لكل سوق في العالم صورة مختلفة في وجدان المتسوق، حتى عند من سمع به ولم يزره سابقًا. بعضها موسوعي لاشتماله على مختلف أنواع السلع، وبعضها يغلب عليه الطابع التاريخي، وبعضها يتعالى على الطبقة الوسطى، وبعضها يتعاطف مع الطبقة التي دونها. وفيما يأتي عينة من هذه الأسواق، من دون الزعم طبعًا أنها مسح شامل لأهم أسواق العالم.
سوق البطحاء في الرياض
تأسس هذا السوق فوق مجرى وادي البطحاء خارج بوابة الثميري، منذ أن كانت الرياض مدينة طينية مسوّرة، وكانت قوافل التجار تلتقي في هذا المكان. وغداة توحيد المملكة وتوسعها خارج الأسوار، تعزّز هذا السوق وموقعه ليصبح قلب المدينة الحديثة. ونما بسرعة نمو المدينة حتى غدا من أكبر الأسواق في الجزيرة العربية. فعلى محوره الرئيس، تصطف عشرات المراكز التجارية المؤلفة من طابقين أو ثلاثة، ويتكامل هذا المحور مع عدة شوارع فرعية شبه متخصصة لتجعل منه سوقًا موسوعيًا؛ إذ يجد المتسوق فيه ما لا يمكن إحصاؤه من السلع المتنوعة التي تشمل كل شيء من الملابس للجميع إلى الخضار المستوردة من شرق آسيا، ومن سبائك الذهب إلى السجاد العجمي، ومن جوارب الأطفال إلى الإلكترونيات. والطابع الرئيس الذي يطبع “البطحاء”، هو توجهه بشكل خاص إلى الطبقة الوسطى في المدينة.
سوق الحميدية في دمشق
هو سوق من خط مستقيم ومسقوف، بُني على مرحلتين: المرحلة الأولى كانت في عهد السلطان عبدالحميد الأول، في عام 1780م، وقد كان اسمه في تلك المرحلة “السوق الجديد”؛ لأنه بُني بديلًا لسوق الروم آنذاك. أمَّا المرحلة الثانية، فقد كانت في عام 1884م، حيث جرى تجديد السوق وتوسعته، وهو السوق الذي نعرفه اليوم. وعلى الرغم من تكامله مع متفرعات كثيرة منه وأهمها سوق البذورية، فإنه يصعب وصفه بالموسوعية؛ لأنه موسوم بطغيان المشغولات اليدوية الشامية التقليدية على معروضاته، مثل: الحلي والتحف والمفروشات والأقمشة الفاخرة. وهذا ما جعل منه مقصدًا سياحيًا ومعرضًا فنيًا يجذب إليه المتسوقين كما الفضوليين. وعن هذا السوق قال أحد الرحّالة الغربيين ذات مرة: “فيه من الأشياء الجميلة لدرجة لو أنك كنت تخبئ مالك في عظمة ساقك لكسرتها لتخرجه وتشتري به”.
سوق الذهب في دبي
تأسس عام 1940م بجوار خور دبي، وهو سوق متخصص، ويعدُّ أحد أكبر أسواق الذهب في العالم؛ إذ يحتوي على أكثر من 400 متجر لبيع الحُلي الذهبية والماسية والأحجار الكريمة، منها ما هو في متناول الطبقة الوسطى، ومنها ما يستفز خيال هذه الطبقة. وبات هذا السوق مقصدًا سياحيًا حتى لغير المشترين الذين تُدهشهم رؤية هذه الأكوام الهائلة من الذهب في مكان واحد.
السوق المصري في إسطنبول
في قلب مدينة إسطنبول القديمة، وتحديدًا في منطقة “إمينونو” في الجزء الأوروبي من المدينة يقع السوق المصري، الذي أنشئ في عهد السلطان مراد الثالث عام 1597م. وتفيد الروايات التاريخية بأنه سمِّي بالسوق المصري بسبب استيراد القهوة والتوابل من الهند وجنوب آسيا إلى مصر، ومنها إلى إسطنبول. ومن أشهر أقسامه بازار التوابل، الذي كان قد بدأ بوصفه مكانًا لبيع التوابل والكافيار والأعشاب فقط، ثم تطور مع مرور الزمن ليتضمن مجموعة متنوعة من المأكولات، مثل: المكسرات وعسل النحل والحلويات التركية والفواكه المجففة والخضراوات. وبجوار بازار التوابل، يمكن للزوار أيضًا استكشاف مجموعة مختارة من الأجبان، بالإضافة إلى لحم البقر المدخن والمجفف. يضم البازار أكثر من 100 متجر، ويعدُّ وجهة سياحية للسياح العرب والأجانب.
ساحة كونوت في نيودلهي
هي فخر العاصمة الهندية وقلبها التجاري والاقتصادي. بدأ بناؤها في عام 1929م، واكتمل عام 1933م. وأسميت في الأساس على اسم الأمير الإنجليزي أرثر دوق كونوت، وتغيّر اسمها عام 1995م ليصبح “ساحة راجيف غاندي”.
تتكوّن هذه الساحة من دائرتين متمركزتين. الدائرة الداخلية هي عبارة عن أبنية من دورين فقط، مبنية على الطراز الكولونيالي، وتحتوي في أدوارها الأرضية على متاجر، يغلب عليها الطابع الثقافي؛ إذ إن الأجنحة المختلفة فيها مخصصة لعرض أفضل المنتجات (وخاصة الحرفية منها) في كل ولاية هندية على حدة. أمَّا الدائرة الكبرى، فقد ارتفعت فيها الأبنية الزجاجية الحديثة التي تضم مقرّات الشركات الكبرى وفروع المصارف، إضافة إلى المتاجر والمراكز التجارية بمفهومها الحديث.
مع أن هذه الساحة هي سوق حقًّا، فإن غناها بمرافق الترفيه من دور سينما ومسارح وصالات عرض فنية، يضيف إليها بُعدًا ثقافيًا. إضافة إلى ما فيها من فنادق فاخرة، ومن بينها أول فندق فاخر بُني في الهند، استضاف مفاوضات بين غاندي ونهرو ومحمد علي جناح، لمناقشة انفصال باكستان عن الهند. وبسبب ارتفاع إيجارات المتاجر فيها (1650 دولارًا للمتر المربع الواحد سنويًا)، تستبعد هذه الساحة معظم التجارات الصغيرة وزهيدة الثمن.
الجادة الخامسة في نيويورك
الجادة الخامسة هو اسم أحد أشهر أسواق العالم وأكثرها تعاليًا على الطبقة المتوسطة، نظرًا لما يجتمع فيها من أفخر الماركات العالمية وأغلى السلع ثمنًا. تأسست هذه الجادة في القرن التاسع عشر بوصفها شارعًا رئيسًا للتسوق والثقافة، وشهدت حركتها التجارية أكثر من انتكاسة خلال القرن العشرين، قبل أن تتابع صعودها بدءًا من سبعينيات القرن الماضي. ليصبح إيجار المتجر فيها الأغلى في العالم، وكذلك السكن في الأدوار العليا من مبانيها. وأن تكون الجادة الخامسة مقصدًا للتسوق بالنسبة إلى المتمكنين ماليًا، فهذا لا يعني أن غيرهم مستبعد عنها. إذ تضم هذه الجادة صالات عرض فنية ومتاحف (المتروبوليتان ومتحف قصر روكفلر) ومكتبات ومطاعم ومقاهي تجعلها وجهة ثقافية أيضًا لأبناء المدينة، وفرصة للسياح لاستكشاف أبرز معلم حضري في أمريكا، والاطلاع على كل ما هو جديد ومعاصر.
