مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

المول.. هذه الظاهرة الحديثة وما لها وما عليها


عبدالله العقيبي وفريق التحرير

ظهر المركز التجاري الحديث المعروف عالميًا باسمه الإنجليزي “مول”، في منتصف القرن الماضي، وتحديدًا في عام 1956م، عند افتتاح أول مركز للتسوق في إيدينا بولاية مينيسوتا الأمريكية، من وحي أفكار المهندس المعماري فيكتور جروين، الملقّب بأبي المراكز التجارية، الذي قدم للبشرية أول تصميم معماري يمثّل صورة المول بشكله الذي نعرفه اليوم في كل مدينة من مدن العالم.

فيكتور جروين.

لكن بالعودة إلى المؤرخين، ظهرت نواة فكرة المول قبل ذلك بنحو قرن، وتحديدًا في عام 1869م، عندما أنشأ رجل الأعمال الفرنسي أريستيد بوسيكو أول مركز للتسوق في باريس، والمعروف باسم “لو بون مارشيه”. واهتم بوسيكو بشكل المركز المعماري الحديث، قبل أن يُضاف إليه ما يتعلق بقانون التسوق. فقد كانت واجهات المركز زجاجية وفي غاية الفخامة، تغطي هيكله الحديدي الضخم، حتى أصبحت علامة من علامات الإبهار البصري، وأيقونة معمارية لافتة للانتباه. والجدير بالذكر أن بوسيكو أوكل هذه المهمة إلى اثنين من أعظم مصممي المباني آنذاك، وهما: لويس شارل بوالو، وغوستاف إيفل مصمم ومبتكر برج إيفل.

فحتى آنذاك، كانت الأسواق أبسط معماريًا، تحتمي من أشعة الشمس الحارقة بظل ألواح خشبية أو أقمشة مظلات قديمة، أو ربَّما بأسقف حجرية كتلك التي تغطي الأسواق القديمة في المشرق، ويتسلل منها نور الشمس من دون أن يضيئها بالكامل. وكانت تجربة التسوق اجتماعًا قائمًا على الاحتياج، لا التسويق واستغلال ازدياد كثافة الطبقة الوسطى في المجتمع الصناعي، التي بدأت فعليًا بتغيير نمط حياتها تبعًا لتطور مستواها المادي، الذي فرض عليها محاولة التشبه بالطبقة الأرستقراطية.

رسم معماري لجروين.

وإضافة إلى المظهر المعماري الباهر، ابتكر بوسيكو نظامًا أو مفهومًا حديثًا للتسوق، لا يعتمد على المفاوضة في الأسعار كما في السابق، وهو نظام مبتكر ومبكر بالنسبة إلى ذلك الزمن. ويمكننا أن نجمل أهم عناصر هذا النظام التسويقي في الابتكارات التالية، التي تعد اليوم بديهية، ومنها:

• التنوع في التجزئة: حيث تُعرض مجموعة متنوعة من المنتجات تحت سقف واحد، وهو ما يوفر للزبائن تجربة تسوق مريحة وشاملة، وهذه إحدى أساسيات المول بمفهومه الحديث.

• تطبيق سياسة الأسعار الثابتة والموضحة بشكل علني على المنتجات للاستغناء عن التفاوض، ما جعل عملية التسوق أكثر شفافية وأسهل بالنسبة إلى الزبائن.

• عروض التخفيضات الفصلية: ابتكر بوسيكو مفهوم التخفيضات الموسمية والتخفيضات الفصلية، وهو ما جذب العملاء بشكل كبير وزاد من مبيعات المتجر.

• الخدمات المبتكرة وخدمات ما بعد البيع: ومنها التسليم إلى المنازل والاستشارات الشخصية للعملاء، وكذلك إمكانية تجربة المعروضات داخل المتجر، وإمكانية الاستبدال خلال أيام، في حال تردد الزبون في شراء المنتج. كل ذلك أسهم بشكل مبكر في جعل تجربة التسوق أكثر راحة ورفاهية، للرجال والنساء على حد سواء.

كانت تلك الابتكارات في تجربة التسوق داخل مكان واحد محورًا لتغيير مفهوم التسوق بوجه عام، وذات تأثير بارز على التجارة العالمية حتى وقتنا الحاضر.

مركز تسوق نورثلاند، تم افتتاحه عام 1954م في ولاية
ميتشغان الأمريكية (من مجموعة جروين).

لكن هذه البذرة المبكرة ذات الطابع الباريسي، على الرغم من أهميتها، لم يكن لها تأثير كبير على مفهوم التسوق العالمي الذي نعرفه اليوم. إذ لم يرصد المؤرخون تأثيرها خارج أوروبا على سبيل المثال. لكن التأثير الأكبر، الذي امتد إلى أصقاع الأرض، كان للمعماري الذي ذكرناه في بداية حديثنا، أي المهندس فيكتور جروين، الذي صمم أول مركز تجاري في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استوحى تصميمه من العناصر الجمالية في مدينته في النمسا، التي فرّ منها عام 1938م بعد الاحتلال النازي. وكان غرضه من التصميم، أن يكون كل يوم يومًا مثاليًا للتسوق. ففي يوم افتتاح مركز التسوق في ولاية مينيسوتا، كان الثلج يغطي الشوارع، ومع ذلك كان التجول بين المحال في ممرات مزينة بديكورات أنيقة أمرًا ممكنًا، والموسيقى الهادئة حفظت للمتجولين الشعور بالراحة طوال الوقت.

