من أخذ الحذر من المحذور، قلّ تجنِّيهُ على المقدور.
وبعد التجربة الأخيرة للتعامل مع تداعيات مرض كوفيد19-، يبدو أن قوة النّسِيج قد نبهّت المجتمعات أيضاً، حين وضعتها أمام تحديات مصيرية للعمل وحياكة نسيج حمايتها أيّاً كان نوعه، صحياً أو اقتصادياً أو تقنياً. هل كان الشاعر جبران خليل جبران خبيراً استراتيجياً حينما قال: “ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر؟”. ربما. ولكنها حينما تفعل ذلك فهي تؤكد قدرتها على حماية نفسها وتحقيق اكتفائها الذاتي، فالمثل يقول: “لا تضيعُ إبرةٌ من خياط”.
مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2020
النّسِيج: قوة الأشياء الرقيقة
رئيس التحرير
مقالات ذات صلة
为阿拉伯国家最著名的文化杂志之
رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.
ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.
اترك تعليقاً