شارع الريفولي في باريس
يقع في وسط العاصمة الفرنسية تمامًا، ويبلغ طوله نحو 2.15 كيلومتر، ويضم مجموعة واسعة ومتنوعة من المتاجر الفاخرة والماركات العالمية المشهورة. وعلى الرغم من أنه ليس أكبر أسواق باريس (بولفار سان جيرمان أكبر منه بطوله البالغ 3.5 كيلومترات)، فإنه يتميز عن غيره بأمرين: مكانته التاريخية؛ إذ إن نواته بوصفه سوقًا تعود إلى القرون الوسطى، ثم كان أن وسّعه نابليون الأول في القرن التاسع عشر ووحد مظهره الخارجي الجميل الذي نراه اليوم على شكل رواق مسقوف وطويل.
والأمر الثاني، هو موقعه بمحاذاة الجناح الشمالي لقصر اللوفر، أكثر المقاصد السياحية استقطابًا للسياح في العالم. كما تتفرع منه عدة طرق صغيرة هي أسواق شهيرة مثل “رو دي لا بي” الذي ينتهي بدار الأوبرا، وعلى مرمى حجر منه تقع ساحة “فاندوم”، مقر أكبر دور المجوهرات الفرنسية. كما أن طرفه الغربي ينتهي عند بداية شارع “فوبور سانت هونوريه”، حيث أشهر دور الأزياء الفرنسية وأعرق معارض الفن في باريس. ولذا، يمكن القول إنه سوق يستمد أهميته مما يحيط به بقدر ما هو موجود فيه.
السكن في السوق
الزائر للأسواق القديمة، سيلاحظ أن بعضها يتكوّن من طابقين: الطابق الأرضي عبارة عن محال تُعرض فيها البضائع المخصصة للبيع والتداول، بينما يحتوي الطابق الثاني على مساكن. وعلى الأغلب وُجدت هذه لتوفر على التجار الجهد والمال والوقت. وللسكن في السوق تاريخ عريق. إذ كانت توجد قديمًا فنادق شعبية وخانات داخل الأسواق. وقد شغلت هذه الفنادق مكانةً مهمة في العمران الاقتصادي، وكَثُرت بصفةٍ خاصة في مراكز المدينة، وحول المساجد الكبيرة، وبجوار حمامات المدن.
وغالبًا ما كانت هذه الفنادق تُسمَّى بأسماء البضائع والسلع التي تُباع فيها، وسُمّي بعضها الآخر بأسماء أصحابها أو بلد منشأ التجار الذين كانوا يترددون عليها.
وتحولت هذه الفنادق والخانات مع مرور الوقت من مجرد نُزل يقطُن به التجار أثناء عمليات البيع والشراء، إلى أسواق صاخبة يختلط فيها التجار المقيمون مع القادمين بسلعهم وبضائعهم من أماكن بعيدة، كما كانت تُعقد داخل هذه الفنادق الصفقات التجارية، فضلًا عن البيع بالمزاد.
إن ظاهرة السكن في السوق، وما صاحبها من معمار خاص، انتقلت مع الزمن إلى الأسواق الحديثة، حتى غدت المناطق السكنية المجاورة
للأسواق المركزية، مكانًا شبه مخصص لسكن أهل هذه الأسواق، من تجار وعاملين. والزائر لمنطقة البلد في مدينة جدة في المملكة، على سبيل المثال، سيلاحظ بوضوح هذه الظاهرة، فمعظم ساكني العمارات المجاورة لأسواق البلد هم من الموظفين في السوق.
تبقى الإشارة إلى أن للسكن في السوق حسناته وسيئاته. فمن حسناته الوجود بالقرب من مركز العمل ومن الموارد التي يحتاج إليها الفرد بشكل يومي، فيغني عن الاعتماد على وسائل النقل ويوفر الوقت. أمَّا أبرز سيئاته، فهي المعاناة من الضجيج والازدحام، وما قد ينبعث من بعض الأسواق من ملوثات للجو.
اقرأ المزيد في ملف السوق
اترك تعليقاً