انتشاره عالميًا

ابتكار جروين هذا أحدث تأثيره في المجتمع الأمريكي، وما لبث أن انتشر كالنار في الهشيم. فبحلول عام 1986م، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تكتظ بنحو 25 ألف مركز تسوق. واستوحى معماريون آخرون مراكز تجارية من التصميم الذي وضعه جروين، ليُطلق على المعماري النمساوي بعد ذلك لقب “أبو المراكز التجارية”. وصنفت مجلة “كونسيومر ريبورت” ابتكار المول ضمن أفضل خمسين ابتكارًا أحدثت ثورة في حياة المستهلك.

بفضل ابتكار المول شهد نمط التسوق نقلة هائلة أثّرت في العالم كله. وصار المول عنصرًا يتكرر ظهوره في المدن الكبيرة والتجمعات الحديثة، وتتعدد أغراض ارتياده بين الأغراض التجارية والترفيهية والثقافية؛ إذ تتوفر في هذه المولات المقاهي ودور السينما والألعاب الترفيهية، وكذلك أماكن العناية بالأطفال.

الغريب أن فيكتور جروين نفسه، تراجع عن أفكاره المعمارية بخصوص المجمعات التجارية، وقال بصريح العبارة قبل وفاته في الستينيات الميلادية: “أرفض إنفاق الأموال على هذه المباني البغيضة، التي دمرت المدينة. أنت تذهب لتشتري شيئًا، ثم تجد نفسك وسط الكثير من الأشياء الأخرى، حتى تنسى ما جئت من أجله، لقد استغل الرأسماليون فكرتي، وأنا أعلن براءتي منها”.

ما كان المؤسس يبتغيه حقًا

ولكن، ما الذي كان يريده هذا المعماري من فكرة المول؟ 

بتتبع أفكار الرجل في مؤلفاته ومقالاته، نجد أنه كان يريد أن تتخلص المدينة من الآثار السلبية لتزايد أعداد السيارات، التي كان يكرهها، ويقف ضد زيادة تصنيعها الذي سيدمر البيئة. لذلك فكر في إنشاء مراكز تجمّع يستطيع الناس من خلالها ممارسة المشي والتبضع، بالإضافة إلى احتواء هذه المراكز على مرافق تثقيفية مثل المكتبات، ومرافق خدمات مثل العيادات الطبية، وجعلها صديقة للبيئة من خلال تشجيرها وإمدادها بالقنوات المائية. لكن رأس المال تنازل عن كل هذه الأفكار التي تساعد على أنسنة المدن، واكتفى من الفكرة بالطبيعة المعمارية، التي تخدم السعي إلى الربح الفوري.

غادر جروين الولايات المتحدة الأمريكية في آخر حياته إلى مسقط رأسه في النمسا، محاولًا تنفيذ مشاريعه الواعدة من دون تدخلات الفكر الرأسمالي المهووس بالربح، وحاول تنفيذ عدد من المشاريع التي تعتمد على المساحات الكبيرة الخالية تمامًا من تهديد السيارات، وآثارها السلبية على البيئة الحضرية للمدن. وهذه النظرة إلى الأسواق بدأت تتنامى في عدد كبير من مدن العالم، فأصبحت تتنافس في جعل فضاءات المدن تختلف عن سابق عهدها. فبدلًا من المجمّعات التجارية (المولات)، أصبحنا نسمع دعوات قوية تُطالب بإعادة فضاء السوق إلى سابق عهده؛ أي جعله مساحات خضراء ممتلئة بالمشاة، يزينها حسن التنظيم المعماري صديق البيئة. وتعدُّ المملكة العربية السعودية من الدول الرائدة التي تبنّت مثل هذه النظرة إلى السوق، وجعلها مبدأ من مبادئ جودة الحياة لمواطنيها في إطار رؤية السعودية 2030.

اليوم، وبسبب إمكانية التسوق عبر الإنترنت، باتت مكانة المولات مهددة بالتراجع في مدن كثيرة حول العالم، وهذا ما أعطى للشكل الأحدث منه، الذي يسمح بالتفاعل مع البيئة، فرصة كي يبرز بوصفه مظهرًا حضاريًا يمكنه أن يغير مفهوم التسوق داخل المجمّعات المغلقة؛ لتعود فكرة فيكتور جروين الأصلية للظهور مرة أخرى، ربَّما لأنها كانت فكرة مخلصة وإنسانية وبعيدة الأثر.


مقالات ذات صلة

لو شئنا أن نقتصر في تعداد مكوّنات أي مدينة أو بلدة في العالم على مكوّنين اثنين فقط، لقلنا إنهما: المسكن والسوق. فلا حياة لأي منهما من دون الآخر. ولذا، فإن تاريخ السوق، وحتى إن لم يُؤتَ على ذكره بالتفصيل، هو من ضمن تاريخ أي مدينة. وأن يتكوّن السوق بشكل أساس من مجموعة متراصة من المتاجر، […]

لكل سوق في العالم صورة مختلفة في وجدان المتسوق، حتى عند من سمع به ولم يزره سابقًا. بعضها موسوعي لاشتماله على مختلف أنواع السلع، وبعضها يغلب عليه الطابع التاريخي، وبعضها يتعالى على الطبقة الوسطى، وبعضها يتعاطف مع الطبقة التي دونها. وفيما يأتي عينة من هذه الأسواق، من دون الزعم طبعًا أنها مسح شامل لأهم أسواق […]

لمَّا كان السوق هو المكان الرحب لحراك الناس واحتكاك بعضهم ببعض، وفيه تختلط المرئيات بالمسموعات وبالروائح المختلفة، فهو الفضاء الأنسب لكتَّاب ومبدعي فن الرواية، الذين يبحثون دائمًا عن أرض خصبة تتصارع عليها شخصيات أعمالهم. وهذا واقع ماثل في كم هائل من الروايات، التي استخدمت السوق مكانًا للأحداث والوقائع الروائية.


0 تعليقات على “المول.. ما للظاهرة وما عليها”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *